تقدّمٌ محدود بنحو 50 كيلومتراً مربعاً، واستعادة للسيطرة على 12 بلدة صغيرة، كانت آخرها بلدتا أندرييفكا وكليشيفكا بالقرب من باخموت على المحور الشرقي، وروبوتين الواقعة عند محور الجبهة الجنوبية في زاباروجيا. تلك هي، فقط، حصيلة «الهجوم المضادّ» الأوكراني الذي يقترب من إتمام شهره الرابع. وعلى قدر الآمال الكبرى التي علّقها عليه حلفاء كييف الغربيون، والذين خصّصوا قرابة 500 مليار دولار خلال عام ونصف عام من الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا، جاءت نتيجته مخيّبة، وهو ما اعترف به الرئيس فولوديمير زيلينسكي نفسه، حين قال إن «الهجوم المضادّ» يسير بوتيرة أبطأ ممّا كان متوقعاً، عازياً ذلك إلى التفوّق الجوي الروسي، وافتقار قواته إلى دعم جوّي مشابه.
بناءً عليه، تتّضح خلفيات سلسلة من حلقات التخبّط الأوكراني أخيراً، من قَبيل إقالة جميع الرؤساء الإقليميين لمكاتب التسجيل والتجنيد العسكري، ومن ثمّ إقالة وزير الدفاع أوليكسي ريزنيكوف، على خلفية شيوع أمر فساد وزارته سواءً في إدارة ملفّ المساعدات الغربية، أو في ملفّ التجنيد، فضلاً عن إخفاقها في قيادة المجهود الحربي وعجزها عن تحقيق إنجازات ميدانية خلال ما سمّي «هجوم الربيع». وفي السياق نفسه، صدر قرار بإقالة 6 من نواب وزير الدفاع الجديد، رستم أميروف، من بينهم هانا ماليار، والتي قيل إن إقالتها جاءت بسبب تراجعها عن إعلان سيطرة قوات بلادها على إحدى القرى شرقي البلاد، ما حدا بمحلّلين إلى التشكيك في حقيقة ما تعلنه كييف من تقدّم على الجبهات.

والواقع أن المغالاة الاستخبارية الغربية في تقدير كفاءة القوات الأوكرانية، تُعيد إلى الأذهان تقديرات مغلوطة مشابهة في حالتَي أفغانستان والعراق سابقاً. ومن هنا، يحتدم الجدل داخل المعسكر الغربي حول آفاق المضيّ في سياسة إغداق المال والسلاح على حليفته، من دون طائل يُذكر، وفي ظلّ وضع أهداف تبدو غير واقعية، من مثل استعادة المناطق التي انتزعتها روسيا من أوكرانيا حتى الآن، ومنها شبه جزيرة القرم، التي باتت تشهد تصعيداً عمليّاتياً، بحرياً وجوياً، ملحوظاً في الآونة الأخيرة، أحاق ببعض القطع البحرية المدنية والعسكرية الروسية.
وفي محاولتها الإجابة عن سؤال: «هل يتخلّى الغرب عن أوكرانيا؟»، تعتقد مجلة «فورين أفيرز» أنه يتوجب على كييف أن تستعدّ لتغيير محتمل في موقف كلّ من الولايات المتحدة وأوروبا، وخصوصاً في ظلّ تكاثر التساؤلات فيهما بشأن الدعم طويل الأمد لكييف، وذلك لأسباب تتعلّق بعدم تأييد نسبة كبيرة من الجمهور الأميركي للمشاركة المباشرة أو غير المباشرة في الحروب الخارجية، ناهيك عن تداعيات جائحة «كوفيد – 19» على اقتصادات البلدان الأوروبية، والتضخّم المرتفع الناجم عن ظروف الأزمة الأوكرانية. وترى المجلة أنه «كلّما طال الأمد، تراجَع الصراع إلى الخلفية، الأمر الذي يغذّي تصوّراً بعدم جدواه، أو على الأقلّ يعزّز الدعوات إلى إيجاد حلّ تجميلي له».

تململ أميركي

يوماً بعد يوم، يبدو الرهان على تحقّق إعجاز أوكراني في ساحة المعركة، والذي ينطلق عند كلّ منعطف من منعطفات الحرب من حصول كييف على نوع معيّن من الأسلحة، كالمدرّعات والدبابات المتطوّرة الثقيلة («ليوبارد» الألمانية و«تشالنجر» البريطانية التي حصل عليها الأوكرانيون أخيراً)، وكذلك صواريخ «أتاكمس» الأميركية بعيدة المدى، والطائرات الحربية من طراز «أف – 16»، أشبه بالهروب إلى الأمام، في سياق البحث عن ضالّة لتبرير استحالة إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا. وكتعويض عن إخفاق يتّصل في جانب منه بتعذّر إيجاد تلك الضالة، وفي جانب آخر بنقص المخزون الحربي لحلفاء أوكرانيا الدوليين وفي طليعتهم الولايات المتحدة، يمكن النظر إلى قرار إدارة جو بايدن تصدير قنابل عنقودية وذخائر يورانيوم منضب إلى كييف.
في خضمّ ذلك، جاءت زيارة زيلينسكي إلى الولايات المتحدة للمشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، قبل أن يتوجّه إلى واشنطن للقاء نظيره الأميركي، جو بايدن، في البيت الأبيض حيث استبق وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، القمّة، بإعلان البدء بتوريد دبابات «أبرامز» لحساب كييف قريباً. لكن على أبواب انتخابات رئاسية أميركية مرتقبة العام المقبل، لا يبدو واقع العلاقات الأميركية – الأوكرانية وردياً إلى هذا الحدّ، في ظلّ تجدّد الكلام على مدى الأشهر الماضية عن تباينات بين إدارة بايدن وحكومة زيلينسكي، وما يُحكى عن «امتعاض» لدى الأول من مطالب الثاني المكرَّرة والمبالغ فيها من بلدان حلف «الناتو». ولعلّ من العلامات الدالّة على اتّساع رقعة تلك التباينات، عدم شمول جدول أعمال زيلينسكي إلقاء كلمة أمام الكونغرس بمجلسيه، كما جرى خلال زيارته الماضية، والاستعاضة عنها بمخاطبة عدد من أبرز المشرّعين بصورة فردية، ضمن مساعيه لـ«شحذ» استمرار المساعدات لصالح بلاده، في وقت تشير فيه التقديرات إلى أن ميزانية حكومته للعام المقبل تعاني من عجز مالي قدره 40 مليار دولار.

يحصل ذلك بالتوازي مع انقسام سياسي متزايد في واشنطن حول برنامج المخصّصات المالية والعسكرية لكييف، والذي يثير تململاً في أوساط الحزب الجمهوري. وفي هذا الإطار، طالب النائب عن الحزب المذكور، مايكل والتز، بأن يكون دعم بلاده لأوكرانيا مشروطاً بهدف عسكري وسياسي محدّد، كأن تستعيد كييف سيادتها ضمن خطّ حدود معيّن (حدود عام 1991 أو حدود عام 2014)، داعياً إلى تشارُك الأعباء مع الحلفاء الأوروبيين بصورة متساوية، معتبراً أن استراتيجية بايدن المتمسّكة بالمضيّ في الدعم «طالما تطلّب الأمر»، تُعدّ بمثابة شعار أكثر منها استراتيجية. والواقع أن شبهات الفساد التي اعترت ملفّ المساعدات الغربية لأوكرانيا، وفّرت ذخيرة سياسية لبعض أعضاء الكونغرس الجمهوريين، لتبرير دعواتهم إلى الحدّ من تلك المساعدات، في وقت يسري فيه الحديث عمّا يشبه مهلة منحها البيت الأبيض لكييف لتحقيق تقدّم ميداني ملموس، أقصاها تشرين الثاني المقبل، علماً أن الخسائر البشرية الأوكرانية منذ بداية حزيران الماضي تقدَّر بعشرات الآلاف، وبأكثر من 150 ألف قتيل وجريح منذ مطلع الحرب.

مقارنةً مع زيارته الأولى إلى الولايات المتحدة، تأتي الزيارة الثانية لزيلينسكي مثقلةً بإخفاقات الهجوم المضادّ

ومقارنةً مع زيارته الأولى إلى الولايات المتحدة، والتي استُقبل خلالها بحفاوة، كونها أعقبت نجاح قواته في استعادة قرابة نصف الأراضي التي سيطرت عليها روسيا منذ بدء الحرب، تأتي الزيارة الثانية لزيلينسكي مثقلةً بإخفاقات الهجوم المضادّ، وعلى وقع تزايد الأصوات الرافضة لمدّ أوكرانيا ببعض أنواع الأسلحة، من مثل الطائرات المقاتلة والصواريخ بعيدة المدى، والتي تأمل من خلالها الإدارة مساعدة كييف على الضرب داخل عمق الخطوط الروسية، بما يمكن أن يسهم في تحقيق إنجاز على الأرض يُصار إلى تقديمه إلى الجمهور في «رئاسيات 2024»، من جهة، ويمهّد، من جهة أخرى، لدخول مرحلة التصوّرات الديبلوماسية التي يمكن أن تضع حدّاً للحرب. وفي ظلّ هذا الوضع، وبعدما اتّسم خطابه بالشكوى المستمرة من الحلفاء، يعتمد الزائر الأوكراني، هذه المرّة، نبرة أكثر اتّزاناً وإيجابية، مظهراً حرصاً على تقدير موقف داعمي بلاده، بالتوازي مع مناشداته المستمرّة بالحصول على المزيد من الأسلحة والذخائر.
وفي هذا الصدد، يقول المستشار السابق لزيلينسكي، إيغور نوفيكوف، إن الرئيس الأوكراني «سيسعى جاهداً إلى إبقاء ملفّ الحرب (مع روسيا) على جدول الأعمال الأميركي، وعدم السماح بإقحامه في التجاذبات السياسية الداخلية (في الولايات المتحدة)، لأنه يشكّل مسألة حياة أو موت» لبلاده، معتبراً أن تصدّر تبعات الأزمة الأوكرانية المشهد الداخلي الأميركي والأوروبي، يحتّم على كييف الانخراط في حوار مباشر مع المعارضين في تلك الدول لمسألة رفدها بالمدد المالي والتسليحي. وفي السياق نفسه، تنقل صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤول أوكراني قوله إن زيلينسكي سيبحث في خطط الحرب مع المسؤولين الأميركيين، إضافة إلى تقديم تطمينات في شأن نجاعة العمليات العسكرية لقواته، بموازاة تذكير الأميركيين بخطورة انتصار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في أوكرانيا، والتأكيد لهم أن البديل الوحيد من خوض حرب مباشرة مع روسيا، هو توفير الظروف المؤاتية لتحقيق نصر أوكراني.

انقسام أوروبي
لا تقتصر خطوط الصدع المشار إليها، على مستوى العلاقات الأوكرانية – الأميركية، بل تتعدّاها إلى علاقة زيلينسكي بحلفائه الأوروبيين. إذ بينما كشفت صحيفة «فاينانشال تايمز» عن خلافات عميقة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي حول الميزانية، ومنها بنود مالية تتعلّق بدعم «الشقيقة الأوروبية» الطامحة إلى عضوية التكتّل، تشهد دول أوروبية، كسلوفاكيا التي تستعدّ لإجراء انتخابات برلمانية خلال أيام قليلة، صعود موجة شعبوية مناهضة للولايات المتحدة وحلف «الناتو». كذلك، استوقف مراقبين ما جاء على لسان رئيس الوزراء البولندي، ماتيوش مورافيتسكي، من أن بلاده ستُوقف تزويد أوكرانيا بالأسلحة، بداعي حاجتها إلى تسليح نفسها أولاً. أيضاً، عمدت بولندا إلى استدعاء السفير الأوكراني لديها للاحتجاج على ما ضمّنه الرئيس الأوكراني في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، من عبارات انتقد فيها سياسات وارسو بصورة ضمنية، بحديثه عن «دول معيّنة تتظاهر بالتضامن (مع أوكرانيا) بينما تدعم روسيا بشكل غير مباشر». وفي وقت سابق، هاجم رئيس وزراء ليتوانيا حكومة زيلينسكي، معتبراً أن بطء توريد الأسلحة إليها يرجع إلى فساد نخبتها السياسية والعسكرية.
وتَحضر في هذا السياق أيضاً، عودة برلين إلى نهجها المتذبذب، والناقد في بعض الأحيان، تجاه حكومة زيلينسكي، توازياً مع اندلاع احتجاجات شعبية في الداخل الألماني على إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا. ومن بين الشواهد على ذلك، الاستلام المتأخّر من جانب القوات الأوكرانية لعدد من دبابات «ليوبارد 1»، كانت ألمانيا، إلى جانب دول أوروبية أخرى قد تعهّدت بتوريدها مطلع العام الجاري، علماً أن الدفعة الأولى من تلك الدبّابات، والتي تمّ تسليمها في تموز الفائت، شكت أوكرانيا من وجود عيوب فنّية خطيرة فيها. ويضاف إلى ما تَقدّم، ما جاء في تقرير سرّي للجيش الألماني، كشفت عنه صحيفة «بيلد» المحلّية في تموز الفائت، من انتقادات حادّة لأداء القوات الأوكرانية، وما سمّاه «أوجه القصور في القيادة»، ومن ضمنها تفضيل الاستعانة بجنود من ذوي الخبرة القتالية على حساب أولئك الذين تلقّوا تدريبات في معسكرات «الناتو».

ولم يقتصر هذا الانتقاد العلني اللاذع لزيلينسكي وأركان قيادته العسكرية على ألمانيا، بل وصلت عدواه قبل نحو شهرَين إلى بريطانيا، التي تُعدّ أحد أشدّ المتحمسين لرفد أوكرانيا بمختلف أشكال الدعم. إذ أعرب وزير دفاعها السابق، بن والاس، عن انزعاجه من التذمّر المستمرّ الذي تبديه كييف، منبّهاً إلى أن بلاده «ليست متجر أمازون» لتوريد الأسلحة، قبل أن يعود ويقول إن على أوكرانيا إظهار المزيد من مشاعر الامتنان لحلفائها الغربيين، لكسب معركتها في وجه المشكّكين في جدوى حربها، وهو ما كان ذهب إليه أيضاً مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، في قمّة «الناتو» الأخيرة في ليتوانيا.
ولعلّ كلّ تلك التباينات تفسّر اضطرار كييف، نزولاً عند ضغوط الحلفاء، وعقب اجتماعات بين جنرالات من الجيش الأوكراني وقادة جيوش «الناتو»، إلى إحداث تغيير في الاستراتيجية العسكرية، وتحويل تركيزها عن جبهات الشرق، على تخوم باخموت، في اتّجاه جبهات الجنوب، وتحديداً نحو مدينتَي توكماك وميليتوبول، واعتمادهما كمحور رئيس للعمليات الرامية إلى إحداث اختراق في الخطوط الدفاعية للروس. وبينما أعلنت القوات الأوكرانية تمكّنها من إحداث ثغرات في الخطّ الدفاعي الأول، عند بلدة رابوتين، التي تبعد مسافة 15 ميلاً عن توكماك، و45 ميلاً عن ميليتوبول، أفادت تقارير غربية بأن ما أنجزته كييف في البلدة المذكورة، جاء بتكلفة باهظة تكبّدها «اللواء 47 ميكانيكي» التابع لقوات النخبة، المولج بقيادة الهجوم الرئيس على محور زاباروجيا، والذي جرى تدريب عناصره في ألمانيا، وتسليحه بدبابات «ليوبارد» الألمانية ومدرعات «برادلي» الأميركية. في المقابل، تحاول روسيا استغلال انهماك القوات الأوكرانية بجبهات الجنوب، لتعزيز تقدّمها شرقاً، وهو ما تَحقّق أخيراً على محور كوبيانسك في مقاطعة خاركيف، وسط تصعيد موسكو استهداف مصانع الأسلحة والمرافئ التابعة لكييف، وبخاصة تلك الواقعة على مجرى نهر الدانوب.