بقلم: أ. د. بثينة شعبان
الإثنين, 16-08-2021
تحدثت الدكتورة هبة جمال الدين في أكثر من لقاء عن أن أحد الأهداف الأساسية لمسار إبراهيم الذي تتبناه الحركة الصهيونية العالمية بأنه نزع القدسية عن مقدسات شعوبنا ومسلّمات الإيمان ما يفتح الطريق أمامهم لهدم المسجد الأقصى واستبداله بالهيكل المزعوم، وربما أيضاً الاستعاضة عن مكة والمدينة بمقدسات يخترعونها هم ويحيكون حولها قصص الأهمية التاريخية والعراقة والصلة بحضارة الشعوب بحيث تتسرب إلى أذهاننا وقلوبنا وتصبح على المدى الطويل ركناً من أركان ثقافتنا. وقد ضربت الدكتورة هبة مثلاً على ذلك ما قام به أردوغان من تحويل آيه صوفيا من كنيسة إلى مسجد وما قام به البعض في الهند من تحويل جامع إلى معبد هندوسي. وهكذا وبعد تجربة هنا وأخرى هناك يصبح الأمر عادياً ويصبح انتزاع القدسية عن المقدسات التي درجت الشعوب على صيانتها واحترام حرمتها أمراً عادياً لا يوليه أحد الاهتمام ولا يتوقف ليستقرئ آثاره الثقافية والسياسية والحضارية على شعوب بعينها.
ولكنّ فكرة انتزاع القدسية لا تنطبق فقط على المساجد والكنائس والمعابد مع النوايا المبطنة لجعل هذا الانتزاع جزءاً أساسياً من تغيير ثقافي وسياسي وربما ديموغرافي وحضاري يتلاعب بتاريخ وهوية الشعوب وبهوية البلدان وحدودها وأرضها ومستقبل أجيالها، ولكنه يطال مفاهيم ربما أضيق وقد تبدو أقلّ أهمية ولكنها لا تقلّ خطورة في أثرها المباشر على ثقافة وحياة الشعوب.
فمنذ سنوات وخاصة بعد أحداث ما أسموه الربيع العربي ولكن ابتداء من عام 1973 وما تلا حرب تشرين من توقيع اتفاقيات سيناء1 وسيناء2 ومن ثم كامب دافيد بين مصر والكيان الصهيوني ووادي عربة بين الأردن والكيان الغاصب ونحن نقرأ عن شخصيات عربية تشارك في مؤتمر هرتزيليا وتلتقي بأشخاص من الكيان في الحوارات والمنتديات بحجة الدعوة إلى السلام والتفاهم وإيجاد الأرضية المشتركة، ويصبح حسب هذه المفاهيم الجديدة من يرفض رفضاً قاطعاً الجلوس مع العدو المحتل متعنتاً أو متشنجاً أو حتى مفرّطاً بفرص قد تكون مفيدة. وقد تمت تغذية هذا التوجه بسيل من الكتابات والأبحاث والمنتديات والمؤتمرات عن إجراءات بناء الثقة وعن المرونة الدبلوماسية والدبلوماسية الروحية دون أي ذكر طبعاً للحقوق أو لضرورة إنهاء الاحتلال والقمع والدمار وسرقة الأراضي وتهجير الناس الأصليين من بلاد الأجداد واستبدالهم بمستوطنين وشذاذ آفاق قدموا من كل أنحاء الأرض ليضعوا أيديهم على حقوق وثقافة ومستقبل شعب بأكمله.
وشيئاً فشيئاً بدأت هذه المفاهيم تتسرب حتى على المستويات الداخلية لإزالة الحواجز التاريخية الواضحة وغير القابلة للمساس أو لإحداث لغط بين الانتماء والخيانة وبين فداء الأرض بالدم والروح من جهة والتخلّي عنها عند أول مفرق أو مقابل أي ثمن من جهة أخرى.
وبدأت تُطرح في مجتمعاتنا أمثال تناسب هذه المخططات الخفيّة والتي تنال الثقافة والتعليم والسياسة والمجتمع؛ فدرج الاعتماد على الأمثال المناسبة لهذا التوجه: «العين ما بتقاوم مخرز وإيد واحدة لا تصفق» وإلى ما هنالك من أمثال وأقوال ومفاهيم لإثباط همم من يؤمنون أن مستقبل البلاد يعتمد عليهم وأنهم متمسكون بمبادئهم ومواقفهم حتى آخر لحظة ولو وجدوا أنفسهم وحيدين في الميدان، وإلا كيف يمكن للشهيد أن يضحي بحياته إذا كان يفكر أن تضحيته لن تحدث أثراً ولن تغيّر شيئاً في المعادلة. وتخيلوا الخطورة إذا بدأ كل واحد يفكر بهذه الطريقة بدلاً من التفكير بشرف الأرض وشرف الوطن وسمعة العائلة والإرث الذي سيتركه للأولاد والأحفاد.
ومن هذا المنظور أيضاً عملت القوى التي تسعى في هذا المسعى التدميري سواء من خلال أدوات واضحة أو أدوات مستترة في بلداننا جميعاً بالدعوة للخلاص القطري والخلاص الفردي؛ فقد ترافقت شعارات لبنان أولاً أو سورية أولاً مع عبارات أخرى أن أحداً لا يستطيع أن يبدّل ميزان القوى ولذلك فإن الأذكى هم الذين يركزون على جمع ثروات وإيداعها داخلياً أو خارجياً لهم ولأولادهم قبل أن تنهار البلدان وبذلك يضمنون خلاصهم، وأنهم قد رأوا بأم أعينهم أن من كان فاسداً قد عاش حياة رفاهية بعد مغادرته منصبه، في حين من كان حريصاً على المال العام والتزم الأسس الأخلاقية ونظافة اليد قد عاد بعد خروجه من الموقع للبحث عن سبل كريمة، ويردفون هذه القصص بالأمثلة التي يستخدمونها: «ما متت ولكن شفت يلي ماتوا».
وأمثلة العمل على تغيير المفاهيم والقيم الأخلاقية المتوارثة في مجتمعاتنا أكثر من أن تحصى وهدفها الأساسي هو انتزاع القدسية عن كل ما تعلمناه في المدارس وما تربينا عليه في بيوتنا وما تعب آباؤنا وأجدادنا وهم يزرعونه فينا عن التمسك بالأرض والأوطان وعن قدسية تراب هذه الأرض وعن السمعة الحسنة المتوارثة من جيل إلى جيل وعن أن المال والأملاك تفنى ولا تحقق الخلود لأحد لأن العمر محدود ولأن أحداً لم يتمكن من اصطحاب أرزاقه معه إلى القبر وأن العمل الصالح ومساعدة الآخرين هو الأبقى والأثمن.
وفي هذا الصدد يتناولون حتى آيات من الذكر الحكيم بشكل مجتزأ بحيث يردد الجميع حين تناقشهم بعدم جدوى تكديس الثروات بالقول: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» ولكنهم لا يكملون بأن « والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً». وأما عن حجة صعوبة الظروف فإن طريق الهلاك الذي يدسّه الأعداء هو الذي يضمن استدامة صعوبة الظروف وحلكتها إلى عقود بدلاً من سنين.
ما نحتاجه هو العودة إلى الأساسيات وإلى القيم والأخلاق التي أكدت عليها كل الديانات السماوية وأثبتت أنها خير لكل بني البشر، وأن ننفض عن ثقافتنا وتعليمنا وأجيالنا هذه المفاهيم الهدامة المستوردة والمخطط لها بحرفية وذكاء لتغيير هويتنا ولو استغرق الأمر عدة عقود قادمة ولكي يتمكنوا من تسطيح المنطقة وسلبها جوهر تاريخها وأثمن ما تمتلكه من مقدسات وأسس ضمنت استمرارها لآلاف السنين قبل أن يبسطوا سطوتهم ومفاهيمهم ومن ثم حكمهم المشين على أبنائنا وأحفادنا ومستقبل أجيالنا وبلداننا ومنطقتنا وعروبتنا.
سيرياهوم نيوز-الوطن