تأتي مجموعة (ثَمَّ وَجد) السادسة للشاعرة غنوة مصطفى الصادرة عن دار أعراف بعد “واشتياقي أنت، غنوة حب، قداس الشوق، خمر الهوى، على صفيح الذاكرة”، وتضم بين دفتيها (53) قصيدة عمودية كتبت على بحور شعر الخليل، وتنوعت القصائد بين الوطنية المثقلة بهموم الوطن، والوجدانية التي تلامس الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، كما تضمنت قصائد غزلية اتسمت في أحيان كثيرة بالصوفية والرمزية.
حصان الشعر
عن هذه المجموعة، أقيم في قاعة المحافظة في طرطوس حفل توقيع بحضور عدد من الكتّاب والمهتمين، وتخللت الحفل قراءة نقدية للشاعرة أحلام غانم بينت فيها أن الشاعرة “غنوة مصطفى” تحمل ثقل المكان لتقتفي حزنها، وتعيد نبض المشاعر على قلق إنساني نبيل تجاه هذا الوطن، فهي لا تترك شيئاً للرهان أبداً، بل تحاول أن تفك وثاق الشعر لتفك به شيفرة المعاني التي ترمي إلى بثها في القارئ.
ومن قراءة اسم المجموعة تلمست غانم الاتجاه الوجداني والنفحة الروحية في مضمون معظم القصائد، ووجدت أن القصائد بشكل عام تدخل ضمن مفهوم الشعر العربي القديم الكلاسيكي، وهو شعر نمطي موزون ومقفى، فيه محافظة على الإيقاع الوزني لإضفاء الجرس الموسيقي للتناغم مع التفاعيل والبحور الصافية الأقرب للغناء..
توظيف عفوي
وفي استقرائها لعالم مصطفى الشعريّ الغنيّ، تؤكد غانم أنه لا يمكن اجتياز قصائد الوجد اجتيازاً موفقاً من دون الوقوف على العنوان بوصفه عتبة منفتحة من شأنها أن تضيء الطريق نحو دلالات النص، لندرك طرق الخطاب الشعري للمجموعة، مع العلم أن العنوان يظهر من الوهلة الأولى، شديد الارتباط بالنص المركزي، وبتفاصيل الفعل الشعري الذي يحمل في نسيجه قيمته الجوهرية، ولذلك هو رأس العتبات وعليه مدار التحليل، والعبور من خلاله، فهو أول مفتاح إجرائي به تفتح مغالق النص سيميائياً، وهو بمنزلة الموجه الرئيس للنص الشعري، وهو الذي يؤسس غواية القصيدة والسلطة في التعيين والتسمية.
وترى غانم أن التوظيف الديني في العنوان هو توظيف عفوي تلقائي، رغم أنه يتسرب بعمق متفاعلاً ومتقاطعاً في بنية قصائدها الداخلية شكلاً ومضموناً.
رموز صوفية
كما يكشف تصنيف الخطاب الشعري داخل المجموعة عن هواجس الشاعرة في كلّ حالاتها، ولعل الهاجس الأكبر هو “الأم “، التي تتخذ دلالات ضيقة ثم تتسع إلى دلالات أكبر، فالأم هي الحقيقة الوحيدة التي لا يعلوها شك، والحضن الدافئ الذي يطوقنا على امتداد وجودنا، وهي الحبل السري الذي يربطنا بذواتنا ويعطينا هويتنا الأولى.. والغوص في أعماق هذه المجموعة يقودنا إلى بعض ما فيه من رموز صوفية، من خلال المؤشرات الدالة على ذلك، وإن البحث في حقوله الدلالية قد يقود إلى فضاءات متنوّعة، ومنها الحديث عن الوقت والعمر والموت، ولن يكون الموت إلا البداية لحالة عرفانية، وللوصول إلى الحقيقة.
سحرية اللغة
وتمارس الشاعرة سحرية اللغة، من خلال بعض النصوص التي ترصد ظواهر وأحداث يومية تعريها وتفضح سلبياتها، فالشاعرة تؤمن بالتعبير عن وجع الحياة بقدر إيمانها بالتلميح تارة، والتصريح في أحايين كثيرة عما يحدث فيها، ليكون الشعر ويكون الإيقاع تجسيداً حقيقياً لموسيقا الكلام واللغة مع الخيال الرائع الذي تستمده الشاعرة من تجربتها ومخزونها الثقافي والمعرفي، وكذلك التصور الدقيق للمحسوس، الذي يعكس الحس النفسي والأفكار داخل الذات التي ينبعث منها هذا الإيقاع، وهو أمر يسعف الشاعرة في إحداث مزيد من التفريغ الانفعالي، التي تشكلت بمضامين ومعانٍ متعددة لتنتقل من الواقع السلبي إلى الفعل الإيجابي، وتدور بنا القصائد.. ويبقى السؤال دائراً حول نار القلب المشتعلة.
أنين القصب
وبرأي غانم فإن من يتصفح (ثّمَّ وَجْدٌ) يسمع أنين القصب وانتصار لغة الوجد، فترتاح النفس من لغة الآه لتتأمل وتترنم وتمرح في واحة الشعر أو في ساحة ألم، ففي الغالب لا يمكن أن يكون الشعر شعراً إلا إذا كان مدعوماً بوعي بواقع العالم ونظرة معينة للأشياء المحيطة بنا، لافتة إلى أن “ثّمَّ وَجْدٌ” هي حروف من حكايتها والمنتهى، وتراتيل من خمر الهوى، وأناشيد من خفقات القلب، تتناول وتركز على القضايا الإنسانية في بعدها الذاتي والوطني العام، فهي وجدانيات ورومانسيات الحب الشفيف والغزل الناعم، وهي نبضات روحية وجدية بنزعة صوفية.
ومن القضايا الأخرى البارزة، تعبّر الشاعرة عن علاقة بين عاشق ومعشوق، وترى وجهه في أي مكان تشاء، فهو المعرفة الكاملة، وهو الخلاص النهائي في زمن الخراب الروحي.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين