د. بسام أبو عبد الله
لا يشك أي عاقل أو متابع للشأن العالمي بأن النظام الدولي يشهد مخاضاً صعباً عسيراً دموياً، للانتقال من عصر الأحادية القطبية الذي نتج عن انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وسقوط جدار برلين قبله عام 1989، واعتقاد الغرب الأنغلوساكسوني أن الفرصة الذهبية قد حانت للاستئثار بإدارة العالم وثرواته وجغرافيته، وتقديم سردية تقول بانتصار الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، أي النمط الغربي تماماً الذي كان قد بدأ يتراجع في اللحظة التي أعلن فيها انتصاره لسبب وحيد، وهو أن الغرور والغطرسة قد قتلته قبل أن يبدأ طريقه الجديد، إذ هَاجَ الأميركيون بعد ١١ أيلول ٢٠٠١، واعتقدوا أن بإمكانهم السيطرة على الشرق الأوسط، وطرق المرور المحتملة لمنافسيهم عبر السيطرة على أفغانستان، والثروات، أي الطاقة عبر السيطرة على العراق، وهو ما يعني تطويق روسيا، وقطع وصول الصين للمنطقة، لكن هذا التصور والمخطط ضُرب بسبب مقاومة بعض شعوب ودول المنطقة لمشروع الهيمنة الغربي- الأميركي الذي أتى به المحافظون الجدد، وكانوا يسمونه القرن الأميركي الذي افترض سيطرة الولايات المتحدة على القرن الحادي والعشرين.
بعد ثلاثة عقود من هذا المخطط الذي لم يكن سرياً، نستطيع القول: إنه لم ينجح كي لا نستخدم كلمة هُزم المطلقة، وإن كان الأمر كذلك على الأرض، خاصة مع بدء الإقرار من قبل الغرب بانتظار الأخبار السيئة من أوكرانيا على لسان أمين عام حلف شمال الأطلسي، وحديث البنتاغون الأميركي عن احتمالات هزيمة إسرائيل في غزة، وقبل ذلك الانسحاب الأميركي من أفغانستان، واعتراف واشنطن بعدم القدرة على التعاطي مع جبهات عديدة في آن واحد، أي أوكرانيا وتايوان وغزة وسورية واليمن والعراق… الخ، وعودة منافسي الولايات المتحدة لفرض نفسهم بقوة لا يمكن تجاهلها أبداً ونعني روسيا والصين، والنهوض في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ومن الواضح تماماً أن المشروع الصهيوني في قلب كل هذه التحولات الكبرى، لأنه عندما يبدأ المركز العالمي بالتراجع في النفوذ والإمكانات، وتتوسع المقاومة العالمية ستتراجع معه أطرافه وأدواته، وتضطر لوضع مقاربة جديدة للمستقبل خارج إطار الغطرسة والاستعلاء والتفوق، الذي قتل أصحابه قبل أن يقتل الآخرين.
أما الذين يعتقدون أو مازالوا يعتقدون أن أميركا مازالت بنفس قوتها التي كانت عليها عندما خرجت مزهوة بنصرها على الاتحاد السوفييتي، فهم واهمون، لأن أهم المجلات والمصادر العلمية الأميركية تتحدث عكس ذلك الوهم، وانظروا مثلاً إلى ما كتبه جون فانابل في «ناشيونال انترست» قبل أيام عن تراجع القوات الجوية الأميركية إذ يؤكد أنها تواجه تحدياً خطيراً يتمثل في انخفاض مكون الاحتياطي الجوي 30 بالمئة، وتراجع الجاهزية للمهام القتالية، ويشير إلى أن أي حرب مع الصين لن تستطيع القوات الجوية الأميركية توليد سوى 32 بالمئة فقط من قدرة المقاتلات والقاذفات التي كانت تولدها عام 1987، والأخطر أن الميزانيات التي يتم تخصيصها لساعات الطيران هي الأقل على الإطلاق منذ تأسيس القوات الجوية!
في بريطانيا فإن وزارة الدفاع حسب الصحف البريطانية، تعاني من عجز قدره 21.4 مليار دولار، وخاصة في ميزانية التجهيزات جراء التضخم الكبير، وهذه المشكلة لا يمكن تحملها مع تجاوزها هذه العتبة.
أما وكالة «بلومبرغ» الأميركية فتتحدث عن أسباب ارتفاع أسعار الذهب عالمياً، وتشير إلى حرب غزة، ودخول اليمن على الصراع، والخوف من توسع الحرب إلى إقليمية، وحرب أوكرانيا، والحرب الباردة بين الصين وأميركا، وتؤكد أن الطلب على الذهب خلال الربع الأخير من العام الحالي 2023 قد ازداد بشكل كبير جداً، لتلك الأسباب أعلاه، إضافة إلى التوجه العالمي للقضاء على الدولرة، الموجود لدى الكثير من دول العالم على رأسها الصين، ما يعني التسبب بأضرار للاقتصاد الأميركي.
هناك مؤشرات كثيرة عديدة، عميقة يمكن الكتابة عنها، وقد اعترف بها أحد وزراء الخارجية السابقين لإحدى الدول الأوروبية في مؤتمر مهم شاركت به في العاصمة الرومانية بوخارست في ٢٦ تشرين الأول الماضي إذ قال بالحرف: «الغريب أن نتحدث عن التعاون بين الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط، ومحيطنا مليء بالمشاكل، والاتحاد الأوروبي نفسه في أزمة: أزمة في الهوية، أزمة جيوسياسية، أزمة أمنية، أزمة لاجئين، وهكذا، ونحن في الاتحاد تاريخنا مليء بسياسة تفادي الأزمات في اللحظات الأخيرة! وأقر بأن العالم ينتقل من نظام عالمي أحادي، إلى متعدد الأقطاب، لكن الجديد لم يولد بعد، وواجبنا أن نضع أسساً له»!
من هذه الأسس التي أشار إليها: – «أن شعوب العالم تدعو لإنهاء الحروب»، وهذا كان واضحاً في حالة التضامن مع غزة.
التعاون بين القوى العظمى أساسي، وهنا لابد للغرب من التخلص من عقلية الاستعلاء والفوقية.
المعايير المزدوجة ليست الحل، وما يجري الآن تجاه غزة مجرد فوضى من دون معايير!
استخدام القوة يمكن أن يحل أي أزمة، لكن لن يحل جذور الأزمة، أي دون حل للأسباب فإن التعاطي مع النتائج فقط هو وهم!
– ليخلص للقول: إنه لا طريق نحو السلام، إنما السلام هو الطريق!
قد لا نجد لدى مسؤولين أوروبيين آخرين مثل هذه المقاربة الناضجة، وقد يكون السبب أن صديقنا خارج السلطة، وليس لديه انتخابات، لأن المسؤولين الغربيين يكذبون عندما يكونون في السلطة للمحافظة على مواقعهم، أو حينما يكون لديهم انتخابات للوصول للسلطة.
على أي حال، لأن العدوان على غزة هو العنوان الأساسي، ولأن آلام الشعب الفلسطيني وشهداءه وجرحاه بالآلاف المؤلفة، ستبقى قضية فلسطين هي الأساس لمدى عدالة أي نظام دولي جديد، فالأميركيون يعملون ليل- نهار لوضع تصور، ومخطط لما يسمونه اليوم التالي للهولوكوست الذي يرتكب في غزة، لكنهم حتى هنا مازالوا يخضعون لمنتجات الأحادية القطبية وسلوك الاستعلاء، إذ يتحدثون عن غزة من دون مقاومة، وعن سلطة جديدة وتركيبة مختلفة، وكأن الشعب الفلسطيني بعد كل تضحياته الهائلة مجرد أرقام من دون تاريخ وهوية وجذور وانتماء، ونضال طويل ضد أبشع أنواع ما أنتجته العقلية البريطانية من أشكال الاستعمار والهيمنة، وهنا يقعون مرة أخرى في الأخطاء التي ارتكبت في أفغانستان والعراق وسورية وغيرها، بسبب محاولة إنقاذ مشروعهم في فلسطين والمنطقة.
توماس فريمان، الصحفي الأميركي الشهير، والصهيوني الهوى، يبحث في مقالاته في الـ«نيويورك تايمز» عن طرق إنقاذ إسرائيل من نفسها، ويطرح تساؤلات أي إسرائيل سنؤيد! إسرائيل نتنياهو؟ التي يرى أنها انتهت الخدعة التاريخية، والسردية الغربية عن ديمقراطيتها، أم إسرائيل التي كانت تقتل الفلسطينيين والعرب، لكنها تبدل قفازات القتلة بين الليكود اليهودي وحزب العمل عبر تاريخ طويل من هذا الصراع.
إشكالية فريدمان وغيره: أنه لم يفهم بعد أن أخطر ما يواجه هذا الكيان المصطنع، هو في داخله نفسه، وأن استمراريته خلافاً للطبيعة والتاريخ والجغرافية تبدو للكثيرين غير ممكنة، مع استمرار المقاومة في المنطقة.
لهذا كله نحن أمام خيارين في ظل نظام دولي جديد:
الأول: عدم إمكانية استمرار هذا الكيان بشكله الحالي الإجرامي القاتل الفاشي في عالم جديد سيولد يوماً ما.
الثاني: البحث عن حل مقبول يحافظ على الكيان، قبل أن يموت بحكم الطبيعة، وهو حل الدولتين الذي يتبناه بالمناسبة الأميركيون والأوروبيون والصينيون والروس، لكن إبقاء القرار بيد الأميركي قد ينهي أي حل محتمل، ولذلك لابد من شركاء آخرين لإنجاز ذلك، والبداية بالخلاص ممن يتصورون وجودهم بفناء الآخر، هل هذا ممكن؟ هو سؤال مطروح علينا جميعاً، للإجابة عليه، لكن قضية فلسطين لن تبقى كما كانت ملفاً للتصفية، بل عادت لتشغل رأس الأولويات في العالم القديم منه والجديد، ولا مخرج آخر، وهنا تكمن الأزمة الوجودية للكيان وصانعيه.
كاتب سوري
سيرياهوم نيوز1-الوطن