آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » حسابات سعودية.. «كوينسي» أيضاً في الميزان

حسابات سعودية.. «كوينسي» أيضاً في الميزان

| عبد المنعم علي عيسى

ارتسمت ملامح الكينونة والدور الذي يقوم به الكيان السعودي الوليد عام 1932 عبر اللقاء الذي جمع الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود مع الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت العائد من قمة «يالطا» التي جمعته جنباً إلى جنب الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، واللقاء الذي جرى في 14 من شهر شباط للعام 1945 كان قد حصل على متن الطراد «كوينسي» في البحيرات المارة وسط قناة السويس، وما تمخض عنه كان أشبه بـ«معادلة» أطلق عليها فيما بعد اسم «معادلة كوينسي» التي تقوم على تعهد الولايات المتحدة بضمان أمن المملكة السعودية وضمان استمرار عرش آل سعود في حكمها، في مقابل إبقاء «صمامات» النفط مفتوحة، وإبقاء أسعار هذا الأخير منخفضة عندما تقتضي الضرورة الأميركية ذلك، أو رفعها إذا ما اقتضت الضرورة عينها فعلاً من هذا النوع.

حافظت «معادلة كوينسي» على ثباتها برغم مرور 77 عاماً عليها، وتلك فترة مديدة شهدت الكثير من المنعطفات والأحداث التي كان يمكن لها أن تعصف بها أو تقود لإجراء تعديلات عليها، لكن ما جرى أثبت أنها صلبة بما يكفي للإبقاء عليها هكذا من دون تعديل، والشاهد هو أن قرار «حظر النفط الجزئي» الذي قامت به السعودية في أعقاب اندلاع حرب تشرين 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، لم يكن يمثل خرقاً لتلك المعادلة كما جرى تصويرها في العديد من المراجع أو حتى في المناهج الدراسية، وهو تم بقرار صادر عن واشنطن التي كانت صاحبة المصلحة الأولى فيه.

يورد محمد حسنين هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ» وقائع مشادة ساخنة حصلت بين وزير الخارجية الفرنسي ميشيل جوبير ونظيره الأميركي هنري كيسنجر في باريس عام 1974، أي عندما كانت أزمة ارتفاع أسعار النفط في أوجها، وفي تلك المشادة قال جوبير موجها كلامه لكيسنجر: «أتظنون أننا لا ندرك أنكم أنتم المستفيدون من ارتفاع أسعار الطاقة وأن الفائض منها سوف يذهب إلى خزائنكم»، فرد عليه الأخير: «أنا لا يعنيني ما تدركون وما لا تدركون، ما يعنيني هو أن تعرفوا أن مشروع «مارشال» انتهى، لقد ساعدناكم حتى إن اقتصاداتكم أضحت المنافس الأول لاقتصادنا»، والجدير ذكره هنا هو أن «مارشال» هو المشروع الذي أطلقته الولايات المتحدة لمساعدة أوروبا في أعقاب وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها عام 1945، واحتوى المشروع على بنود عدة، لكن الأهم منها هو ضمان الولايات المتحدة لحصول أوروبا على طاقة رخيصة، وبهذا المعنى كان قرار «حظر النفط» الجزئي قراراً أميركياً خالصاً.

شكلت أحداث 11 أيلول 2001 بنيويورك اختباراً قوياً للعلاقة بين الرياض وواشنطن، لكن على الرغم من أن كل المعطيات كانت تشير إلى أن الأولى تتحمل جزءاً من المسؤولية عن تلك الأحداث، وإن بشكل غير مباشر قياساً إلى معطى يقول إن 16 فرداً من المنفذين الـ19 هم من السعوديين الذين قال عنهم تقرير استخباراتي أميركي جرى الكشف عنه قبل نحو سنتين إنهم «يتبنون ثقافة معادية لقيم الغرب، وهي تدعو إلى العنف»، لكن ذلك لم يحل بين كل ذلك وبين طي المسألة «تحت الوسادة» لاعتبارات تتعلق بتشابك الاقتصادين الأميركي والسعودي بدرجة تجعل من محاولة الفكاك السريع فيما بينهما ذا تداعيات سلبية على الطرفين ولربما بدرجة أكبر على الأميركيين أنفسهم، لكن من الجائز القول: إن عام 2015 كان قد شهد تحولاً مهماً بين الطرفين، ففي مطلع هذا العام الأخير شكل وصول الملك سلمان بن عبد العزيز إلى سدة السلطة في الرياض مؤشراً لدى واشنطن مفاده أن هذه هي محطة «الأبناء» الأخيرة، ولربما كانت التقديرات تقول إن تلك المحطة لن تطول حتى تجيء محطة «الأحفاد» التي لها حساباتها المختلفة، وما زاد من الطين بلة أن الملك سرعان ما مضى نحو تنحية ولي عهده محمد بن نايف، المقرب من الاستخبارات الأميركية، وتولية ابنه محمد في ذلك المنصب، كان ذلك مؤشراً قرأته واشنطن على أن آليات السلطة في الرياض راحت تحاول التفلت تدريجياً من «القيود» التي أرستها «معادلة كوينسي»، لكن الفعل وضع أيضاً: «تحت الوسادة» مع الحصول على بعض التنازلات والإغراءات التي جاءت سخية زمن دونالد ترامب، فالأخير أعلن عام 2017 عن أنه عاد من جدة و«جيبه مملوءة بـ500 مليون دولار».

مع مجيء جو بايدن إلى البيت الأبيض مطلع عام 2021، بدا أكيداً أن ثمة منعطفاً، لا يعرف إلى أي مدى يمكن أن يصل، حاصل لا محالة على الطريق الموصل بين البلدين، بدا ذلك من خلال التعاطي المتشنج لإمكان «مصافحة» بايدن لابن سلمان قبيل أن يحصل ذلك الفعل شهر حزيران الماضي، فالبعد الأخلاقي للسياسات لا يظهر صارخاً بهذا الشكل إلا عندما تكون الافتراقات كبرى، ثم إن القادم منها قد يكون أكبر.

مارست واشنطن قبيل انعقاد قمة «أوبك بلس»، التي تضم روسيا إلى جانب دول المنظمة المعروفة، ضغوطاً هائلة على هذه الأخيرة، والأكبر منها كان على الرياض بوصفها تتربع على زعامة الدول المنتجة للنفط في العالم، إلا أن القرار جاء صادماً فقد اتخذ المجتمعون قراراً بخفض انتاجهم اليومي من النفط بمليوني برميل، في مؤشر قرأته واشنطن على أنه متعدد الأبعاد، وهو سيكون ذا تأثير مهم في الداخل الأميركي الذي سيخوض بعد نحو أسبوعين معركة انتخابات الكونغرس التي ستحدد إذا ما كان بايدن سيكمل عاميه المتبقيين «بطة عرجاء» أم «بطة متوازنة»، وكذا على مسار صراع يخوضه «الناتو» بزعامة أميركية مع خصم روسي يقول إنه لا رجوع ممكناً إلى ما قبل 24 شباط، وهو يرى في هذا التاريخ الأخير موعداً لبدء زعزعة نظام القطب الأوحد الذي ساد العالم ما بعد انهيار بناء الأجداد السوفييتي.

من دون شك يمثل التصويت السعودي للقرار الصادر عن المنظمة في فيينا 5 تشرين أول الجاري «جرأة» غير معتادة ولا متوقعة، فالرياض بدت للمرة الأولى غير مكترثة للغضب الأميركي الذي كان يحسب له ألف حساب، ثم يشير إلى أن صانع القرار السياسي في الرياض قد اتخذ قراره بالتخلي عن ماض كان وسمه الأبرز هو الاختباء وراء مظلة أمنية أميركية، الفعل الذي كان يتطلب الكثير من الأتاوات والكثير من الرشاوى من النوع الذي لا سقوف له.

رياح أوكرانيا تضرب في الرياض، ومن المؤكد أن أول التداعيات سوف تتجلى عبر تحطيم التسوية الثنائية بين البلدين، وبمعنى آخر أضحت «معادلة كوينسي» الشهيرة معرضة للسقوط بدرجة قد لا يدانيها شك.

 

سيرياهوم نيوز3 – الوطن

x

‎قد يُعجبك أيضاً

تحولاتٌ استراتيجيةٌ في الأفق

    كتب د.مختار   يمكنُ للمتابعِ بسهولةٍ أن يلحظَ حصولَ تحولين استراتيجيين فرضَتهما الحر.ب على غ.زَّ.ة. الأولُ تخبّطٌ غيرُ مسبوقٍ لدى قادةِ الك.يانِ، والثاني ...