آخر الأخبار
الرئيسية » العلوم و التكنولوجيا » حرب البيانات: كيف يستخدم الذكاء الاصطناعي لصناعة الجحيم

حرب البيانات: كيف يستخدم الذكاء الاصطناعي لصناعة الجحيم

 

عماد ياغي

 

 

في السابق، حين كنا نسمع كلمة «ذكاء»، كنا نفكر في أينشتاين، في لعبة شطرنج معقّدة، أو ربما في قطة تستطيع فتح باب الثلاجة. أمّا اليوم، حين نسمع عبارة «الذكاء الاصطناعي»، فنفكر في شيء أبرد من الثلاجة نفسها: خوارزميات تقرّر مَن يعيش ومَن يموت، أنظمة تحلّل مشاعر الشعوب كما تحلّل الطقس، وآلات تخطّط الحروب بينما نحن منشغلون بفيديوهات الطبخ والرقص على «تيك توك».

 

لم يأتِ الذكاء الاصطناعي ليحسّن حياتنا فقط. في بعض الأماكن، جاء ليختصرها. وجاء في بعض الدول – وتحديداً في أميركا والكيان الإسرائيلي – ليحوّل منطقتنا إلى حقل تجارب. فماذا لو كانت الحروب القادمة لا تُقرّرها الرغبة في التوسّع، ولا الغضب، ولا حتى النفط، بل ببساط: «توصية من نظام تحليلي»؟ ماذا لو أصبح جنرال الحرب الحقيقي مجرد كمبيوتر جالس في غرفة مكيّفة، لا ينام، لا يشعر، ولا يسأل نفسه أبداً إن كان قد قتل أحداً اليوم؟

 

في خضمّ الحروب القديمة، كان البشر يقتلون البشر باسم الدين أو الوطن أو الغنائم، لكن في الحروب الجديدة، الخوارزميات هي التي تقتل، باسم الأمن القومي والتحليل التنبّؤي، باسم خوارزميات لا تُحاسَب، ومبرمجين لا نراهم، وصمت بارد لا يعتذر. في هذه الحروب، لا تطلق الحرب من فوّهة بندقية، بل من مركز تحكّم في تل أبيب، أو من سيرفر عسكري في فيرجينيا، إذ يُقرّر الموت بلغة الأرقام والاحتمالات.

 

أميركا، التي طالما قدّمت نفسها كحارسة للديموقراطية، ليست سوى أكبر منتج ومسوّق لهذا النوع من الحروب المؤتمتة. ولعلّ المثال الأوضح على ذلك هو مشروع MAVEN، الذي أطلقته وزارة الدفاع الأميركية منذ سنوات، ويهدف إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور الجوية والتعرّف على الأهداف البشرية في ساحات الحرب، خاصة في الشرق الأوسط. البرنامج هذا، الذي رفض كثير من المهندسين في «غوغل» العمل عليه حين اكتشفوا أنه يُستخدم في تصفية أشخاص عبر طائرات بدون طيار، أثبت أنّ الإنسان لم يعد ضرورياً لاتخاذ قرار القتل. إنّ الخوارزمية التي تكتشف «سلوكاً مشبوهاً» في قرية أفغانية أو سورية قد تكون مسؤولة عن زرع قنبلة في منزل يسكنه أطفال، دون أن يضغط أحد على الزر.

 

وفي غزة، حيث المشهد يتكرّر منذ عقود، وصل الاستخدام الإسرائيلي للذكاء الاصطناعي إلى مستوى مرعب من «الإدارة المؤتمتة للموت». منذ عام 2021، كشفت تقارير صحافية عبرية ودولية عن نظام يُدعى «حَبِلْ حَسُوم» (أي الحبل الحاسم)، وهو نظام ذكاء اصطناعي طوّرته أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، يُستخدم لتحديد أهداف القصف الجوي أثناء العمليات على قطاع غزة. هذا النظام لا يعتمد على البشر في اتخاذ القرار، بل يغذَّى بمعلومات استخباراتية وصور ومكالمات واعتراضات، ثم يعطي توصية بالقصف خلال دقائق، وغالباً ما تُعتمد دون تحقّق ميداني.

 

النتيجة؟ مجازر يتمّ تبريرها بخوارزميات. عائلات تُباد بالكامل لأنّ «النظام» اعتبر أنّ في المنزل شخصاً له صلة بفصيل فلسطيني مسلّح. وليس هناك من مسؤول يُحاسب. فالمسؤول الحقيقي ليس جندياً بل كوداً برمجياً. مجازر تُحسم كما تُحسم مسألة في جدول «إكسل».

 

هل تذكر القصف الشامل الذي تعرّض له حي الرمال عام 2023؟ التقارير لاحقاً كشفت أنّ القصف استند إلى «قرار خوارزمي» مبني على مؤشرات نشاط رقمي واتصالات، وليس على معلومات استخباراتية دقيقة. هل تذكر موجة الاغتيالات المستهدفة في سوريا والعراق واليمن والتي نفّذتها طائرات أميركية؟ كثير منها تمّ بناءً على توصيات ذكاء اصطناعي تحلّل نمط تحركات «المستهدف»، وكأنك لعبة تُتابَع من الأعلى، وتُلغى حياتك بنقرة «Delete».

 

الولايات المتحدة اليوم تمتلك منصات حربية هجومية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في كل شيء: التقدير، الاغتيال، السيطرة الإعلامية، وحتى تصنيف الشعوب بناءً على قابليّتها للتمرّد أو الولاء. تقارير الـ«سي أي أيه» تعتمد اليوم على برامج «تحليل معنويات الشعوب» عبر وسائل التواصل، لتقرّر متى يكون توقيتاً مناسباً لدعم انقلاب، أو نشر فوضى ناعمة. إنها ليست حرباً تقليدية، بل حرب بيانات، Data War، تديرها واشنطن وتنفّذها إسرائيل ببراعة برمجية تخفي بشاعة الهدف: كسر إرادة الخصوم دون أن يشعروا حتى أنهم تحت الهجوم.

 

بل أكثر من ذلك، حين تتحوّل الخوارزميات إلى أداة ديبلوماسية، فإنها تقرّر أيضاً متى تُعقد مفاوضات، ومتى تُجهض. هل تذكر توقّف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين مراراً؟ كثير منها توقّف لأنّ أجهزة التحليل في واشنطن وتل أبيب قالت ببساطة: «الظروف غير مناسبة للسلام». وهل تتخيّل أنّ قراراً كهذا يُبنى أحياناً على تحليل انفعالات في وجوه القادة، أو على ارتفاع نسبة الكلمات السلبية في خطاباتهم؟ أي سلام هذا يُقرّره وجه رقمي لا يعرف شيئاً عن معنى الغفران أو وجع اللجوء؟

 

الذكاء الاصطناعي الأميركي والإسرائيلي لا يخدم الأمن، بل يخدم الهيمنة. هو الوجه الجديد للاستعمار، لا يأتي بالدبابات، بل بالخوارزميات. يريد أن يفهم شعوبنا أكثر ممّا نفهم أنفسنا، يريد أن يتنبّأ بثوراتنا قبل أن نثور، يريد أن يُشخّص أبناءنا كمتطرّفين وهم لا يزالون في المدرسة، بناءً على كلمات في منشورات، أو عبارات في دردشة.

 

في النهاية، ما تفعله أميركا وإسرائيل ليس مجرد استخدام تقنيات متقدّمة، بل تحويل الذكاء الاصطناعي إلى آلة قتل صامتة، لا تصدر صوتاً، لا يُحاسَب من يشغّلها، لكنها تزرع الموت في الظلال، في الفجر، في منازل نائمة.

 

لكن رغم كل هذا، ما يزال في الإنسان شيء لا تستطيع الآلة فهمه: الكرامة. الذكاء الاصطناعي قد يتوقّع المظاهرات، لكن لا يفهم غضب أمّ فقدت أطفالها. قد يرسم خريطة تمرّد، لكنه لا يعرف كيف يولد الإصرار داخل من فقد كل شيء، ولا يزال واقفاً. ولهذا فإنّ المعركة ليست ضد الآلة فقط، بل ضد من يحرّكها من واشنطن وتل أبيب.

 

فلا سلام يُصنع على شاشة، ولا عدالة تخرج من خوارزمية. وكل ما يبنيه الذكاء الاصطناعي الأميركي-الإسرائيلي من سيناريوهات للهيمنة، قد ينهار في لحظة إنسانية واحدة… حين يتكلّم القلب، لا الخوارزم.

 

* كاتب

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نظام تحديد المواقع “GPS”.. من يملك السيطرة على إشارات السماء؟

  سُكينة السمرة   في عالم تُدار فيه الحروب والتجارة وحتى الحياة اليومية عبر إشارات من الفضاء، أصبح نظام تحديد المواقع العالمي(GPS) وغيره من أنظمة ...