وصف المؤرخ العربي ابن الطقطقي الدولة العباسية في عهد خلافة المقتدر بالله بالقول: «واعلم أن دولة المقتدر كانت دولة ذات تخليط كثير لصغر سنه، ولاستيلاء نسائه عليه، فكانت دولة دور أمورها على تدبير النساء، فخربت الدنيا في أيامه، وخلت بيوت الأموال، واختلفت الكلمة، فخُلع، ثم أُعيد، ثم قُتل».
في ذلك العهد، كان للسيدة شغب، والدة المقتدر بالله، نفوذ كبير في العصر العباسي الثاني، الذي تميز بزيادة نفوذ القادة الأتراك إلى جانب نفوذ النساء.
لم يكن ذلك حديث العهد، فقد تميز العصران العباسي الأول والثاني ببروز دور المرأة في الحياة الاجتماعية والسياسية، ففي العصر العباسي الأول برز اسم الخيزران، زوجة الخليفة المهدي ووالدة الخليفة هارون الرشيد، ومن بعدها زبيدة، زوجة هارون الرشيد وأم الخليفة محمد الأمين.
كيف سيطرت شغب على الخلافة؟
كانت شغب جارية لإحدى النساء الكبيرات في بغداد، واشتراها الخليفة العباسي المعتضد بالله أبي جعفر، وكانت رومية الأصل، وقيل تركية، وأعتقها الخليفة وتزوجها، وأنجبت له ابنه، أبا الفضل جعفر بن المعتضد، في عام 895 (282هـ).
أما عن اسمها الأصلي، فقيل غريب أو ناعم، أما شغب، فقد أُشيع أنه صفة لها لازمتها بسبب طباعها مع الناس وتهييج الشر، حتى لازمتها فأصبحت تعرف بها، ومنحت لقب السيدة بعد تولى ابنها الخلافة.
حينما تولى ابنها المقتدر بالله الخلافة في عام 295هـ، كان لم يزل في عمر الثالثة عشرة، فتمكنت شغب من فرض سيطرتها على أمور الخلافة، بعد أن وصل ابنها إلى منصب الخلافة بالاتفاق مع القادة الأتراك، الذين كانوا يريدون خليفة ضعيفًا كي يتمكنوا من السيطرة على كافة الأمور.
لم تقتصر نشاطات السيدة شغب على جانب واحد فقط، بل دخلت في كافة الأمور السياسية والاجتماعية لتصبح السيدة الأولى في الدولة العباسية خلال فترة خلافة ابنها المقتدر بالله.
شغب تستقوي بعائلتها والقهرمانات من حولها
فتحت شغب لعائلتها باب النفوذ، فشكل بعض أفرادها مراكز قوى سياسية في الدولة. فكانت خاطف، أخت شغب، تتدخل أيضًا في تعيين الوزراء، كما كان أخوها غريب أحد قادة الدولة العباسية في عهد المقتدر بالله، وكان هارون ابنه أحد المتحكمين في ترشيح الوزراء وتنصيب العمال.
أُطلق لقب السادة على المقتدر بالله وثلاث نساء من المحيطين به، وهن أمه شغب، وخالته خاطف، والسيدة دستنبويه، أم ولد المعتضد بالله وضرة شغب.
أحاطت شغب نفسها بالقهرمانات لتتمكن من إحكام سيطرتها على الحكم، كما كان لها ديوان تجالس فيه القادة والوزراء للنظر في أمور الدولة. ومن أبرز قهرماناتها أم موسى الهاشمية، وثمل، وفاطمة، وزيدان، ونظم.
والقهرمانة هي مدبرة المنزل، وكان تؤدي الرسائل عن الخليفة، ولكن نظرًا لضعف الخلفاء في العصر العباسي الثاني، فقد زاد نفوذ وسيطرة القهرمانات، فكن تتدخلن في ترشيح الوزراء وكبار العمال، وعزلهم ومحاكمتهم، حتى أن القهرمانة فاطمة كانت توقع باسم الخليفة المقتدر على مراسيم الخلافة قبل أن يوقع الوزير ويأمر بالتنفيذ.
درهم مصكوك في عهد الخليفة المقتدر بالله.
كان القهرمانات ينُبْنَ عن السيدة شغب في حضور المناسبات، وتنقل الهدايا، كما كانت القهرمانة أم موسى تنقل رسائل الخليفة والسيدة شغب إلى الوزير، وتتوسط لتعيين وزراء وعزل آخرين.
وكانت القهرمانة زيدان تشرف على دار خصصت لاعتقال الوزراء وكبار رجال الدولة، كما تمكنت القهرمانة نظم، بفضل سلطاتها ونفوذها، أن تقنع الخليفة بالتنازل عن مزرعة كبيرة كان يمتلكها إلى أبي القاسم موسى الذي كانت تعمل لديه قبل أن تلتحق بالعمل لدى السيدة شغب.
بلغت سيطرة القهرمانات أقصاها حينما زوجت القهرمانة أم موسى ابنة أخيها لأبي العباس محمد بن إسحاق بن المتوكل على الله، وهو أحد سادة بني العباس المرشحين للخلافة وذلك في عام 310هـ، وواجهتها السيدة شغب بما فعلت، واتهمتها أنها صاهرت ابن المتوكل لتجلسه في الخلافة بعد المقتدر بالله، ثم أوصت القهرمانة ثمل بمعاقبتها وأهلها بعد أن صودرت أموالهم.
شغب تعزل الوزراء وتعيد ابنها للحكم
كانت السيدة شغب تتحكم في الوزراء، فمن تغضب عليه يكون مصيره العزل، ومن أبرز الدلائل على هذا حينما عزلت الوزير المصلح علي بن عيسى، بعد أن أوغرت القهرمانة أم موسى صدر الخليفة وأمه تجاهه.
وتعود تلك الواقعة إلى أواخر عام 304هـ، حين جاءت القهرمانة أم موسى إلى الوزير لتتفق معه على بعض الإصلاحات، إلا أن الحاجب طلب منها أن تنتظر حتى يستيقظ الوزير من نومه، فغضبت وعادت، وحينما استيقظ الوزير، وعلم بالأمر، أرسل ولده وحاجبه للاعتذار، فلم تقبل القهرمانة اعتذاره، بل إنها بالغت في الأمر، وأخبرت الخليفة وأمه بأمور كذب لم تحدث، فقُبض على الوزير وعُزل من وزارته.
لم يتوقف عزل الوزراء عند ابن عيسى، فعُزل بعده الوزير أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد الخصيب، وصودرت أمواله في عام 314هـ، وطلبت شغب عزل الوزير حامد بن العباس في عام 311هـ، وتولى علي بن محمد بن الفرات من بعده وقتله، ولم يلبث أن قُتل هو الآخر في عام 312هـ بعد عزله والقبض عليه.
وقد تميز هذا العهد بانتشار ظاهرة كثرة تولية وعزل الموظفين، فقد ولي الوزارة في عهد المقتدر بالله 12 وزيرًا، وكان لكل منهم أتباعه، وقيل إنهم كانوا يقدمون الأموال للسيدة ضمانًا للبقاء في الوزارة.
تمكنت السيدة شغب من فرض سيطرتها على قادة الجيش من الأتراك، والذين كانوا بمثابة القادة الحقيقيين للبلاد في تلك الفترة. فقد كان للسيدة العديد من المناصرين والمؤيدين ممن يمكنهم تهديد حياة هؤلاء القادة.
وفي عام 296هـ، حينما بُويع عبد الله بن المعتز للخلافة بعد عزله للمقتدر بالله لصغر سنه، تمكنت شغب من إعادة الأمور إلى نصابها في الدولة.
كذلك حينما ثار عبد الله بن حمدان على الخليفة المقتدر بمساعدة بعض رجال المقتدر ذاته، وخلعوه في عام 317هـ، أحضر هو ومؤيدوه الأخ غير الشقيق للمقتدر بالله، وهو محمد بن الخليفة المعتضد والملقب بالقاهر بالله، وأرادوا أن يبايعوه خليفة.
تمكنت السيدة شغب بعد يومين فقط من إحضار الجند، وتمكنوا من حمل الخليفة والخروج به لمبايعته مرة أخرى، واستمر في خلافته إلى وفاته. وخلال اليومين، نُهبت أموال السيدة شغب، كما نهبت دار الخلافة، ولكن عندما تمكنت شغب من إعادة ابنها إلى الخلافة مرة أخرى، أكرمت القاهر بالله وأحسنت التصرف معه.
وعلى صعيد النظام القضائي في عصر الخلافة العباسية، كان هناك ديوان للمظالم قد بدأ في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، واستمر في الدولة العباسية، ولكنه تدهور في عهد السيدة شغب، حين حاولت التدخل في القضاء.
تمكنت شغب من تعيين قهرمانتها، المدعوة ثمل، صاحبة للمظالم في عام 306هـ، وأصبحت ثمل تجلس في كل جمعة مع الفقهاء والقضاة والأعيان للنظر في عرائض الشعب في محكمة المظالم، فلم يعد الجلوس فيها مقتصرًا على الوزراء، وذوي العلم والمعرفة بالأحكام والحدود، وإنما اتسع للنساء، وكانت ثمل توقع على الأوراق كذلك.
كان لتلك الخطوة الجريئة تأثير سلبي كبير، فقد عرفت ثمل بالشر والإسراف في العقوبة، ولأنها كانت أول من تجلس للمظالم، فقد استهتر العامة بالخلافة ووجدوا فيها الضغط واحتقروها.
ثراء السيدة شغب وأملاكها
اهتمت السيدة شغب بالمشاريع الاقتصادية، والعمرانية، كما كانت حريصة على جمع الثروة، وقيل إن إيراد ضياعها بلغ مليون دينار في السنة. وبلغت من الثراء ما جعلها تقدم للدولة 500 ألف دينار في عام 315هـ مساعدة لصد جيوش القرامطة عن الكوفة.
كما قيل إنها كانت تجني ثرواتها من العديد من المصادر، وقد خُصصت لها بعض الأموال من خزينة الدولة، كما كان لديها أملاك في مختلف أنحاء بغداد. وأنشأت السيدة شغب بيمارستان في بغداد في عام 306هـ أشرف عليه الطبيب سنان بن ثابت، وكانت تنفق فيه 7 آلاف دينار كل عام.
كما عرف عن شغب إسرافها، فقد كانت تشتري ثيابًا دبيقية، يوجد بين طياتها طبقة من مسك وعنبر أذيب ثم تجمد، ولم تكن ترتدي النعال أكثر من 10 أيام.
وكان لديها وقف تذهب إيراداته إلى مكة والثغور والضعفاء، ورفضت حله حتى في آخر أيامها، إلا أن القاهر بالله حله وباعه مع أملاكها، وجاء في بعض المصادر أن السيدة شغب كانت تتصدق ببعض أموالها إلى الحجيج، وعملت على تمهيد الطرق لهم.
وكانت شغب تنفق بعض أموالها على الهدايا الخاصة لعدد من البارزين في الدولة، وكذلك أفراد عائلتها.
مقتل المقتدر بالله ونهاية السيدة شغب
بالرغم من أن السيدة شغب قد تمكنت من إعادة ابنها للخلافة مرتين، الأولى في عام 296هـ، بعد استيلاء عبد الله بن المعتز على الخلافة، والثانية في عام 317هـ بعد إسناد الخلافة للقاهر بالله، إلا أنها فشلت في المرة الثالثة.
فقد حدث خلاف بين الخليفة المقتدر وحاجبه مؤنس الخادم، فهرب الخادم إلى الموصل وملكها، وجمع الجنود وعاد ليقاتل الخليفة المقتدر في عام 319هـ، وقٌتل الخليفة في القتال، وصلبت جثته، وتولى القاهر بالله الخلافة.
قبض القاهر بالله على السيدة شغب، وصادر أموالها، وأنزل بها أشد أنواع الأذى كي تفصح عن كل أملاكها وتحل جميع أوقافها، ولكنها أبت أن تحلها كما ذكرنا سابقًا، فقد كانت أوقافًا لمكة والمدينة والضعفاء، ولكن القاهر قد أحلها جميعها.
بعد أن تدهورت صحة السيدة شغب، نقلها الحاجب «علي بن يليق» إلى داره بجوار والدته وأكرم نزلها حتى ماتت في عام 320هـ بعد أن اشتد عليها تأثير ضرب وتعذيب القاهر، ودفنت في مقبرتها بالرصافة.
سيريا هوم نيوز /4/ ساسا بوست