شفيق طبارة
كان هناك بابا شغوف بالفنّ والمسرح، هو يوحنا بولس الثاني (1920 – 2005)، الذي كان في شبابه عضواً في مسرح سرّي يُدعى «مسرح رابسوديك»، خلال الاحتلال النازي لبولندا. كتب ثلاث مسرحيات، حُولت اثنتان منهما إلى أفلام هما: «متجر المجوهرات» (1988 ــــThe Jewelry’s Shop) و«أخونا في الله» (1997 ـــOur God’s Brother).
فرنسيس محبوب السينما
كان هناك بابا محبوب في السينما والتلفزيون، هو البابا فرنسيس (1936 – 2025). كان من أشدّ المعجبين بالسينما، إذ آمن بقدرتها على «إيقاظ الدهشة». فيلمه المفضل هو «الطريق» (1954ـــــ La Strada) للإيطالي الكبير فيدريكو فيلليني. كما كان بشخصيته الحقيقية وطبيعته المتواضعة، أول بابا للكنيسة الكاثوليكية يمثّل في فيلم روائي طويل بعنوان «ما وراء الشمس» (2017 ـــــ Beyond The Sun). كما ظهر في وثائقيَّين مهمَّين من توقيع كبار المخرجين: الأول هو «البابا فرنسيس: رجلٌ يفي بكلمته» (2018ـــــPope Francis: A Man of His Word) للألماني فيم فندرز، والثاني «في رحلة» (2022 ــــIn Viaggio) لجيافرانكو روسّي.
من منع الأفلام إلى تشجيعها
للباباوية والسينما جذور عميقة، لاون الثالث عشر هو أول بابا يُصوّر في فيلم عام 1896، كما صوّر خليفته بيوس العاشر عام 1907 (الشريطان القصيران متوافران على يوتيوب). مع العلم أن بيوس العاشر رفض الأفلام ومنع عرضها في الكنائس عام 1909. كما أصدر كلّ من بيوس الحادي عشر وبيوس الثاني عشر منشورات باباوية حول مسؤوليات صانعي الأفلام، وكان لها أثر بالغ في هوليوود عبر «الفيلق الكاثوليكي للآداب».
من فيلم The Agony and the Ecstasy عام 1965
من فيلم The Agony and the Ecstasy عام 1965
مع مرور الزمن، تغيّرت نظرة الكنيسة للسينما. في لقاء حديث في الفاتيكان، استقبل البابا لاون الرابع عشر ممثلين ومخرجين وكتّاب سيناريو، وحثّهم على أن يكونوا «شهوداً للأمل والجمال والحقيقة». وأكّد أن السينما هي «ملتقى الرغبات والذكريات والأسئلة» كما إنّها «القلب النابض لمجتمعاتنا» وحثهم على ألا يخشوا مواجهة العالم اليوم لأن «السينما الجيدة لا تستغل الألم، بل تعترف به وتستكشفه».
البابا مادة خصبة للفن السابع
دائماً ما شكّلت صورة البابا، بصفته رأس الكنيسة الكاثوليكية وزعيماً روحياً لملايين المؤمنين، مادةً خصبة للسينما. هو ليس مجرد شخصية دينية، بل رمز تتقاطع فيه السلطة الدينية والأخلاقية والسياسية والرمزية. وقد أعادت الأفلام عبر العقود رسم ملامحه من زوايا متباينة: مرة كقائد سياسي، ومرة كشاهد على التاريخ، وأحياناً كإنسان هشّ يواجه ضعفه، بل وحتى كموضوع للسخرية.
من هنا تبرز أهمية تتبّع كيف صوّرت السينما الباباوات، سواء التاريخيين أو المتخيلين أو الرمزيين، فهو شخصية تُعدّ واحدة من أكثر الشخصيات شهرةً في جميع أنحاء العالم، بعض النظر عن عقيدة المخرج أو القارئ أو المشاهد أو خلفيته الروحية.
مايكل أنجلو والبابا المحارب… صراع على سقف «سيستين»
من بين الأعمال السينمائية الواسعة للمخرج البريطاني كارول ريد، التي تضم أعمالاً بارزة في تاريخ السينما، يبرز فيلم «الألم والنشوة» (1965ــــThe Agony and the Ecstasy). في هذا العمل، يستكشف ريد حياة مايكل أنجيلو بوناروتي خلال الفترة التي كان يرسم فيها داخل كنيسة «سيستينا»، وهي أكبر كنيسة في القصر الباباوي الذي يعدّ المقر الرسمي للبابا في مدينة الفاتيكان.
يُعيد الفيلم إحدى أكثر اللحظات تألقاً في تاريخ الفنّ، عندما كلف البابا يوليوس الثاني (ريكس هاريسون) المعروف باسم «البابا المحارب»، الذي كان أيضاً راعياً مهماً للفنون، مايكل أنجلو برسم سقف الكنيسة. يصوّر ريد الفيلم بأكمله على أنّه تصادم مباشر بين شخصين عظيمين، ذاتين وقوتين تحبّان وتكرهان بعضهما في آن واحد. الفيلم مهيب وحميمي في تصوير العلاقة المتوترة بين هاتين الشخصيتين.
أسطورة المرأة على العرش البابوي
فيلم «بابا جوان» (1972 ــــ Pope Joan) مثير للدهشة لأكثر من سبب. موضوعه وحده يكفي لإشعال الفضول: امرأة في القرن التاسع عشر تتنكّر كرجل لتجلس على الكرسي البابوي.
أسطورة أم حقيقة؟ لا أحد يملك الجواب القاطع. لكن المخرج الإنكليزي مايكل أندرسون (مخرج فيلم «متجر المجوهرات») يختار أن يعيد سرد هذه الحكاية المثيرة. بين حدود الواقع وظلال الأسطورة، يُقدّم أندرسون عملاً غامضاً ومنسياً إلى حدّ ما، رغم أنه يستحق مكانة أوضح في الذاكرة السينمائية. يضم الفيلم طاقماً لامعاً: ليف أولمان في دون جوان، وفرانكو نيرو في دور الإمبراطور لويس.
زوربا البابا بين السياسة واللاهوت
قبل «بابا جوان»، قدّم أندرسون فيلماً خيالياً مثيراً دينياً وسياسياً، تدور أحداثه في المستقبل القريب من ثمانينيات القرن الماضي، ويروي قصة رئيس أساقفة أوكراني متواضع ومؤمن، هو كيرل لاكوتا (أنتوني كوين)، الذي يُطلق سراحه من سجن سيبيري بعد عشرين عاماً كسجين سياسي بموجب صفقة سرّية بين الفاتيكان ورئيس وزراء الحكومة السوفياتية.
ما يقدمه «الباباوان»
هو مواجهة بين قائدين
للكنيسة الكاثوليكية
عندما يموت البابا، يروّج مقربون من لاكوتا للبابوية. يُبالغ «أحذية الصيّاد» (1968ـــــThe Shoes of the Fisherman) في تصويره الفخامة التي تتجلى في اختيار البابا، مع أنّ مشاهده ممتعة وإن مريبة. عندما يُنتخب لاكوتا بابا جديداً، وهو أول بابا من دولة شيوعية، يقدّم خطة مبتكرةً لإنفاق ثروة الكنيسة الطائلة لمنع حرب نووية ووقف المجاعة في الصين الحمراء. «أحذية الصيّاد» فيلم غريب، قد يكون غير مقنع، ولكنّه شيّق في مكان ما. أُطلق على الفيلم لقب «زوربا البابا» كنكتة.
هروب البابا بين الكآبة والكوميديا
لم يكن غريباً أن يقدم المخرج الإيطالي نانّي موريتّي فيلماً عن البابا، لكن طبعاً بطريقته الخاصة. في فيلمه «لدينا بابا» (2011ــــــ Habemus Papam)، يقدّم بابا جديداً (ميشال بيكولي في أداء استثنائي يصعب تخيّل الدور بغيره)، ما إن يُنتخب حتى يتبين عجزه عن اتخاذ الخطوة المصيرية.
من «البابا الشاب»
من «البابا الشاب»
في لحظة هروب، يتجوّل البابا في شوارع روما، ليجد نفسه وسط فرقة مسرحية تستعد لتقديم «النورس» لتشيخوف، وهناك يستعيد شغفه القديم بالكوميديا. في المقابل، يظهر المحلّل النفسي (نانّي موريتّي) المستدعى لإنقاذ البابا من اكتئابه، ليجسّد الفيلم توازناً نادراً بين وجهي موريتّي الإبداعيين: الكآبة الميتافيزيقية وانفجار الكوميديا، البحث عن إعادة سحر الوجود، ومواجهة صعوبة المسؤولية الفردية داخل الجماعة. النتيجة عملٌ مقلق بقدر ما هو مؤثر، حنون بقدر ما هو ساخر، من دون أن يفقد فكاهته.
مواجهة بين التقليد والإصلاح
قبل ستّ سنوات، فاجأ البابا بنديكتوس السادس عشر الفاتيكان والعالم بقرار الاستقالة من السدة البابوية، ليصبح أول بابا متقاعد على قيد الحياة منذ القرن الخامس عشر. أعقبت ذلك انتخاب الكاردينالات الـ120 المخوّلين الاقتراع لرئيس أساقفة بوينس آيرس، خورخي ماريو بيرغوليو، الذي عُرف لاحقاً باسم البابا فرنسيس. شخصيتان متباينتان تماماً، سواء في الطبع أو في الرؤية اللاهوتية، شكّلتا الشرارة التي ألهمت المخرج البرازيلي فرناندو ميريليس في فيلمه «الباباوان» (2019 ـــــThe Two Popes ـــ متوافر على نتفليكس).
يستكشف الفيلم وضعاً غير مسبوق: تعايش بابا متقاعد مع آخر حاكم، في علاقة آسرة تتأرجح بين التوتر والبحث عن التفاهم. يتبنى «الباباوان» قالب الفيلم الجماهيري، حيث تُصاغ عناصره لتترك المشاهد في مزاج مريح أكثر من تقديم قراءة معمّقة للحظة مفصلية في تاريخ المسيحية. وفي جوهره، يعيد الفيلم طرح الصدام الأبدي بين رؤيتين دينيتين: المحافظة الصارمة التي يمثلها بنديكتوس، والانفتاح الإصلاحي الذي يجسده فرنسيس. ما يقدمه «الباباوان» هو سلسلة من الحوارات الطويلة بين الرجلين، مواجهة بين قائدين للكنيسة الكاثوليكية، خصمين محكوم عليهما بالبحث عن أرضية مشتركة، من أجل مستقبل ملايين المؤمنين حول العالم.
لعبة السلطة خلف أبواب «سيستين»
يصعب تخيّل طقس أكثر رتابة من المجمع البابوي، حيث يُنتخب بابا الكنيسة الكاثوليكية الجديد عبر اقتراع الكرادلة المعزولين داخل الفاتيكان حتى التوصل إلى قرار.
لحظة الإعلان تتجسّد في خروج الدخان الأبيض من مدخنة كنيسة «سيستين»، بعد أيام وربما أسابيع من الدخان الأسود الذي يرمز إلى فشل التصويت في بلوغ النصاب. لكن في عام 2016، حوّل الكاتب البريطاني روبرت هاريس هذه الطقوس الجامدة إلى مادة روائية مشوّقة في كتابه «المجمّع»، الذي أعاد صياغة العملية الانتخابية كإثارة متوترة ومليئة بالمؤامرات. نقل المخرج إدوارد بيرغر هذه الرواية إلى الشاشة الكبيرة.
من فيلم «أحذية الصيّاد»
من فيلم «أحذية الصيّاد»
يقود رالف فاينز البطولة بدور الكاردينال توماس لورانس، عميد الفاتيكان والمسؤول عن إدارة المجمع، فيما يقدّم الفيلم أربعة مرشحين بارزين قادرين على جمع الأصوات. ينسج بيرغر في «المجمّع» (2024ـــــConclave) استعارات عن الحروب الأيديولوجية والثقافية الدائرة خارج أسوار الدير، ويعكسها على الصراعات الداخلية، في توازن بصري ودرامي لافت. الممرات اللامتناهية، الأبواب المغلقة، والجداريات المستوحاة من مايكل أنجلو تتحول إلى مرآة لعاصفة الأرواح، حيث يتكشف سرّ بعد آخر في لعبة سلطة محاطة بالغموض والرهبة.
سورينتينو بين الأسطورة والسلطة
رغم أنّ «البابا الشاب» (2016 ــــThe Young Pope)، ليس فيلماً، إلا أنه من كتابة وإخراج أحد أهم المخرجين السينمائيين الإيطاليين. لا يسعى مسلسل «البابا الشاب» إلى تقديم أي صورة من صور التحيّز أو التعصب، بل يقترب بفضول وصدق من التناقضات والتحديات والجوانب الأكثر إثارة في حياة رجال الدين، عبر عشر حلقات مكثفة.
هكذا وصفه باولو سورينتينو خلال عرضه في «مهرجان البندقية»، وهو التوضيح الذي اعتاد أن يقدمه رداً على الأسئلة المتكررة حول ما إذا كان يخشى انتقادات الفاتيكان. أسئلة انعكست بدورها في شخصية بطله. يتتبع العمل مسيرة ليني بيلاردو (جود لو)، الكاردينال الأميركي الذي يصبح أول بابا من تلك الجنسية، وأصغرهم سناً في التاريخ الحديث. تبدأ الأحداث مباشرة بعد انتخابه، حيث يواجه ثقل المسؤولية ويكتشف شبكة من الشخصيات المحيطة به، التي لا تتوانى عن التآمر للتأثير في قراراته.
البابا فرنسيس كان أول بابا
يمثّل في فيلم روائي بعنوان
«ما وراء الشمس»
يمتاز المسلسل بحس فكاهي لافت (مشهد الافتتاح مثال بارز على ذلك)، ويتنقّل بين حبكات فرعية متعددة: من المناورات الخفية داخل أروقة الفاتيكان إلى لحظات التأمل في وجه جود لو، الذي يمنح الشخصية حضوراً يذكّرنا بفيتو كورليوني، مدعوماً بوجود ديان كيتون كأقرب مساعديه. بعد أكثر من ثلاث سنوات، عُرض موسم ثان من «البابا الشاب» بعنوان «البابا الجديد»، لكنه لم يكن بتأثير الموسم الأول.
قراءة نقدية للكنيسة نفسها
في المحصّلة، لا يمكن النظر إلى حضور البابا في السينما كصورة بريئة أو محايدة. الأفلام التي تناولت الباباوات كتلك التي ذكرناها وغيرها الكثير، لم تكن مجرد سرديات عن رجال دين، بل كانت محاولات لإعادة صياغة السلطة الروحية في لغة بصرية، تكشف هشاشتها بقدر ما تكرّس رمزيتها.
هكذا، يظل البابا في السينما شخصية مزدوجة: رمز عالمي لا يمكن تجاهله، وفي الوقت نفسه جسد هشّ يُعرّيه الفن. وهذا التوتر، بين القداسة والضعف، بين السلطة والإنسانية، هو ما يجعل كلّ فيلم عن البابا في النهاية قراءةً نقديةً للكنيسة نفسها.
* The Two Popes على نتفليكس
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
