سعيد محمد
في ما بدا وكأنه أمر دُبّر في ليل، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تعيين ميشيل بارنييه (73 عاماً) رئيساً للوزراء. ويبدو الرئيس، وفق بيان صدر عن الإليزيه، على «قناعة» بأنه وجد الشخص الذي سيقود حكومة «تستوفي الشروط لتكون مستقرّة قدر الإمكان، وتمنح نفسها الفرصة لحشد أوسع دعم ممكن»، وأنه استدعى لهذه الغاية بارنييه، وعهد إليه بتشكيل «حكومة موحّدة تكون في خدمة البلاد». وجاء تحرّك ماكرون المفاجئ، في محاولة منه لكسر صيف طويل من الجمود السياسي في مواجهة برلمان مشتّت، لا تمتلك أيّ من القوى أغلبية فيه.وبارنييه، اليميني الديغولي المحافظ، قبِل من جهته المهمّة، ووعد بعهد جديد تكون الأولويات فيه للتعليم والأمن والسيطرة على الهجرة، ومعالجة جذور مشاعر «الغضب» و»الظلم» التي يمرّ بها الكثير من الفرنسيين «في مدننا وممتلكاتنا (الأراضي التي تحتلها فرنسا عبر البحار) وأريافنا»، على أن يتعامل مع التكليف «بتواضع وتصميم»، و»بأفعال أكثر من الأقوال». وهكذا، يحلّ بارنييه محلّ غابرييل أتال، الذي استقال في الـ16 من تموز الماضي، بعد انتخابات مبكرة دعا إليها الرئيس الفرنسي إثر الهزيمة القاسية التي تعرّض لها حزبه الليبرالي في الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، لمصلحة حزب «التجمع الوطني» (أقصى اليمين)، فيما كسر أتال الرقم القياسي في تاريخ فرنسا في البقاء على رأس حكومة تسيير أعمال لنحو شهرين.
وسارعت النخب الليبرالية الحاكمة في أوروبا إلى الترحيب بأنباء تعيين بارنييه؛ إذ قالت رئيسة المفوّضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، إنها تعرف أن الرجل يضع «مصالح أوروبا وفرنسا في قلبه»، فيما تمنّى له المستشار الألماني، أولاف شولتس، «القوة وكل النجاح في المهامّ المقبلة». وقال: «يرتبط بلدانا بطريقة خاصة للغاية: شريكان قويان في قلب أوروبا. وإنني أتطلع إلى أن تواصل حكوماتنا العمل معاً لتمتين أواصر الصداقة الفرنسية – الألمانية لمصلحة بلدينا وأوروبا». أيضاً، نقل ناطق باسم رئيس الوزراء البريطاني، تمنيات كير ستارمر لبارنييه بالتوفيق في دوره الجديد، لافتاً إلى أن «المملكة المتحدة تتمتّع بعلاقات قوية مع فرنسا، ونحن ملتزمون بالعمل بشكل تعاوني على الأولويات المشتركة من معالجة الهجرة غير الشرعية، إلى دعم أوكرانيا».
ولا شكّ في أن خبرة بارنييه في العمل كمفاوض عن بروكسل خلال محادثات خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، ستساعد فرنسا في محاولتها طمأنة المفوّضية الأوروبية والأسواق في شأن أوضاع الاقتصاد والديون والإنفاق العام. كما خدم رئيس الوزراء الجديد في العديد من الوزارات الفرنسية السابقة في ظلّ رئاسة كل من جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، بما في ذلك منصب وزير الخارجية.
لوبن: يبدو أن ميشيل بارنييه يستوفي على الأقل المعيار الأول الذي حدّدناه، أي شخص يحترم القوى السياسية المختلفة
لكن هذا المزاج الاحتفالي لم ينعكس بالضرورة على الداخل الفرنسي؛ إذ دعت «الجبهة الشعبيّة الجديدة»، وهي ائتلاف يساري فاز بأكبر عدد من المقاعد في «الجمعية الوطنية» (البرلمان)، الفرنسيين إلى التظاهر، اليوم، احتجاجاً على خطوة ماكرون، الذي رفض، من جهته، قبول ترشيح رئيس وزراء من «الجبهة» الممثَّلة بـ182 نائباً؛ فاختار بارنييه الذي ينتمي إلى «الحزب الجمهوري» (حلّ رابعاً في الانتخابات وفاز بـ47 مقعداً فقط) في تحدٍّ للعرف السائد في البلاد، علماً أن الأغلبية في البرلمان الفرنسي تحتاج إلى 289 مقعداً على الأقلّ لتتمكن من تشكيل حكومة. ووفق النظام السياسي للجمهورية الخامسة، والذي أرساه الرئيس الراحل شارل ديغول، فإنه ليس مطلوباً من البرلمان الآن الموافقة على بارنييه، فيما يمكن أحزاب المعارضة تقديم اقتراحات بحجب الثقة لإطاحة حكومته، ما يعني أن رئيس الوزراء الجديد سيحتاج إلى دعم كل الأحزاب اليمينية والليبرالية، بما في ذلك حزب «التجمع الوطني»، للاستمرار في السلطة. ولكن حجب الثقة يبدو مع ذلك أقرب إلى العبث، إذ يمكن الرئيس الفرنسي دائماً أن يعيد تكليف أيّ شخصية أخرى تحلو له من دون المرور بالبرلمان، ما سيدخل البلاد في شلل سياسي تام.
وفي هذا الجانب، ندّد زعيم حزب «فرنسا الأبية» (أقصى اليسار)، جان لوك ميلينشون، بمناورة ماكرون، واعتبرها «سرقة علنية للانتخابات من الشعب». وتعليقاً على تعيين بارنييه، قال: «لقد ألغى رئيس الجمهورية رسمياً مفعول نتيجة الانتخابات التشريعية التي دعا إليها بنفسه»، مطالباً الفرنسيين بالنزول إلى الشارع لتوضيح أن الرئيس لا يمكنه التصرّف كإمبراطور. أيضاً، حثّت النائبة عن «فرنسا الأبية»، ماتيلد بانوت، الشعب على تقديم استعراض للقوّة «ضد هذا الانقلاب غير المقبول في الديمقراطية». كما سيطرت نبرة مماثلة على تصريحات زعيم «الحزب الاشتراكي»، أوليفييه فور، الذي اعتبر تعيين بارنييه «إنكاراً للديمقراطية» من شأنه أن يُدخل الجمهورية في «أزمة نظام»، وهو ما تكرّر أيضاً على لسان زعيم «الشيوعيين الفرنسيين»، فابيان روسيل.
أما الصحف الفرنسية، فقد تحدّثت عن زعيمة «التجمع»، مارين لوبن، باعتبارها «صانعة محتملة للملوك في هذه اللعبة»، إذ يبدو أن ماكرون، وبعدما أفقدته الانتخابات الأخيرة الثقل الذي كان لتحالفه الوسطي في الجمعية الوطنية، لم يجد بدّاً من استرضاء تيار عريض يشمل أقصى اليمين، ويمين الوسط، والوسط، لمنع اليسار من الهيمنة على شؤون فرنسا الداخلية، خصوصاً أنه يخشى من أن تُسقط حكومة يسارية مجموعة التغييرات الهيكلية التي كان مرّرها رغماً عن أنف البرلمان. والمفارقة الآن، أن ماكرون يحتاج إلى رضى لوبن تحديداً لإبقاء بارنييه في منصبه، على رغم أنه هو نفسه قام بمغامرة مفاجئة في حزيران الماضي عندما حلّ البرلمان، مطمئناً إلى أن الفرنسيين لا يريدون حزبها في السلطة. وعندما تقدّم مرشحو «التجمع الوطني» في الجولة الأولى من الانتخابات، سارع ماكرون إلى التحالف مع اليسار ويمين الوسط لتشكيل جبهة جمهورية في الجولة الثانية نجحت في منع حصول «التجمع» على الأغلبية. ولكنه الآن، من أجل الاحتفاظ بقوة الحكومة إلى جانب سلطاته الرئاسية، يحاول استرضاء لوبن.
ووفقاً للرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، فإن لوبن «منحت ماكرون نوعاً من التأييد» لتعيين بارنييه. وكانت زعيمة «التجمع» أبلغت ماكرون، الثلاثاء، بأن كتلتها البرلمانية (143 نائباً) لن تقبل لا برئيس الوزراء الاشتراكي السابق برنار كازنوف رئيساً للوزراء، ولا بالوسطي كزافييه برتراند، وكلاهما كان منافساً قوياً على المنصب. لكنها غرّدت عبر موقع «إكس»، بعد تعيين بارنييه، قائلة: «يبدو أن ميشيل بارنييه يستوفي على الأقل المعيار الأول الذي حدّدناه، أي شخص يحترم القوى السياسية المختلفة وقادر على مخاطبة التجمع الوطني، الذي هو أكبر حزب منفرد في الجمعية الوطنية، وسيكون ذلك مفيداً للوصول إلى حلول وسط». وأضافت: «كما أبلغنا رئيس الجمهورية، فسنطالب رئيس الحكومة الجديد باحترام إرادة 11 مليون فرنسي صوّتوا لمصلحة التجمع». وأشار بيان صدر عن «التجمع»، أول من أمس، إلى أن الحزب لن يصوّت تلقائياً ضد بارنييه، «وسينتظر ليرى نوع البرنامج الذي سيقدّمه في أول خطاب له أمام البرلمان».
سيرياهوم نيوز١_الأخبار