معن بشور
لن يجمعنا هذه الليلة الدكتور صبحي غندور على منبره الافتراضي في مركز الحوار العربي في واشنطن، كما عادته كل يوم جمعة، رغم أن في بلادنا من بطولات شعبنا وجرائم عدونا ما يستحق الاهتمام والمناقشة، كما كان الأمر في الندوات الأسبوعية الافتراضية التي كان يدعونا إليها الدكتور صبحي غندور مساء كل يوم جمعة استكمالاً لدور وطني وقومي وثقافي قام به صبحي منذ أن كان طالباً عروبياً ناصرياً بمدرسة المناضل والمفكر العروبي كمال شاتيلا الذي غادرنا هو الآخر قبل أشهر، متأثراً بعمق بأفكار المفكر الكبير الدكتور عصمت سيف الدولة “رحمه الله”.
وبدلاً من أن يقوم زميلنا ورفيق العمر والنضال ديب حجازي، قريب صبحي وابن جيله، بالتذكير بالندوة الأسبوعية، فاجأنا بالخبر المفجع برحيل صبحي غندور، وفاجأنا أيضاً أنه كان مصاباً بمرض عضال لم يمنع صبحي وهو في واشنطن منذ عام 1984، من أن يقوم بدوره كاملاً في كتابة المقالات، والمشاركة في الإطلالات الإذاعية والتلفزيونية العربية، والإعداد للندوة الأسبوعية وقد حوّلها صبحي إلى منبر لأهم القامات العربية، الفكرية والسياسية والنضالية، عابراً من خلالها الحدود والأقطار والقارات وكأنه يقول: إذا استطعت أن تقيم من أي زاوية في العالم ركناً لوحدة أمّتك فأنك تستطيع أن تبني هذه الوحدة على كل مكان من وطنك العربي الكبير.
تميّز صبحي منذ فتوته بروح نضالية عالية، وتصدّر مواقع قيادية في العمل الطلابي الناصري في الثانويات، كما في الجامعة اللبنانية، وحين اضطر ككثيرين للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في ثمانينات القرن الماضي، حمل معه همّه الوطني والقومي، وخبرته الإعلامية في مجلة الموقف التي كان يرأس تحريرها في بيروت، إلى تلك الديار، على قاعدة عروبي يوماً، عروبي دوماً.
كم كنت أشعر بالاعتزاز وبالتفاؤل حين أرى في صبحي هذا العزم والإصرار على مواصلة دوره النضالي مؤكّداً أن تاريخ الرجال أقوى من جغرافيتهم، وعزيمة الرجال أقوى من أمراضهم، وأن الانتقال من قارة إلى قارة لا يعني الانتقال من همّ الوطن والأمّة إلى همّ آخر.
كنتد دائماّ أرى في نشاط صبحي المتنامي والمتزايد الذي حوّل مركز الحوار العربي في واشنطن من منبر أسبوعي إلى ميدان للتفاعل الفكري والسياسي على المدى الوطني والقومي ما يذكرني باؤلئك المهاجرين العرب الأوائل الذين لم تمنعهم الهجرة ومشاكلها من أن يحملوا معهم وطنهم وهمومهم وإبداعاتهم حيثما وصلوا، مؤكّدين من أن العروبة ليست مجرد هوية وانتماء فحسب، بل هي رسالة عابرة للقارات والحدود.
صبحي غندور الذي غرست فيه النبطية (مدينة حسن كامل الصباح) حب المقاومة والكفاح والانتماء العربي، وعمّقت فيه بيروت حيث ولد وناضل، روح العطاء القومي والتفاني في العمل من أجل وحدة الأمّة وتحررها، وتعلم في القاهرة دروس التحرر والوحدة والعدالة، وتعمّقت في الولايات المتحدة روحه الإنسانية، روحه الرافضة لكل أشكال الاستعمار والصهيونية، وصقل عبر التجارب عقله النقدي والعلمي الذي يدرك يدرك أن معركة الأمّة مع أعدائها لا تنفصل عن معركتها ضد أخطائها، فبات صبحي غندور الذي نعرفه أكثر من صاحب منبر مفتوح، بل بات عنواناً لقلب مفتوح وعقل مفتوح وأفق مفتوح.
رحمه الله، وألهم أهله ومحبيه الكثر الصبر والسلوان.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم