| عبد الغني طليس
هل يستطيعُ ابنُ امرأةٍ اليوم بذريعة «روح العصر»، أن يقول للشاعر العربي أبي تمّام إنكَ حين قلتَ «السيف أصدَقُ إنباءً من الكتُبِ»، كنتَ تقصدُ «السيفُ أصدقُ إعلاماً من الكتُبِ» لأن زمننا هذا زمنُ الإعلام وعليه سنصحّح خطأك في كتبنا المدرسية والجامعية، وسنطلب من الدراسات المستقبلية عنك يا أبا تمّام أن تعتمدَ هذا التصحيح لأنه يناسب «العصر»؟
إنّ جزءاً أساسياً من قيمة أي نصّ أدبي، هو العصر الذي ينتمي إليه لأنّ «روح» ذلك العصر فيه، وليس لنا حقّ في أن نغيّر ونبدّل مع كل عصر، كتابات شهيرة، دخلَت التاريخ، تحت حجة روح العصر «الجديد». نفهَمُ أن بعض الأعمال المسرحية لشكسبير أو غيره، يُعاد توليفُها مع إسقاطات معاصرة أحياناً، لكنّ النص الأدبي شيء آخر مختلف تماماً، شيء مغمور بحساسية صاحبِه وتعابيره ومفرداته ومزاجه النفسي واللغوي. بعنوان «روح العصر»، يقدّم الشاعر هنري زغيب ترجمته الجديدة لكتاب «النبي» وهذا التعبير استخدمه قبله الشاعر العراقي سركون بولص ليبرّر تصرُّفَهُ ببعض المفردات والعبارات الجبرانية الخاصة. هنري زغيب ذهب أبعد بالقول إنه لم يترجم بل «صاغَ» النصوص، والصياغة تعني أنه تدخّل جدياً وعميقاً إلى الحد الذي يمكن القول إن هذا «النبي» يكاد يكون «نبي» هنري زغيب بالاشتراك مع روح… جبران خليل جبران! بوضوح إن «روح» زغيب هي المسيطرة، في التراكيب اللغوية والشطارة البلاغية، والقطع والوصل بين الجُمَل.
على أنّ الملاحظة الأعجب هي استخدام كلمة «الحب» مكان كلمة «المحبة» في النص الذي تَسألُ فيه «المِيتْرة» عن المحبة. تبرير زغيب أن الحرارة في نَص المحبة الجبراني دليل على أن جبران أراد «الحب» لا «المحبة». هو نفسُه تبرير سركون بولص وقبله الأب يوحنا قمير. لكن الجواب الجامع المانع واضح وبديهي وهو، طالما أن جبران نفسَه قرأ ترجمة الأرشمندريت أنطونيوس بشير عام 1923 ووافق عليها، فمَن نحن لنقول لجبران اليوم إنكَ قصدتَ الحبّ لا المحبة، ونحن أعلم منك بما كان في خاطرك، وبما جاء في نصّك؟! ودائماً، جبران مادة دسمة في الأدب العربي منذ قرن كامل، وهناك جدَل وأبحاث حول شخصيته وأدبه ورسومه وفلسفته، لكن بلا نتائج مُبَيَّنَة، فلا شخصيتُه توضّحت تماماً، ولا أدبُه شبِع من التنقيب، ولا رسومه تفكّكَت أسرارها، ولا فلسفتُه استقرّت على ضوء.
وجبران بالنسبة إلى اللبنانيين نَهرٌ متدفّقٌ فلسفةً ونثراً فنياً راقياً وقصصاً ورسماً وشخصيةً. الآن يشبه رمزاً من الرموز المسيحية (والوطنية طبعاً) المقدّسة مع أنه ظلّ لسنوات على علاقة مقطوعة أو مأزومة بالكنيسة جرّاء وجزَاء كتاباته الداعية إلى خروج الإكليروس من الخوض في حياة الناس اليومية والهيمنة على شؤونهم ودعوة المجتمع إلى التمرّد. تجوز في جبران جميع الألقاب الأدبية والفكرية والفلسفية التي أُطلِقَت عليه بإكبار إلّا لقب الشاعر الكلاسيكي. فهو إذا كان في كل العالم على شهرةٍ غامرة ويحبه القراء لأسباب إبداعية شتّى، فقد كان شاعراً (في الموزون المُقفّى) ضعيفاً جداً لم يقدّم في الشعر قيد أُنمُلة جمالية مما قدم في كل فنونه. وأغلبُ الظنّ أن ميله إلى هذا الشعر كان تطفّلاً أكثر مما هو موهبة حقيقية. وتوجُّهُه إلى كتابة الشعر حصل تشبّهاً ببعض زملائه في «الرابطة القلمية» وبعض شعراء المهجر، الذين كانوا مُقَدَّمين عن غيرهم من الكتّاب، لدى الجمهور اللبناني والعربي في الولايات المتحدة ارتباطاً بما لدى الذائقةِ العامّة في بلادنا من تكريم للشاعر، في كل زمان وعبر السليقة التاريخية.
أمّا إذا أراد محبو الألقاب أن يُبقوا لجبران لقب الشاعر بناء على النثر الفني الرائع الذي كتبه، وبناء على التسمية التي أطلقها هو في إحدى رسائله من أميركا إلى الأدبية اللبنانية مي زيادة في مصر حين قال لها «كتبتُ لك قصيدة نثرية»، وكان هذا التعبير غير معروف تماماً، أقول.. إذا كان كذلك، فهو أمير بين شعراء قصيدة النثر العربية التي بدأت النهوض بعد زمن جبران بقليل، وهذا هو «النبيّ»، أعجوبته.
إنّ كل من يقرأ حياة جبران من دون أن يقرأ أُمَّهُ كامْلة رحمة، سيبقى مقصّراً عن المعرفة، وسيبقى سَعيُه غير مبني على الصخرة التي استند إليها جبران في المفاصل الكبرى في حياته وشمّ رائحة المحبة والقوة منها، ودخل التاريخ بسببها. لقد كانت كامْلة امرأة قديرة، صلبة، ذكية، تفكر بطريقة سليمة تحفظ فيها العائلة والأولاد. وعند اتخاذها القرار لا يقف في وجهها أحد. فكما كان جبران يسمع حفيف كلماته قبل أن يكتبها، كانت كاملة تسمع وحي ضميرها وعقلها يحدثانها بالأمور. كامْلة هذه، منذ أنجبت ابنها جبران وهي في الثلاثين، أنجبَت معه فكرةَ أنّ ابنَها هذا سيكون اسماً كبيراً وكان.
قرارها بالهجرة ما كان ارتجالياً بعد طفْح آنيَة الحياة المضنية في لبنان أيام العثمانيين إِثْرَ سَجن زوجها، ولا نزوةَ أُمّ تأكدت أنّ البقاء في لبنان مستحيل والعيش فيه أكثر استحالة، وإنما جاء بعد معاناة كأْدَاء مع ذلك الزوج السكّير العربيد المُجَرَّص الذي أُدينَ باختلاس أموال (1892) وقُبضَ عليه، فأصبحت كامْلة عرضة للعيون اللاعبة والنفوس الصاخبة والرجال من حولها، وهي جميلة، يتراهنون عليها من كبير القوم صاحب المال والشأن إلى أي صغير. وفوق ذلك كان الفقر الذي قيل عنه لو كان رجلاً لقتلتُه، وفوق الفقر كان الجهل مطبقاً على الناس، فاسْوَدّت الدنيا في عينيها وقررت الرحيل. ورحلَت (1895). ووصلت إلى بوسطن مدينة الدخان والغبار والأمراض فأقامت فيها. ودبّرَت لها عملاً وبدأت مرحلة جديدة من حياتها.
جبران كان في الثانية عشرة، فأدخلته أُمه المدرسة ولم يمضِ وقت حتى تعرّف إلى المصور الشهير فْرِد هولند داي الذي كان محترِفاً وخبيراً في التصوير فوجد في أنامل الشاب اللبناني موهبة في الرسم، وفي خياله متّسعاً من الأحلام، فراح يعتني به ويُمضي وقتاً في توجيهه، ويعتمد عليه في بعض أموره رغم فتوّته المبتدئة غير المجرّبة. علمت كاملة بانقضاء فترة، أن فْرِد هولند داي ذو ميول مِثْلية، وتأكدت من ذلك فهبّت في أوصالِها غريزة المرأة التي تريد حِفْظَ ابنها، فطلبت إلى جبران الاستغناء عن العمل مع هولند داي فلم يعترض. وفي الوقت نفسه يُقال إن جبران كانت لهُ معلّمة في المدرسة في الثلاثين أُغرمَت وأقامت معه علاقة جنسية (وهو في الرابعة عشرة على ما تقول الرواية) فشعرت كامْلة أن جبران يجب أن يبتعد عن هذا المناخ الذي يعيش فيه وتَجب إعَادَتْه إلى لبنان (1898) ليستفيد فيتعلّم العربية كما ينبغي. ومع أن أغلب الروايات تقول إن كاملة رحمة أرسلت ابنها إلى لبنان بهدف تعلّم اللغة العربية، فإن دخولاً بسيطاً إلى عقلها وطريقة تفكيرها وطبيعة تكوينها الأخلاقي الرصين تُحتّم علينا التفكير في أنها خشيت على جبران الضياع في عالَم «الأجساد» والخطيئة الذي يعني، في المُعتَقد الديني والاجتماعي، كفراً وخيانة للربّ وغرقاً في الحرام، فآثرت إبعاده إلى أبعد مسافة ليعود إلى ذاته وطبيعته.
سيرة جبران الحافلة ستجدونها في كثير من الكتُب. أُسجّل محطات فحسْب، وصولاً إلى أسئلتي، لذلك اعتبر أن حياة جبران الأولى كانت عبارة عن ولد فَطِن خلّاق بالفطرة، كبّرتْه أُمّه بدمع العيون ولطيف الرموش وكانت سنداً، ولعبت الدور الريادي في «تأليفه» كما تتمنى. درس العربية في لبنان ثم عاد إلى أميركا فبَدأ تفجّر المواهب التي كانت متفرّقةً شتّى، وتحصّن بالخبرة وإتمام دراسة الرسم في فرنسا ثم العودة الأخيرة إلى أميركا (1902) حيث عاش عيشة الفاتحين فنياً. أمّا كامْلة فماتت بعد سنة فقط!
لعل ما يلفت الانتباه بقوة، بالجودةِ والحساسيّة اللغوية الراقية، أن الكِتَابَ الأكبر، قيمةً إبداعية وشهرةً أي «النبي» الذي كتبه جبران بالإنكليزية ترجمَهُ إلى العربية الأرشمندريت انطونيوس بشير (عالِم لاهوتي لبناني ومُحاضِر وخطيب مُفَوّه ورئيس أساقفة لبنانيين في أميركا في ذلك الزمن) فكان غاية في الإمتاع والمؤانسة، والدقّة، والروحية الإنسانية الخالصة، بلُغةٍ لاهوتية صَلاتيّة، لا تختلف عن لُغة جبران الأدبية في ما كَتب باللغة العربية. إن ترجمة أنطونيوس بشير اللصيقة بالأصل الجبراني، بالإضافة إلى هندسة الجُمَل والتشبّع بالجماليات كلاماً ونسَقاً وإيقاعاً هادئاً محسوساً بالذائقة، سمح لهُ كمترجمٍ مُبدِعٍ وفنانِ تَعبير، بإبقاء أفكار جبران سليمة، دقيقة، بعيدة من «الأذى» الذي يلحق غالباً، بأيّ كتَاب أصلي من مترجمين يُشرِكون أناهُم في الترجمة. بشير اختفى خلف نصوص جبران وقد آمنَ بقدرتها على بلوغ الذيوع الواسع واستحواذ إعجاب الجمهور لبُعدين اثنين: بُعد ديني إنساني، فالنبي هو المختار (موسى) والحبيب (المسيح) والمصطفى (محمّد) الذي يتكلّم. والبُعد الثاني هو اللغةُ الروحيةُ التي تهُم البني آدمَ في كل مكان. أمّا وجه المهنيّة المعبّرة فهو كيف لمترجمٍ أن يترجم نصوصاً عن لغة أجنبية فيعتمد أسلوب الكاتب الأصلي ذاته، بالمفردات المُختارة عينها رغم أن لها مرادفات كثيرة وبالأسلوب البلاغي والبياني عينه المطابق لأسلوب الكاتب. وهويّة هذا الكاتب اللغوية (جبران) والأدبية كانت «جديدة» نسبياً وليست معروفة على نطاق واسع ولم تُخْتَبَر كفايةً مع العامة. بشير كان كبيراً ومؤسِّسَاً في مسيرة الكِتَاب. والمرتبة الكنسية التي كان تبوأها والمزايا الشخصية العلْمية والأدبية التي اجتمعت فيه كانت عنصراً خلّاقاً في ترجمته. ولم يُعرَف ما إذا كان بشير قد حصل على إذن خاص للترجمة، من البطريركية المارونية التي كانت تنظر إلى جبران يومها على أنه مناهِضٌ لها (هناك من قال إنها ألقت عليه الحُرم !) أم أن الارشمندريت اللبناني النبيه، تصرّف بشكل شخصي نتيجة إعجابه بما كتب جبران! وفي النتيجة: آراء جبران السلبية في الإكليروس، لم تقترب يوماً، ولا أيّ يوم من صورة المسيح. كان المسيح وبقي مصدر إلهام روحي ومعنوي وأدبي له طوال حياته.
أسئلتي عن جبران كثيرة، وهي أسئلة مشروعة، بعضها مطروح والآخر كأنه محفوظ في خزائن كتُب عليها «ممنوع الدخول».
أوّلاً: لماذا كانت ولا تزال الأجيال، تميل في لبنان إلى قراءة جبران في مرحلة المراهقة والشباب ثم يتمّ الغياب عنه من الثلاثين صعوداً ليعودوا إليه في الستين والسبعين؟
لا شكّ في البداية بأن أسلوب جبران في الكتابة يرقص فرحاً أو ألماً. لغتُه عميقة ورقيقة تسمح له بوصف ما يريد بدقة ووجدانية حتى لكأنك ترى الأشخاص والمَشاهد بأمّ عينك وهُم وراء الكلمات. وأحياناً تتحسس آلامهم وأفكارهم كأنك معهم. وتفضّل دائماً لو لم تنتهِ هذه القصة أو تلك لشدة انسجامك وتعاطفك والتصاقك بما يجري فيها. إنّ قصص جبران العاطفية (الأجنحة المتكسّرة/ الأرواح المتمردة /العواصف…..) التي تتحدث عن أشخاص في عمر الحب الأوّل هي الجاذب الثاني، بعد اللغة الحيّة النابضة بالتشابيه والاستعارات الذكية التي تَمَكَّن بها جبران من نقل «الواقع» الغرامي الطاهر النقيّ المعذّب بلغة تجمع الواقع والخيال في قصص محدودة الحجم لا يُداخلُها تطويل، وجَنّد لها كل فكره وأعصابه وقدراته لتُحدِثَ الهزة في النفس المتعاطية مع نفوس الآخرين على الورق.
هي قصص العاشقين تتشابه، لكن جبران يحوّلها مدهشةً بالوصف الآسر. ولا يزال الحب الأول تحديداً، النبيل، المزروع بمصاعب أو عادات مفزعة أو ظروف خانقة، يهمّ الأجيال، وقد كان «يجسّده» جبران، ويطرح فيه صفاء العواطف ورقة الأنفس الزكية، ويصوّر قيمة التمرّد على الظلم الاجتماعي أو الديني. وهذه كلها معطيات تفتح شهية الشباب على المتابعة والتأييد للمعاني السامية فيها. لذلك فإن اتجاه المراهقين والشباب إلى قراءة نصوص جبران تنبع من أنه لسانُ حالهم في تلك المرحلة العمرية التي تضج بكل أنواع الأسئلة التي لا تجد أجوبة مقنِعة، وهو يجيد بثّها وفضحها بالطريقة الناعمة الملمس، المتأججة المشاعر، بقصص هي دائماً من القُرى أو البلدات البعيدة عن المدينة. وحين ينزل إلى المدينة لا يوفّر أهلها وأدواتهم وحكايات الحب عندهم من نقده الجارح القاسي الذي تستحقه أفعالُهم والمواقف.
ودائماً فئة الشباب جاهزة للتناغم مع روايات الحب المشتعل بالدراما أو بالرومانسية الدافئة، والقلق على الحبيب. ومع أن جبران يتناول قصصاً من بيئة مسيحية وهجومه على الإكليروس مرتبط بمفاهيم عوجاء وبسلوكيات مرفوضة كانت سائدة، فإن القارئ يُسقِط هذه الأفكار على بيئته الخاصة الدينية كائنة ما كانت ديانته ويشعر بأنه معني مباشرة بما يرِدُ في الحكاية. والرفض سمةُ الشباب الأولى. ما إن يغادر الشاب الحب الأول ويمضي بخَوض تجاربه الأخرى منخرطاً في العمر أكثر فأكثر، حتى يذوب أثر جبران في داخله ويتحوّل صُوَراً تأسيسيّة لأفكار تتردد أصداؤها من وقت إلى آخر في الذات السحيقة ويصبح نوعاً من النوستالجيا.
يتفرّق المزاج الشخصي بين العمل والدراسة العليا والمهنة والزواج والأولاد و.. وحتى تصل الستون والسبعون فيعود الواحد منا إلى قراءة جبران، من بعيد هذه المرّة، والقراءة هنا تحدُثُ بالعقل لا بالأحاسيس فيتم اكتشاف جبران للمرة الأولى على أساس أن القراءة الأولى كانت ممتزجة بانفعالات شبابية فوّارة متعاطفة مَليّاً وبلا هوادة، فتكون القراءة الثانية هي الجدية لجبران وتجلس القراءة الأولى مع الذكريات العُليا التي لا تلعب فيها يد الزمن كونها أصبحت خارج الزمن.
السؤال الثاني: لماذا يصرّ بعض الكتّاب المؤرّخين لحياة جبران على إعطاء صورة مثالية عنهُ، بمنأى عن الحميمية الجنسية، في موضوع العلاقات العاطفية التي قامت بينه وبين سيدات أميركيات أو لبنانيات مقيمات في الولايات المتحدة. وفي آخر إحصاء كان عددهنّ عشر عاشقات؟ جبران، بحسب الوصف الذي يقدّمونه في الكتُب، مندفعٌ مع النساء ومُتَحابّ حتى أحياناً يبدو طَمّاعاً بهنّ، بينما يكتبون أنه متَعفّف. وتدعم «الفكرة» أغلب الروايات عن تعرّفه إلى سيدة أو أخرى، يعقبها «كلام فَوري» يقول إنه أقام علاقة جنسية معها من بعد اللقاء الأول، وأغلب النساء اللواتي تعرّفن إليه كانت لهنّ ميول حسّية تجاهه ظهرت بين الأحرف الأولى من الحوار بينهما، أو من السطور الأولى للكلام «التأريخي» عنه. فهل يرغب المؤرخون في منحه هوية مترفّعة عن المعجبات؟ وماذا تفيد هذه الهوية التعفُّفيّة في صورة جبران الذي يبدو أنه كان مثل أي فنان له معجبات كثيرات أمامَ «مؤرخين» يتعمّدون الهرب من الإقرار بهذا الواقع كأنه لعنة.
لماذا يصرّ بعض الكتّاب المؤرّخين لحياته على إعطاء صورة مثالية عنهُ
والسؤال الأخير: لماذا في كل لوحات جبران التي تعرِضُ نساءً عاريات بأشكال وأوضاع مختلفة، لم تظهر على أي واحدة منهن ملامحُ إغراء وإغواء مثير؟ وكلّهن صبايا ! وفي أعمار تضجّ أنوثة! إن كل اللوحات تتضمن عُريّاً واسعاً لكنّ معنى العُري يأتي حياديّاً بارداً. جسَد المرأة في أغلب الفن التشكيلي حامٍ وناريّ ومتدفق. أمّا عُريُ النساء عند جبران فأصمّ أبكم لا يوحي ولا يقول شيئاً، كأنه تمثال (حتى تماثيل النساء تنضح تعبيراً). كيف استطاع جبران أن يرسم نساءَه بهذه التقنية «الفراغية» في التعبير، والأهم لماذا؟ لماذا الفراغ الهائل؟ لا أملك تفسيراً لتغييب المعنى في أجساد الصبايا الجميلات الأجسام لا المترهّلات. ولو أنها لوحة واحدة أو اثنتان أو أكثر قليلاً على هذا النحو ، لأدركْنا سبباً. أما كلّ اللوحات والأجساد النسائية المتعددة مستلقية على الأجساد النسائية المتعدّدة، فهذا يبعث الفضول الفني المُلِحّ! فهل هذه هي المرأة -الحلُم الخالية من كل عيب جسدي ونفسي (وهي غير العاشقات الراغبات!) التي كان يتمنى جبران الالتقاء بها. وحين لم يجدها، جعلَها قِبلةَ لوحاته طُهْراً وعلُوّاً عن «الأرض»!
بين هلالين: يحلو لبعض السياسيين في لبنان أن يتذكروا جبران في مقولته الشهيرة «لكم لبنانكم ولي لبناني» ليميّزوا أنفسَهم ولإعطاء أنفسَهم وجماعاتهم الأفضلية الوطنية على الآخرين. يا سادة يا كرام لم يقصد جبران ما قصدتم أنتم. والتدقيقُ في التعبيرِ الرائعِ، أغنانا الله عن ذلك، سيعرّيكم كطغمة فاسدة حكمَت بالطائفية فلم تُبقِ ولم تَذَر في ركائز الدولة.
وبالإذْن: ينزعج كثُر من اللبنانيين اليوم عندما يستعيدون خطابات جبران الوطنية بسبب ذكر سوريا مرات عدّة، فيا سادة حين كان جبران يتحدّث عن سوريا ويقصد كذلك لبنان في رسائله التي تحمل بُعداً تحرريّاً ثوريّاً (أيام الاحتلال العثماني وكذلك أيام الانتداب لفرنسا التي لم تكن بالنسبة إليه «الأُم الحنون»). كان لا يرى سوى النير الراخي عَجيزته وقدميه على البلاد كلها ويمعنُ فيها تخريباً وإذلالاً وتتريكاً بشعاً وفَرْنَسَةً . فهل نُشفق عليه بعدم ضمّه إلى أحد طرفَي الخلاف السياسي القائم حالياً بين لبنان وسوريا لأنّ الحكمُ الحالي في سوريا -لمن نسيَ- لم يكن قائماً بعد!
أيّها اللبنانيون …ارحَموا جبرانكم في شخصيته وعبقريته واتركوه تحت التراب، وفي السماء الأدبية العالمية، يعيش مع الأرواح المتمرّدة، ولا بأسَ أن تستمروا في الظنّ بأنه، من دونكم، سيغدو من الأجنحة المتكسّرة!؟
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار