| السيد شبل
شهدت دول عدة في شمال أفريقيا تراجعاً للحضور الأميركي في مقابل تصاعد للأدوار الروسية والصينية، ما يشير إلى مستقبل مختلف للمنطقة في حال لم نشهد أي انقلابات دراماتيكية جديدة في العالم.
منذ قرابة عامين، أجرى مركز بحثي أميركي استطلاعاً للرأي حول رؤية الأميركيين أنفسهم لما يثار عن تراجع مكانة بلادهم في العالم، وكانت النتيجة مربكة لأصحاب القرار داخل البيت الأبيض، إذ قال نحو 80% ممن شملهم الاستطلاع إن “أميركا تنحدر وفي طريقها إلى الانهيار”.
هذا الشعور بـ”الهزيمة الجمعيّة” الذي بدأ يتأصَّل في جمجمة المواطن الأميركي هو مؤشر شديد الأهمية، ويكشف عمق الأزمة التي تعيشها الولايات المتحدة بالفعل، إلى الدرجة التي جعلت سكان قارة أميركا الشمالية يعدِلون عن فكرة “الحلم الأميركي” إلى “الانحدار الأميركي”.
في شوارع نيويورك وهيوستن ولوس أنجلس وسياتل، كما في شوارع كل المدن في العالم، يقترن الحديث عن تراجع الحضور الأميركي دوماً مع الحديث عن بروز الصين كقوة عظمى عالمية جديدة. وقد تقدم هذا النقاش إلى الصدارة منذ قرابة عقد ونصف عقد، عندما عززت الصين من قوتها الاقتصادية، ومن ثمّ صارت قادرة على ترجمة تلك القوة في ميادين السياسة.
وقد كان اقتحام الصين لكلّ بقعة حول العالم بالسلع والبضائع يعني مزيداً من القلق لدى النخبة الأميركية. لذا، تم وضع العديد من الاستراتيجيات على سبيل المواجهة، لكن ما فات الولايات المتحدة أن منافسة الصين ما كان لها أن تتحقق عبر التآمر وإشعال الفتن، بل كان يفترض أن يكون عبر تنمية القدرات الصناعية والتجارية، وفتح سبل للتعاون مع دول العالم من دون أجندات للهيمنة وفرض النفوذ.
وبحسب الخبراء، فإن الصين لم يعد لديها فقط القدرة على تحدي مكانة أميركا الحالية كقوة عظمى، بل يمكن لها حالياً التأثير في الشعب الأميركي ذاته ودفعه إلى تبني القيم الثقافية الصينية. اللغة الصينية أيضاً بدأت تجد لها سوقاً داخل الولايات المتحدة وكل دول حلف شمال الأطلسي.
منطقة شمال أفريقيا، بدورها، ليست بمعزل عن تلك المتغيرات العالمية، هذا إن لم تكن ميداناً رئيسياً للتأكيد على حدوث تلك المتغيرات، إذ شهدت دول مثل ليبيا وتونس والجزائر والمغرب تراجعاً للحضور الأميركي في مقابل تصاعد للأدوار الروسية والصينية، بما يشير إلى مستقبل مختلف للمنطقة في حال لم نشهد أي انقلابات دراماتيكية جديدة في العالم.
صعود صيني وتراجع أميركي
يُجمع المتابعون لأحوال أفريقيا عامة على أن الولايات المتحدة تخلّفت كثيراً في الملفات الحيوية التي تدور في القارة السمراء عن التشابك الإيجابي المتوازن الذي يشجع حكومات الدول الأفريقية على استمرار التحالف معها بما يضمن مصالح الأطراف كافة.
وقد أدّت هذه السياسات إلى توجيه الكثير من الانتقادات إلى إدارة جو بايدن على أساس أنها أهملت هذه المنطقة المهمة من العالم أو أثّرت فيها سلباً لفترات طويلة متراكمة، ما غزّى مشاعر سلبية لدى شعوب المنطقة.
وكان التقهقر الأميركي فوراً مصحوباً بمجهود صيني لتعبئة الفراغ. واليوم، صارت بكين الشريك التجاري الأول للقارة الأفريقية، إذ يبلغ حجم التبادل التجاري الأفريقي الصيني 254 مليار دولار في مقابل 44 مليار دولار، كحجم تبادل تجاري بين الولايات المتحدة والقارة الأفريقية.
وتدرك الصين أن دول شمال أفريقيا بحاجة إلى مختلف السلع من الملابس والأجهزة الكهربائية، كما تحتاج الحكومات إلى الأجهزة الأمنية المتطورة، وكذلك العتاد العسكري، لمساعدتها على السيطرة على حدودها وتحقيق أمنها المجتمعي، إضافة إلى التكنولوجيا الرقمية وكل ما يتعلق بالاكتشافات العلمية الحديثة.
وقد استطاعت بكين بمهارة فائقة الفصل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي، “فما للمصرف للمصرف، وما لوزراء الدفاع والخارجية لهم”، وهذا على العكس من الولايات المتحدة التي ربطت الملفات كافة، واستغلَّت حاجة البلاد الصغيرة إلى صادراتها لتفرض عليها أجنداتها السياسية والثقافية، فكانت الخسارة الأميركية مؤكّدة، وكان الصعود الصيني محتوماً.
وقد اتبعت الدولة الصينية دبلوماسية مرنة في التعامل مع دول شمال أفريقيا عن طريق استخدام التفاهمات بدلاً من الإكراه، فتعمل الصين على جذب الآخرين من خلال الاقتصاد والمساعدات التنموية غير المشروطة، ما ساهم في تعزيز حضورها الفعال والمتصاعد في المنطقة.
انحسار تأثير “اليانكي” في شمال أفريقيا
لا يتوقف الباحثون الأميركيون عن تحرير الأوراق البحثية التي تتناول الأوضاع في دول شمال أفريقيا، ومن ثمّ توجيه النصائح إلى حكومتهم حول آليات العمل المفترضة تجاه الملفات المشتعلة في تلك الدول.
في المقابل، ثمة إحجام كبير أو ما يمكن وصفه بـ”السياسات المتخبطة” عند التعامل مع قضايا المنطقة. على سبيل المثال، أحجم الرؤساء الأميركيون المتتابعون على الانخراط الكافي في الملف الليبي منذ مقتل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز و3 أميركيين آخرين في أيلول/سبتمبر 2012.
وعلى الرغم من التطورات المستمرة في ليبيا منذ هجوم طائرات حلف الناتو عام 2011، وانخفاض معدلات الأمن وانقسام الدولة إلى أكثر من حكومة، ثم تصاعد الحاجة الأوروبية إلى ليبيا لتقليل الاعتماد على الغاز والنفط الروسيين، كان الحضور الأميركي خافتاً أو مشبوهاً، فإما يغيب الأميركيون عن التأثير، وإما يدعمون الفرقة ويعطون الشرعية للعصابات المتطرفة، وهو أمر مستمر إلى اليوم في ظل إدارة بايدن.
أما في تونس، جارة ليبيا، التي كانت تحظى باهتمام أميركي بالغ لكونها الدولة العربية التي افتتحت “كرنفال الربيع” في نهاية عام 2010، فهي تشهد اليوم توتراً بين النخب الحاكمة والإدارة الأميركية؛ فالسلطات التونسية ترى أن التصريحات الأميركية حول “الديمقراطية” و”حقوق العمل السياسي” صارت غير مقبولة.
وكان الرئيس التونسي قيس سعيد قد صرح منذ أشهر “أن بلاده دولة مستقلة، وليست مستعمرة، وأنّ الدول الغربية إذا كانت تريد مساعدة تونس فعليها أن تردّ الأموال المنهوبة… وتُسقط الديون المتراكمة”، وذلك على خلفية تعبير الولايات المتحدة عن قلقها إزاء موجة اعتقالات معارضين.
في السياق ذاته، عززت الدولة التونسية علاقاتها بالمارد الصيني، إذ عقد الرئيسان قيس سعيّد وشي جين بينغ محادثات في الرياض في كانون الأول/ديسمبر الماضي. وتعدّ تونس شريكاً مهماً للصين بفضل موقعها الذي يتوسط ساحل شمال أفريقيا، بما يؤهلها للوصول بدرجة أسهل إلى الأسواق الأوروبية والأفريقية لاقترابها من طرق الشحن الحيوية. وقد حرّض هذا الواقع بكين على إدراج تونس في “مبادرة الحزام والطريق”، إذ وقّعت الحكومتان مذكرة تفاهم بشأنها عام 2018.
وقد صرّح عدد من الساسة الموالين للرئيس التونسي بأنّ بلادهم تدرس الانضمام إلى منظمة “بريكس” التي تضم روسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند. وتونس ليست الدولة العربية الوحيدة في شمال أفريقيا التي بدأ فيها نقاش حول الانضمام إلى “بريكس”، بل سبقتها إلى ذلك الجزائر بخطوات أكثر عمقاً وجديّةً من خلال تقديمها العام الماضي (تشرين الثاني/ نوفمبر 2022) طلباً في هذا الاتجاه.
ومن المعروف أن الجزائر لديها علاقات قوية منذ أمدٍ بعيد مع ما يمكن تسميته “المعسكر الشرقي”، إذ تجمعها علاقات اقتصادية قوية ببكين، وعلاقات عسكرية متقدمة للغاية بموسكو. وتحاول الحكومات الجزائرية المتتالية على الدوام التغريد خارج المعسكر العربي الموالي للولايات المتحدة وشقّ طريق معتدل ومتوازن في السياسات الخارجية.
في المغرب أيضاً، ورغم العلاقات الوثيقة بين الدار البيضاء وواشنطن، ورغم اتفاقات التطبيع التي أبرمت بين السلطات المغربية وحكومة الاحتلال برعاية حاكم البيت الأبيض السابق دونالد ترامب، يقول الواقع اليوم إن تأثير الإدارة الأميركية في السياسة المغربية في أدنى مستوياته.
ولا يمكن هنا الذهاب إلى حدّ وصف حكومات المنطقة بأنها امتلكت أفكاراً تحررية تنزع نحو “الاستقلال” و”الحفاظ على السيادة” بقدر ما يمكن اعتبار أن ما يحصل هو نتاج:
أ) أزمة الولايات المتحدة الأميركية الداخلية والخارجية، وعدم قدرتها على تطوير أدواتها.
ب) ظهور أقطاب سياسية واقتصادية جديدة في العالم يمكنها نسج علاقات تعاونية من دون ضغوط سياسية.
المحور الروسي – الصيني يستهوي المزيد من الدول
يؤكّد الخبراء أن المحور الروسي الصيني صار قادراً اليوم أكثر من أي وقت مضى على فرض نفسه كخيار جاهز للتحالف مع أي دولة في العالم الثالث ضمن مبدأ “الربح للجميع، والاستقلال المضمون”.
كذلك، فإن منظمة بريكس لا تزال تبحث عن قوى إقليمية تكون أكثر انسجاماً في مواقفها، والأمر نفسه بالنسبة إلى دول شمال أفريقيا التي تريد إقامة علاقة جديدة ندّية مع الغرب. هذه العلاقة تكون عبر التوسع في اكتساب الحلفاء والشركاء، وبألا تكون المنطقة حديقة خلفية للغرب. لذلك، بات الحضور الروسي واضحاً في كل من ليبيا وفي دول الساحل.
ورغم سعي السلطات في كل من موسكو وبكين لجذب الدول العربية الشمال أفريقية نحوها، فمن المؤكد أنها لا تستخدم الأدوات نفسها، ففيما تضخّ الصين استثمارات ضخمة لتحقيق أهدافها، تعتمد روسيا بدرجة أكبر على البعد العسكري لترسيخ موطئ قدم لها من خلال تعزيز التعاون مع الحليف التقليدي الجزائر والحضور عبر قوات “فاغنر” في ليبيا.
وبحسب مراقبين، فإنَّ مخططات الولايات المتحدة وحلفائها لم تفلح حتى الآن في إشغال روسيا بالملف الأوكراني أو استنزافها عسكرياً هناك. إذاً، تؤكّد موسكو تشبّثها بدورها في كل المناطق التي حققت فيها نجاحات عسكرية مؤثراً خلال العقد الماضي، ومنها شمال أفريقيا والمشرق العربي بالتأكيد.
ويتحدّث الإعلام الروسي عن مخططات للوصول إلى شمال أفريقيا عبر تطوير العلاقات الدبلوماسية مع الدول كافة، وخصوصاً الجزائر، باعتبارها نقطة ارتكاز في أفريقيا، ومن خلال تعزيز الحضور في ليبيا، إذ سبق أن أقر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أيار/مايو 2022 بوجود “فاغنر” في ليبيا.
خلاصة التطورات في المنطقة
من خلال النظر إلى التطورات التي يشهدها العالم بأسره، وخصوصاً منطقة شمال أفريقيا، يمكن استخلاص الآتي:
أولاً: تتعرَّض الولايات المتحدة لأزمة حقيقية. ومن المتوقّع تراكُم عناصر تلك الأزمة لتطيحها من كرسي العرش الذي نصّبت نفسها عليه منذ الحرب العالمية الثانية.
ثانياً: بدأت دول العالم كلّها تدرك أنها تعيش مرحلة “أفول العصر الأميركي”، وبالتالي بدأت تبادر إلى إقامة علاقات مع دول ومحاور بعيدة من واشنطن أو ربما على خصومة معها.
ثالثاً: أثبتت الصّين أنها تمتلك عقلية اقتصادية متطوّرة عن منافسيها كافة، وأنها بمنزلة شريك تجاري ممتاز، وبالتالي جذبت مختلف دول المنطقة نحو الشراكة والتعاون معها.
رابعاً: تؤكد روسيا أنَّ لديها قدرات عسكرية لا يُستهان بها، وأنها لا تتردّد في استخدامها لدعم حلفائها أو الدفاع عن مناطق نفوذها في العالم. كذلك، تمتاز موسكو بقدرتها على تحدي واشنطن بشكل مباشر دبلوماسياً وفي المحافل الدولية.
خامساً: تشير المعطيات كافّة إلى أنّ منطقة شمال أفريقيا، باعتبارها جزءاً من القارة الأفريقية والوطن العربي معاً، ستسير باتجاه التحالف مع روسيا والصين، بما يعزز أرباح هاتين الدولتين، ويضيف المزيد من الخسائر إلى الجانب الأميركي.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين