| لقمان عبد الله
على رغم إرسالها مبعوثين سياسيين إلى العاصمة اليمنية، وإبدائها استعداداً لتلبية جانب من مطالب «أنصار الله» في مقابل تحميل الأخيرة مسؤولية إيجاد المخرج المناسب للمملكة من الحرب، لا تيأس السعودية، على خطّ موازٍ، من خوض منازلة سياسية تستهدف تحقيق الغرض نفسه، وذلك عبر دفْع صنعاء إلى تقديم تنازلات، والتخلّي عن إصرارها على مطالب بعينها، في خضمّ المفاوضات الساعية إلى تجديد الهدنة وتوسعتها. في المقابل، تتمسّك صنعاء برؤيتها لكيفية التمهيد للحلّ النهائي، مهدّدةً في حال استمرار «التحالف» في «التعنُّت»، بالتصعيد أفقيّاً، مستفيدةً من كونها تفاوِض من موقع القوّة والردع اللذين راكمتهما طول سنوات الحرب، واللذين يشكّل الضغط على العمقَين السعودي والإماراتي أبرز عناصرهما
انتقلت المعركة المستمرّة في اليمن، من الميدان العسكري إلى ميادين السياسة، حيث تخوض دول العدوان منازلة ضارية، عبر استخدام وسائل الخداع والتضليل، ومن ثم الضغط والابتزاز، لدفع صنعاء إلى تقديم تنازلات، أو بحدٍّ أدنى التخلّي عن المطالب التي تصرّ على تحقيقها. من جهتها، تضع «أنصار الله» نصب عينيها أهدافاً واضحة، وهي لا تزال مصرّة على فرض المطالب الإنسانية، وفي مقدِّمها دفع رواتب الموظّفين وفق كشوفات عام 2014. ومع مضيّ الوقت، باتت لصنعاء خبرة واسعة في مجال التفاوض، وفَهْمٌ لحدود قوّة الطرف الآخر، وهو ما أهّل وفدها المفاوض إلى عدم الوقوع في الفخاخ والكمائن، التي عادة ما تُنصب له.
كذلك، وضعت صنعاء خططاً معلَنة لمواجهة تصلّب العدوان برفض المطالب الإنسانية، وأبرزها رواتب الموظّفين الحكوميّين، مدنيين وعسكريين. وهي لا تهدف من وراء خططها هذه إلى التصعيد الحربي والعودة إلى القتال، بل تتقصّد تحقيق المطالب الإنسانية، لتعود إلى الالتزام بتجديد الهدنة وتوسعتها. في هذا الوقت، تبدو دول العدوان أمام تصعيد تدريجي مشكَّل من ثلاث مراحل:
– الأولى: محليّة، تهدف إلى منع سرقة النفط اليمني، من خلال منع الشركات والسفن الغربية من استخراجه وتهريبه من موانئ المحافظات الشرقية. وفيها تعتمد القوات اليمنية على العمليات العسكرية التحذيرية، وتحرص على عدم إيقاع إصابات بشرية أو أضرار مادية، فيما هي تُصعّد أفقيّاً.
– الثانية: استهداف المنشآت السعودية والإماراتية الحيوية. وتبدأ هذه المرحلة حين تتأكد صنعاء من أن دول العدوان لن تستجيب للمطالب الإنسانية. وتعمل استناداً إلى العمليات التصاعدية التدريجية، وقد افتتحتها «أنصار الله» عقب الانتهاء من الهدنة بشكل رسمي بداية الشهر الماضي، حين أصدرت بياناً تحذيريّاً على لسان الناطق باسم الجيش اليمني، العميد يحيى سريع، من أن «القوات المسلّحة اليمنية تمنح الشركات النفطية العاملة في الإمارات والسعودية فرصة لترتيب وضعها والمغادرة»، على ضوء عدم التزام «التحالف» بـ«هدنة تمنح الشعب اليمني حقّه في استغلال ثرواته النفطية لمصلحة رواتب موظّفي الدولة اليمنية».
– الثالثة: استهداف الأهداف المعادية في البحر الأحمر وباب المندب، ونسبياً في بحر العرب، إذ أكدت قيادة صنعاء، في أكثر من مناسبة، قدرتها على إصابة أيّ هدف في البحر الأحمر. وهو ما كشفه رئيس الاستخبارات العسكرية والاستطلاع، اللواء عبد الله الحاكم، المعروف بأبو علي الحاكم، عندما أعلن أن «المواجهة البحرية المتوقَّعة قد تكون من أشدّ المعارك مع تحالف العدوان».
إذاً، تفاوِض صنعاء في ظلّ معادلات القوّة والردع اللذين راكمتهما طول سنوات الحرب، واللذين يشكّل الضغط على العمقَين السعودي والإماراتي أبرز عناصرهما. ويمكن القول إن المفاوضات الجديّة تأخّرت كثيراً بسبب سياسة الرياض في التجاهل والمكابرة. وفي معركة الإرادات السياسية الدائرة حالياً، يراهن تحالف العدوان، ومن خلفه واشنطن، على تكثيف الضغوط حيناً والإغرءات الزائفة أحياناً أخرى، فيما يحاول تحقيق نتائج في السياسة عجز عن تحقيقها في الميدان. كذلك، ترى دول العدوان أن تلبية مطالب صنعاء المتعلّقة برواتب العسكريين تُعدّ انتصاراً كبيراً للأخيرة، وتطالب، في مقابل ذلك، بأثمان سياسية من المفترض طرحها في مفاوضات الحلّ النهائي.
تفاوِض صنعاء من موقع القوّة التي يشكّل الضغط على العمقَين السعودي والإماراتي أبرز عناصرها
وفي هذه الحالة، يرى التحالف الخليجي – الغربي أنه ليس في حالة خسارة راهنة، إذ يَعتقد أنه ينفّذ أجندته القاضية بدفع «أنصار الله» إلى تقديم تنازلات. كما أنه يَخشى من أن موافقته الكاملة على مطالب الحركة، من شأنها تشجيعها على الانتقال إلى مطالب أخرى. وعليه، يرى «التحالف» أن المراوحة في هذا المربع أفضل من تلبية المطالب الحالية، لأن ذلك سيجرّه لاحقاً إلى تقديم تنازلات جوهرية تتعلّق بمطالب صنعاء بانسحابه من المناطق المحتلّة في الجنوب والشرق. وثمة في دول الحلف الخليجي – الغربي مَن يعتقد أن «أنصار الله» محرَجة أمام الشعب اليمني في شأن الرواتب، وخصوصاً أن البلد شهد، في زمن الهدنة، حالة من الرخاء والراحة النسبية جرّاء الرفع الجزئي للحصار، وأنها أيضاً لن تتجرّأ على العودة إلى القتال بعدما استطعمت فوائد الهدنة. ويرى أصحاب هذه النظرية أن السماح بوصول المشتقّات النفطية والرحلات الجوية إلى الأردن سيقيّد القيادة اليمنية، وسيمنعها من الانتقال إلى تفعيل الخيار الميداني. وتغتنم قوى العدوان، وفق هذه النظرية، الفرصة لاستمرار الضغط بالوتيرة الحالية (ضغط ميداني – مالي)، واضعةً «أنصار الله» أمام خيارَين: إمّا تقديم تنازلات مقابل رواتب الموظفين؛ أو تقديم أثمان سياسية تتعلّق بمفاوضات الحلّ النهائي غير المدرَج حالياً في أجندة صنعاء. ويقود هذا الاتجاه في المفاوضات، كل من: بريطانيا بالدرجة الأولى، تليها فرنسا (النشطة حالياً بدافع تشغيل منشأة بلحاف الغازية في سواحل شبوة من قِبَل شركة «توتال»)، والولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، يرجّح الخبراء أنه حين تتلمّس دول العدوان جديّة اليمن في الذهاب حتى النهاية في خطّته المتدرّجة والمترقية بالرسائل صعوداً، وصولاً إلى تنفيذ المراحل الثلاث، فإن خياراتها ستصبح محدودة، إذ إن كل الدلائل والمؤشرات تفيد بأن الخيار العسكري لم يَعُد مجدياً بالنسبة إليها.