| عبد الله بن عمارة
يُعتبر من أهم الفلاسفة الذين تركوا بصماتهم في القرن الـ20، إلى جانب إسهاماته في السياسة والعلم والأخلاق والتربية. ماذا تعرفون عن الكاتب البريطاني برتراند راسل؟
يُعَدّ برتراند راسل من كبار الفلاسفة الذين تركوا بصماتهم في الفلسفة في القرن العشرين. فهو من الآباء المؤسسين للمدرسة الفلسفية التحليلية، كما كتب في السياسة والعلم والأخلاق والتربية، مُتَّخذاً أيضاً مواقف سياسية لافتة. هنا، سنحاول التعريف بحياة هذا الفيلسوف وأهم ما ميَّز مساره الفلسفي.
تأسيس المدرسة الفلسفية التحليلية… الثورة على مثالية برادلي
وُلد برتراند أرثر ويليام راسل في 18 أيلول/سبتمبر 1872 في ويلز، في كنف عائلة أرستقراطية عريقة ذات ميول ليبرالية وإلحادية. فهو حفيد الوزير الأول جون راسل. عاش راسل طفولة حزينة، يتيماً محروماً من والديه، إذ تُوفيت والدته وهو في الثانية من عمره، ثم مات والده بعدها بسعامين. وعلى رغم أنَّ والديه تركا وصية بأن يُوضع في رعاية صديقيهما الملحدين أيضاً، إلّا أنه تربى في بيت جده.
كثيراً ما لازمت راسل أزمات نفسية في مراهقته أوصلته إلى حد التفكير في الانتحار، وكانت الرياضيات، التي عشقها مُبكراً، هي التي أنقذته من حالات الاكتئاب، كما يقول.
بدأ راسل تلقي تعليمه في البيت، فتعلَّم الرياضيات وأجاد اللغتين الفرنسية والألمانية، إلّا أن ميوله إلى الرياضيات جسَّدها عندما التحق بجامعة كامبردج سنة 1890 لدراستها، وتخرَّج منها سنة 1893، بعد أن أظهر فيها نبوغاً كبيراً. تزوج راسل 4 مرات، آخرها من إديث فينش في سنة 1952، والتي عاش معها إلى غاية وفاته في 2 شباط/فبراير 1970.
بدأ راسل مساره سنة 1896 بالكتابة في الفكرين السياسي والاجتماعي، فنشر كتاب “الديمقراطية الاجتماعية الألمانية”، ثم تعمَّق في اختصاصه في المنطق الرياضي، فكان كتاب “مبادئ الرياضيات”، الذي نشره عام 1903، وهو من أهم كتبه في هذا الحقل، ثم أتبعهما بمؤلفات في الفلسفة، منها “في التدليل” سنة 1905، وكتاب “مقالات فلسفية” سنة 1910، وهو الكتاب الذي ذاع صيته.
في وقت لاحق، كثَّف راسل التأليف، كتباً ومقالات ودراسات، متناولاً، عبر الدراسة والتحليل، مواضيع فلسفية واجتماعية متعددة، كالتعليم والأخلاق والجنس والدين وغيرها، الأمر الذي طبع مساره، فلسفياً وفكرياً.
تُعَدّ الفلسفة التحليلية أحد التيارات الفلسفية التي ترتبط ببرتراند راسل، حتى عُدَّ من آبائها المُؤَسِّسين، فلقد وُلدت من رحم الثورة التي قادها في نهاية القرن راسل، رفقةَ جورج إدوارد مور، على مثالية الفيلسوف فرنسيس برادلي، على رغم أنَّهما كانا في البداية من أتباع المثالية البرادلية(1).
كانت تلك الثورة بمثابة تأكيد “التقسيم التقليدي” الذي عرفته الفلسفة الغربية، بين فلسفة عقلية فرنسية ومثالية ألمانية وتجريبية إنكليزية، قبل أن تأتي فلسفة راسل التحليلية، للرد على الحركات الهيغلية الجديدة، والتي أثَّرت في الفلسفة الإنكليزية، بحيث اعتمد على مفهوم “الذرية المنطقية”، والذي يعني أنَّ العالم يتكوَّن من حقائق نهائية أو ذرات لا يمكن تجزيئها، وهو المفهوم المضادّ أساساً لفلسفة هيغل، التي تقول بوجود حقيقة كلية واحدة، بمعنى أن الحقيقة لا تتكوَّن إلّا على طبيعة العلاقة بين أطراف معينة(2).
التحليل، بالنسبة إلى راسل، هو التحليل المنطقي. فالمشكلة الفلسفية الحقيقية هي التي يُظهر التحليل أنَّها مشكلة منطقية، أي أنَّ مضمونها مرتبط أساساً بمدى “منطقيتها”. والمنطق هنا هو المنطق الرياضي. واتَّبع في تحليله أدوات، منها “مبدأ الاختزال”، أو “نص أوكام”(3)، والبناء المنطقي، وغيره.
الفلسفة السياسية لبرتراند راسل
ضمَّن راسل مؤلفاته ومقالاته مجموعة من الآراء والأفكار ذات الطابع السياسي، والمتعلقة بالأحداث الآنية التي عاصرها، كما بمنظومات الحكم، فتَّشَكَّل نسق فكري يمكن تسميته فلسفة راسل السياسية.
لا شك في أن الأحداث الكبرى، التي عاصرها راسل، وخصوصاً الحربين العالميتين، وأخضعها لمنهجه التحليلي، دفعته إلى تبني بعض الأفكار التي عُدَّت أساسية في فلسفته السياسية، منها نزعته الإنسانية التي جاءت من رفضه الأيديولوجيات القومية، والتي أجَّجت، في رأيه، الحروب من خلال ترسيخها مبادئ حب الذات والتماسك القومي وأحلام السيطرة.
وكذلك فعلت الأيديولوجية الماركسية من خلال تحريضها على التماسك الطبقي. ورأى راسل أن هذا التحريض على التماسك ينطلق من غريزة البقاء، التي لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة، ولا علاقة لها بتحقيق العدالة الإنسانية والسلام العالمي. من هنا، جاءت محورية فكرة الإنسانية في فكر راسل السياسي، والتي ربطها بمفاهيم رفض الحروب من خلال “أَخْلَقَة” العلاقات السياسية بين الدول، وصولاً إلى فكرة الحكومة العالمية من أجل ضمان السلام في العالم.
لم تكن فكرة الصراع الطبقي مأخذ راسل الوحيد على الماركسية، بل رفض أيضاً، بصفة قاطعة، المادية التاريخية والمادية الاشتراكية، واللتين رأى أنَّهما لا يمكن أن تحقق العدالة للإنسانية. كما أن مركزة الدولة في يد طبقة الطليعة الثورية العمالية هو ترسيخ لنظام استبدادي. لذا، أيَّد النظام الديمقراطي لأنه يضمن الحرية الشخصية للأفراد وربطها بحريتهم الاقتصادية، فكان فعلياً من دعاة الليبرالية الاقتصادية.
لم تكن الأفكار السياسية بالنسبة إلى راسل حبيسة النظرية، بل كانت مواقف اتخذها في رفض الحرب العالمية الأولى، ودفع ثمنها عندما فُصل من منصبه كأستاذ في جامعة كامبردج عام 1916، ثم دخوله السجن عام 1918، وصولاً إلى رفض الحرب الأميركية على فيتنام وتأسيس “محكمة” لمحاكمتها على جرائم الحرب التي ارتكبتها هناك، رفقةَ الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر.
برتراند راسل وفلسطين… الرسالة الأخيرة
دافع برتراند راسل في الأربعينيات عن “حق” اليهود في تأسيس “وطن” لهم في فلسطين. لكنه، في سبعينيات القرن الماضي، رفض أن تكون “الشرعية الغربية”، التي أُعطيت للكيان الصهيوني بسبب اضطهاد اليهود من ألمانيا النازية، مُبرّراً للسكوت عن جرائم هذا الكيان ضد العرب والفلسطينيين.
ونُسِب إليه قوله في مؤتمر عالمي للبرلمانيين العرب، عُقد في القاهرة بعد يومٍ واحد من وفاته في 3 شباط/فبراير 1970: “كثيراً ما يُقال لنا إنه يجب التعاطف مع إسرائيل بسبب ما عاناه اليهود في أوروبا على أيدي النازيين، إلّا أن ما تقوم به إسرائيل اليوم لا يمكن السكوت عنه. إنَّ استجلاب فظائع الماضي لتبرير فظائع الحاضر هو نفاق كبير”.
وكانت هذه العبارة ضمن رسالة قُرئت في هذه المناسبة ندَّد فيها بالاعتداءات الإسرائيلية على مصر، وكان لافتاً تشجيعه على مقاومة هذه الاعتداءات، مستحضراً عزيمة الفيتناميين الذين لم يستسلموا للولايات المتحدة، بل قاوموها، وعزيمة البريطانيين عندما تصدوا للغارات الألمانية سنة 1940.
ورفض راسل منطق الأمر الواقع الذي تفرضه “إسرائيل” من خلال التوسع بقوة السلاح، ثم الدعوة إلى المفاوضات بعد ذلك من موقع قوة، ملخّصاً مأساة الشعب الفلسطيني في عبارة من النادر أن ينطق بها مفكر غربي مهما بلغت درجة تعاطفه مع قضايانا، حينما قال إنَّ “مأساة شعب فلسطين هي أن دولة أجنبية منحت بلده لشعب آخر من أجل إنشاء دولة جديدة، وكانت النتيجة أنَّ مئات الآلاف من الأبرياء وجدوا أنفسهم بلا مأوى”.
الهوامش
(1) Eliot et la philosophie analytique, Richard Shusterman, Traduit de l’anglais par Daniel Szabo, Dans Po&sie 2007/4-1 (N° 122-123), pages 170 à 190.
(2) Bertrand Russell, Histoire de mes Idées philosophiques, traduit par G. Auclair, éd. Gallimard, 1961, pages 67.
(3) Bertrand Russell, La philosophie de l’atomisme logique, Ecrits de logiques philosophiques, Traduit de l’anglais par Jean Michel Roy P.U.F, 1989, page 70.
(4) يمكن الاطلاع على نص هذه الرسالة باللغة الإنكليزية، من خلال الموقع الإلكتروني:
سيرياهوم نيوز3 – الميادين