| وائل العدس
فنجان قهوة وفيروز، هكذا اعتاد السوريون أن يستقبلوا يومهم على هذا الصوت الملائكي، وأن يستيقظوا صباحاً على تغريده العذب.
فيروز التي أطفأت يوم أمس شمعتها السابعة والثمانين لم تتوقف عن مرافقة صباحاتنا بصوت نادر يمتلك كل أسباب الخلود، فقدمت نحو 800 أغنية، يحفظها مريدوها ويرددونها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي كعنوان لمواقف حياتهم وقصص حبهم بتصاعدها وانكسارها.
فيروز التي في الخفاء، هي نفسها فيروز ذات الوردة البيضاء التي تزين بها شعرها، في حين تشدو بأغان تمس القلب والروح، وفيروز التي ترتدي وشاحاً أبيض تغطي به شعرها، في حين ترنم لمريم البكر ووليدها.
وفي الوقت الذي كانت فيه الأغنية الطويلة التقليدية الشرقية الصرفة هي عنوان النجاح، كانت فيروز تقدم أغاني قصيرة المدة، فيها مزج شديد الجرأة بين الموسيقا الغربية والأنماط الشرقية الطربية والموسيقا الشعبية اللبنانية.
وقد صمت الشاعر اللبناني أنسي الحاج كثيراً قبل أن يبدأ الكتابة عنها، ولكنّه عندما كتب قال: «إن سعادتي هي ألا أعرف غير أشخاص يحبون هذا الصوت كما أحبه، وأن يزداد عددهم كل يوم، فليس مجدي فقط أنني أعيش في عصر فيروز، بل المجد كله أنني من شعبها».
البدايات
ولدت فيروز في 21 تشرين الثاني 1935، وبعد ولادتها بفترة وجيزة، انتقل وديع وزوجته ليزا البستاني من قرية جبل الأرز الواقعة في قضاء الشوف بلبنان، إلى حي زقاق البلاط في العاصمة بيروت.
كبرت ابنته شيئاً فشيئاً حتى بلغت الثانية عشرة من عمرها، وعندما لفت حسن صوتها نظر أقرانها في الحي فكّرت في المضي قدماً، فانضمت إلى الإذاعة اللبنانية لتغني في الكورس تحت قيادة موسيقي اسمه محمد فليفل.
استرعت وهي في كورس فليفل اهتمام مدير الإذاعة اللبنانية، آنذاك، حليم الرومي، وهو والد المطربة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي.
سمع حليم الفتاة الصغيرة، وتنبأ لها بمستقبل باهر في الغناء، فدعمها ومنحها عام 1950 فرصة الغناء في الإذاعة، ولحن لها عدداً من الأغنيات، ولم يرتح لاسم نهاد حداد فلقبها بـ«فيروز»، لكنه لم يكن يعرف أنه اختار اسماً سيولع به الملايين، وبعد عامين التقت بمنصور وعاصي رحباني.
قدم الأخوان رحباني «حبذا يا غروب» في بداية لتعاون طويل بين الثلاثي، شكّل تجديداً حقيقياً في الموسيقا العربية، آنذاك، بمزج بين الأنماط الغربية والألوان اللبنانية التقليدية.
عام 1955 تزوجت فيروز من عاصي، وأنجبت بعدها بعام زياد، ثم هالي، الذي أصيب بمرض وهو صغير شل حركته عام 1958، وبعدهما ليال، عام 1960، التي توفيت عام 1988، وأخيراً المخرجة ريما عام 1965.
وفي عام زواجها نفسه غنت فيروز «عتاب»، التي كتبها ولحنها الأخوان رحباني، وهي أول أغنية تسجلها في الإذاعة.
فيروز والشام
ارتبطت فيروز وصوتها ارتباطاً وثيقاً بدمشق من خلال الأغنيات الرائعة التي شدت بها عن الشام.
بدأت علاقة فيروز بدمشق عام 1953 عندما دعاها الأمير يحيى الشهابي مدير البرامج في «إذاعة دمشق» لتأتي إلى دمشق مع الرحابنة وفتحت الإذاعة السورية ذراعيها لفيروز مخصصة لها يوم الأحد من كل أسبوع لتحضر إلى دمشق مع عاصي ومنصور الرحباني وتقوم بتقديم أغنياتها عبر أثيرها وتسجيلها لمكتبتها.
في إحدى المرات قرر عاصي طرد فيروز من فرقته واستبدالها بمطربة أخرى، لكن الشهابي تدخل ووضع شرطاً لاستمرار الرحابنة في تقديم برامجهم عبر «إذاعة دمشق» هو أن تستمر فيروز معهم وهكذا كان، والذي حدث بعد ذلك بعدة أشهر زواج فيروز وعاصي.
ولم تكتف دمشق باحتضان فيروز عبر إذاعتها فقط، وإنما فتحت لها مسرح معرض دمشق الدولي لتقيم حفلاتها سنوياً على خشبته ولتقدم مسرحياتها، وتعود أولى المرات التي وقفت فيها على مسرح المعرض إلى عام 1956 خلال موسم المعرض، وقدمت في حفلتها تلك مجموعة من الموشحات والأغنيات بمرافقة فرقة الرحابنة وفرقة الدبكة الشعبية اللبنانية، وكانت تلك الحفلة بداية حضور سنوي دائم لفيروز على مسرح معرض دمشق الدولي استمر حتى عام 1977.
وقدمت في حفلتها الأولى عام 1956 مجموعة من الموشحات هي «جادك الغيث»، و«لما بدا يتثنى»، ثم مجموعة من ألحان الرحابنة مثل «يا قمر أنا وياك»، «ما في حدا لا تندهي»، واستمرت مشاركاتها مع الرحابنة في حفلات منوعة حتى عام 1962، حين بدأت بتقديم مسرحياتها ومن حفلاتها المهمة حفلة أيلول عام 1961 التي قدمت فيها أغنيتها الرائعة «سائليني يا شآم».
قدمت فيروز على مسرح معرض دمشق الدولي عشراً من مسرحياتها بين عامي 1962 و1977 وهذه المسرحيات هي «جسر القمر» 1962، و«الليل والقنديل» 1963، و«بياع الخواتم» 1964، و«هالة والملك» 1967، و«الشخص» 1968، و«صح النوم» 1971، و«ناطورة المفاتيح» 1972، و«لولو» 1974، و«ميس الريم» 1975، و«بترا 1977»، وفي الأعوام التي لم تقدم فيروز مسرحية كانت تقدم حفلات غنائية.
وكان الصيف الموعد السنوي الدائم لفيروز مع دمشق ومعرضها، وهذا ما عبرت عنه في قصيدة «يا شام عاد الصيف» من شعر وتلحين الرحابنة ويقول مطلعها:
يا شام عاد الصيف مبتهجاً
وعاد بي الجناح
صرخ الحنين إليك بي: أقلعِ
ونادتني الرياح
و«أغنية شام يا ذا السيف» التي يقول مطلعها:
شام يا ذا السيف لم يغب
يا كلام المجد في الكتب
قبلك التاريخ في ظلمة
بعدك استولى على الشهب
والمعاني نفسها حملتها قصيدة «قرأت مجدك» التي يقول مطلعها:
قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب
شآم ما المجد أنت المجد لم يغب
إذا على بردى حور تأهل بي
أحسست أعلامك اختالت على الشهب
وأغنية «خذني بعينيك» من أجمل ما غنت فيروز لدمشق ويقول مطلع هذه القصيدة:
طالت نوى وبكى
من شوقه الوتر
خذني بعينيك
واهرب أيها القمر
وفي هذه الأغنية إشارة واضحة إلى معرض دمشق الدولي ومهرجانه الفني، حيث موعد فيروز الدائم لتقديم أغنياتها الجميلة:
شآم أهلوك أحبابي وموعدنا
أواخر الصيف آن الكرم يعتصر
نعتق النغمات البيض نرشفها
يوم الأماسي لا خمر ولا سهر
أما الأغنية الوحيدة التي قدمتها فيروز للشام وليست من تلحين الرحابنة فهي قصيدة «مر بي يا واعداً وعداً» التي لحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب والقصيدة من شعر سعيد عقل ويقول مطلعها:
مرَّ بي يا واعداً وعدا
مثلما النغمة من بردى
وآخر أغنيات فيروز للشآم كانت بعد انتصارات حرب تشرين التحريرية وهي قصيدة بالغار كللت أم بالنار يا شام من نظم وتلحين الرحابنة ويقول مطلعها:
بالغار كللت أم بالنار يا شام
أنت الأميرة تعلو باسمك الهام.
هذا هو العشق المتبادل بين فيروز والشام، عشق لم تمحه الأيام ولن تعكره أمنيات الواهمين.
أغان شهيرة
تضم قائمة أغاني فيروز الأكثر شهرة رقماً يستعصي على الحصر، حيث تبدو كل أغنياتها شهيرة وبينها على سبيل المثال «جارة الوادي» الذي بات لقباً لها، و«بكتب اسمك يا حبيبي» و«سهر الليالي» و«أنا لحبيبي» و«نسم علينا الهوى» و«القدس» و«حبيتك تنسيت النوم» و«سلملي عليه» و«سألوني الناس» و«سألتك حبيبي» و«أعطني الناي وغني» و«كيفك أنت» وغيرها الكثير.
وقدمت المطربة الملقبة أيضاً بـ«جارة القمر» و«جارة القدس» 3 أفلام سينمائية هي «بياع الخواتم» إنتاج 1965 و«سفر برلك» إنتاج 1967 و«بنت الحارس» إنتاج 1968 وقدمت برنامجاً تلفزيونياً غنائياً بعنوان: «الإسوارة» عام 1963.
وكان آخر ألبومات فيروز الغنائية بعنوان «إيه في أمل» الذي صدر نهاية عام 2010 وضم 12 أغنية بينها» «قال قايل» و«الله كبير» و«إيه في أمل» و«كل ما الحكي» و«الأرض لكم» و«قصة صغيرة كتير» و«بكتب اسمهن».
فن خالد
في النهاية يبقى لنا فن فيروز الخالد وصوتها الرنان الذي سيظل يصدح في سماء الفن، وتبقى فيروز التي تردد دائماً: «أنا أقف في الحياة كتلميذة، لأتعلم أكثر من سائر الأشياء، من الطبيعة ومن الناس ومن عيون الأطفال ومن شهقات الأمهات، من الكتب وقصائد الشعر ومن الآخرين، لا أتمنى أن أهاجر من تلمذتي ومن مريلتي وضفائري، ولو فعلت ذلك لصرت عجوزاً شمطاء».
سيرياهوم نيوز3 – الوطن