بقلم د. حسن أحمد حسن
وطن … الله ما أروع اتساق هذه الحروف الثلاثة، وما أعظم الدلالات التي تتضمنها ليعلّقها كل مواطن على صدره وسام انتماء، ويحملها في عينيه وقلبه مكونات هوية تستمد منها الروح ما أمكن من أصالة الماضي، وتضيف إليها بعض ألق المستقبل المأمول، فالوطن ليس فقط بقعة جغرافية يعيش فيها الإنسان مع غيره ضمن حدود متعارف عليها رسمياً، ولا هو مجرد تاريخ يبدأ بالماضي السحيق إلى القريب فالحاضر، ومن ثم المستقبل… ليس منتجعاً يمكن مغادرته عندما تقلُّ خدماته أو تتعقد أمور الحياة فيه، فالارتباط بأرض الوطن يختلف عن غيره من الارتباطات، لأنه أبعد من حدود الوجود الفيزيائي والمحيط الملاصق لهذا الشخص أو تلك المجموعة، ولا هو مجرد أحلام وردية مشروعة تنمو مع الطفولة وتكبر بتناسب طردي مع الهِمِمِ أو الحظوظ، بل يشمل ذلك وأكثر بكثير… الوطن أكبر أسمى وأجل وأغلى وأهم من أن يوضع في كفة، ولو وضع الكون كله في الكفة الأخرى، فبه يتجسد الحنين لإرث نفتخر بحمل مورثاته، وبالوفاء للوطن يزرع أبناؤه معاً سنابل المدى الحبلى باليقين والقدرة على مواجهة التحديات مهما تعددت وتنوعت وازدادت تعقيداً …
بالوطن تنصهر الآلام والآمال والطموحات والتحديات، والأمل بالعمل، والأمان بالتضحية، والدم بالبذل لضمان البقاء، وعلى خريطة الواقع تتضح الفروق بين التوحش وقابلية الانحلال والذوبان بالآسن المستورد، وبين التمسك بالثوابت وحمل البندقية بيد ومصباح العقل والوفاء ونقاء الانتماء باليد الأخرى، وعندما نقول الوفاء ونقاء الانتماء يعني على الأقل نظرة الغضب في وجه من يريد الإساءة إلى أي من مكونات الوطن لأنه وطنٌ لجميع أبنائه، ويعني رفع الصوت في وجه الفساد والمفسدين شريطة ضمان التبرؤ والنزاهة من رجس ذلك كله كبر أم صغر، والوفاء ونقاء الانتماء يعني العضَّ على الجراح، ولا ضير من حشوها ملحاً إن تطلب الأمر فالملح يعقم الجراح، وإن ولَّد آلاماً مؤقتة، لكنها محكومة بالزوال.
هنا تتجلى المواطنة في أبهى معانيها وأروع تجلياتها، فإذا كانت بالأحوال العادية تعني الحقوق والواجبات، فهي في أوقات الشدة تعيد ترتيب تلك الثنائية لتشير إلى الواجبات ومن ثم الحقوق، فعندما تلمُّ بالوطن شدة ما، وتحدق به تحديات مصيرية، فلا أحد يملك ترف أحلام اليقظة المحقونة بغالبيتها بفيروسات مسرطنة بالاعتداد بذاك الخارج المعتدي الذي لا يريد الخير لأحد، وبقدر ما يُؤْثِرُ كلٌّ منا غيرَهُ من أبناء الوطن على نفسه بقدر ما تثمر الجهود بانقشاع الغيم الأسود، لتحل محله سحب الخير والعطاء والخصب والنماء.. عندما أفكر بكفكفة دمعة طفل ليس ابني ولا حفيدي فسيكون هناك من يكفكف دمعات أطفالي وأحفادي، ويمسح على رؤوسهم، ويأخذ بيدهم، ويقدم لهم ما يشعرهم بالأمن والأمان رغم ذئاب الليل التي كثيراً ما يعلو عواؤها في الشدائد والملمات.
الجميع حريص على ألا يرى أمه تبكي، ولكيلا تبكي أم أي منا علينا أن نحرص وقبل كل شيء على ألا تبكي سورية الحبيبة أمنا جميعاً، وهذا مرهون بتطليق كل ما له علاقة بالقناعات الوافدة والمستجلبة لحقنها في دماء الجيل وتحفيزه على الانسلاخ عن واقعه، وتضخيم الأنا على حساب النحن، وعندها ستضيع تلك الأنا الفردية، وقد يفقد صاحبها وهج الانتماء الخاص بتلك النحن التي بها تتم المحافظة على الأنا والنحن معاً، وهذا لا يعني تناسي الضغوط والظروف المعيشية الخانقة، ولا التقليل من صعوبة تجاوز الواقع القائم بعد سنوات الحرب المفروضة، لكن في الوقت نفسه لا يحق لأي منا أن يتذرع بها للتلكؤ أو التقاعس أو السير بركب اليأس والإحباط، فجميعنا أحوج ما يكون إلى طاقة إيجابية خلاقة يضخها لمن حوله، بدلاً من أن يستقبل موجات عاتية من طاقة سلبية جنَّد لها العدو جيشاً من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي لسلبنا إرادة الحياة التي تليق بنا، ونحن أبناء الحياة، وأبناء الشمس التي لن تعرف غروباً، فسورية وطن الشمس المحصن بحماة الديار ليبقى عبق الياسمين الشامي يوزع للكون معنى الأصالة والعزة والسيادة تظلل العرين الحصين المنيع الباقي رغم أنوف طواغيت الكون.
(موقع سيرياهوم نيوز)