آخر الأخبار
الرئيسية » مجتمع » عن أصل الخير والشر في الديانة الإيزيدية

عن أصل الخير والشر في الديانة الإيزيدية

| عفيف عثمان

تأثرت الديانة الإيزيدية بالأديان والثقافات المختلفة التي مرت على منطقة الشرق الأوسط. وسيكون من الخطأ الظن أنها “نفس” هذا الدين القديم أو ذاك لمجرد وجود سمات ثقافية مشتركة.

في تقصيّه عن الديانات القديمة، وجد الباحث الكندي جيرارد راسل(G. Russel)، في كتابه “ورثة الممالك المنسيّة، ديانات آفلة في الشرق الأوسط (2014، الطبعة العربية 2022)، أن الديانة الإيزيدية ديانة باطنية، يؤمن بها قوم من الأكراد يبلغ عددهم مئات الآلاف ينتشرون في شمال العراق وأجزاء من سوريا وشمال غرب إيران وجورجيا وأرمينيا، يوّقرون ملاكاً يتخذ شكل طاووس. ويقول عنهم إنهم ضحايا افتراء قديم يتهمهم بـ”عبادة الشيطان”. وقد تعرضت هذه الجماعة لحملات قمع شديدة، واحدة منها على يد السلطات العثمانية في القرن التاسع عشر، التي طاردتهم بوصفهم هراطقة. وتعد منطقة “لالش”، شمال بغداد، مكاناً مقدساً عندهم، فهي في اعتقادهم مركز الأرض، حيث بدأ الخلق، وفيها بئر مقدسة.

الأعياد الإيزيدية

هذا، وتعتبر الطائفة الإيزيدية من أكثر الطوائف ميلاً إلى الابتهاج والاحتفال، فأعيادهم كثيرة جداً، بعضها خاص بطوافاتهم الدينية، وبعضها بأعيادهم ومسراتهم، كما أنهم يشاركون بعض الشعوب الأخرى وأصحاب الديانات المجاورة أعيادهم واحتفالاتهم. وهم يلتزمون بصيّام ثلاثة أيام في شهر كانون الأول/ ديسمبر، يليها عيد يُسمى عيد الصوم. ويُرجح البعض أن هذا الصيام يرتبط بالطبيعة وتغير الظروف الجوية، حيث يصادف عيد الصيام يوم الانقلاب الشتوي الذي يحدث في شهر كانون الأول / ديسمبر، وما يُرجِّح هذا الرأي هو أن أغلب الأعياد والمناسبات الدينية الإيزيدية مرتبطة بالطبيعة وتغيّر الظروف الجوية، لأنها في أصلها ديانة طبيعية، ويُعتقد أن هذا هو سبب كثرة الأعياد والمناسبات الدينية عندهم.

الكتب المقدسة  لديهم غير مدوّنة، بل تنقل شفاهاً، وعندهم أن النبيّ الأول هو إبراهيم والنبيّ الأخير هو محمد، لكن العناصر الأربعة أهم من أي نبيّ، وأعظم هذه العناصر هي النار، والشمس تمثل الوسيط الرئيسي بين البشر و”الإله المجهول”. ولا يوجد أحد يعرف التاريخ الكامل للإيزيدية بسبب العزلة والسرية.

وقد تأثرت هذه الديانة بالأديان والثقافات المختلفة التي مرت على منطقة الشرق الأوسط. وسيكون من الخطأ الظن، كما يقول راسل، أنهم “نفس” هذا الدين القديم أو ذاك لمجرد وجود سمات ثقافية مشتركة.

والحال، يقترح الباحث الكردي، هوشنك بروكا، تفنيد مزاعم عبادتهم لـ”الشيطان”، وجلاء بعض غموض معتقدهم. وفي زعمه، تؤمن الديانة الإيزيدية بالإله الكامل الذي هو “طاووسي ملك” (Tawisi Malek) (الملك الطاووس)، حامل الخير والشر في آنٍ، وهذا القول قديم يجد بدايته مع ماني، اذ لا وجود لأحدهما من دون الآخر، فهما أصلان للعالم. ومع الأديان التوحيدية الثلاثة وقع “الانشطار الميتافيزيقي”، فكان الإله الواحد الأحد مصدراً للخير فحسب، مع اعتبار الشيطان ملاكاً ساقطاً، وقسمة العالم الى معسكرين متقاتلين  يخوضان معركة شرسة. وحتم هذا التحوّل على القائلين بالثنوية إما الإنضواء تحت راية التوحيد أو التمسك بالمعتقدات القديمة، فبقيت الإيزيدية، وهي واحدة من الديانات الكردية القديمة، على عقيدتها، ما قاد الى تشويه صورتها ووسمها بـ”عبادة الشيطان”.

فلا بد إذاً من  إخضاع “طاووسي ملك” للفحص التاريخي والكشف عن ماهية هذا “الإله الكامل” في خيره وشره، فهو يتبدى في اللاهوت الإيزيدي:

الإله في الميثولوجيا الإيزيدية

فـ”طاووسي ملك” بحسب الميثولوجيا الإيزيدية، لا يمثل الإله في وجهه الأسود (أي الشيطان أو إبليس في الديانات التوحيدية)، في إعتباره إلهاً للشر المطلق أو “شيطاناً رجيماً” في مقابل الله الرحمن، وإنما هو طبقاً للإعتقاد الإيزيدي: “مخلـوق مـن نـور الله وسره العزيز”. هـو، كمـا تقـول دفاتر الإيمان” الإيزيدية، إذاً، “الإله الكامل” أو الوجه الآخر للإله الأكبر (الله / خوه دا / أزدا) الكلي القدرة: الكلي في خيره، كما في شره، الكلي في سلامه، كما في حربه، الكلي في بياضه، كما في سواده. وهو، فوق كل هذا وذاك، إسم من أسماء الله “الكثير”:

رب، ملك الملك الكريم/ ملك العرش العظيم/ رب قديم منذ الأزل/ رب قدس الأقداس/ لك المديح والثناء/ رب، كل الجهات/ تؤدي إليك… يا رب العالمين.

يملك “طاووسي ملك” على الصعيد اللاهوتي مستويين: مستوى هو في ذاته، وفي مستوى ثانٍ هو الآخر/ الله (بالكردية خوه دا (Xweda)، أي الخالق نفسه بنفسه، أو أزدا (Ezda)، أي من خلقني أو أوجدني.

ويقول الباحث إنه يصعب على الإيزيدي، عبادياً، الفصل بين حدود إيمانه بالله وحدود إيمانه بـ” طاوسي ملك”. فالأديان القديمة كانت ترى في الإله قدرة على فعل الخير والشر في آن. وعُدّ الله مصدراً لكل شيء: إله الظلام وإله النور، إله الحب والفرح، إله الدمار والخراب.

الإيزيدية والثنوية

تقوم الإيزيدية على “الثنوية”، لكن الباحث يُقدر أن الأديان التوحيدية الثلاث “تُخفيّ بين طيّات وطبقات نصوصها “ثنوية ألوهية خفية”، فالجنة والنار تعبير عن قدرة الله و”كلاهما صناعة إلهية”، وهي تملك حدوداً واضحة بين قوتيّ الخير والشر المتصارعتين، في حين أن الإيزيدية لا تعرف حدوداً بيّنة بين الله باعتباره خيراً أكيداً وبين الشيطان باعتباره شراً أكيداً، وقد عبّر الشيخ الصوفي عُديّ بن مسافر، (467 هـ 1075 مـ – 557 هـ 1162 مـ)، عن هذه الثنوية بوضوح في قوله:” لو كان الشر بغير إرادة الله، لكان عاجزاً ولا يكون العاجز إلهاً، لأنه لا يجوز أن يكون في داره ما لا يرده، كما لا يجوز أن يكون فيها ما لا يعلم به”.

وهكذا، فإن الإله لدى الإيزيدية هو “الإله القادر بلا حدود، الذي قدرته على خلق الخير كقدرته على خلق الشر، هو مبتدأ العالم ومنتهاه، وأول الخلق وآخره”.

فكرة الإله في خيره وشرّه

تبدو فكرة الإله الكوني في خيره وشره، فكرة قديمة أصيلة في الأديان القديمة التي انتشرت في إيران وبلاد ما بين النهرين. وينقل بروكا عن الباحث السوري فراس السواح، قوله في “لغز عشتار” عن إلإله الكوني الكلاني الشامل، بإعتباره إلهاً بلا حدود: “عندما يجرّد من نفسه ظلاً له، يحمله مسؤولية الموت وشرور الحياة، لا بد له من الإمساك بخيوط القوتين الكونيتين بذراعيه الإثنتين، فباليمنى يمسك قوة الحياة والخير، وباليسرى قوة الموت والشر. وهنا تغدو مسألة استرضاء وجه الإله الأبيض، واتقاء غضب وجهه الأسود الموضـوع الأساسي للعبادة والطقوس. مـن هنـا نستطيع أن نفهـم الخصيصتين المتناقضتين للأم الكبرى للعصر الحجري، أول إله شمولي عبده الإنسان، كما نستطيع أن نفهم استمرار هاتين الخصيصتين في وريثات الأم الكبرى”. فالألوهة القديمة، كانت ألوهة طبيعانية بامتياز، أي أن الإله كان يُعبد كصورة طبق الأصـل عـن الطبيعـة بكـل مـا فيها. قدسية الإله بإعتباره “روحاً مقدسة”، كانت تنبع من قدسية الطبيعة نفسها، في اعتبارها “مادة مقدسة” أو جهة للقداسة.

يتوجه العابد الإيزيدي بالدعاء الى ربه: “ربّي… يا تاج الأولين والآخرين/ من كل خير أعطِنا ومن كل شر نجِّنا/ الحمد لك يا رب العالمين/ (…) إلهي، ارزقنا بالخير وأبعد الشرور عنا/ الخير والشر، كلاهما ينبعان من باب الله/ ربّي إنك الداء وإنك الدواء”.

“طاوسي ملك”

وفي عبارة موجزة “طاوسي ملك” وفق المعتقد الإيزيدي هو اسم من أسماء الله أو تجلٍ من تجلّياته الكثيرة. ويتقاطع الإله باعتباره “إلهاً كليانياً” مع الإله الهندوسي في الجمع بين الخير والشر. وإذا كان لا بد من صلة تاريخية للتعرّف على تطور الإله الإيزيدي، فمن الضروري الإشارة الى أن إيران الموحدة في عهد الأشوريين والكلدانيين، كانت تعبد إلهاً واحداً وهو “يزدان”. ولذا، يُقدر الباحث أن لتسمية الإيزيدية علاقة جد قوية به، والذي يعني في الكردية والفارسية “الخالق”. وقد يتعلق اسمهم بـ”يزد”، إله الشر المقابل لـ”هرمز” إله الخير، كما قدّر الرحالة الإنجليزي جيمس بكنغهام في رحلته الى العراق في العام 1816، في حين يصفهم البعض بأنهم “أزدايين/ أزداهيين” أي أتباع الله أو “عبدة أزدا”، وهم  يقولون عن أنفسهم إنهم “قوم أزدا” أو “أتباع أزدا”.

الإيزيدية والديانة الميترائية

ويعتقد الباحث العلامة توفيق وهبي أن الإيزيدية هي من بقايا الديانة الميترائية Mithraism (2010)، ووفاقاً لما تقوله المعاجم، فإن هذه الأخيرة، تنسب الى إله الشمس الإيراني ميثرا، وهي ديانة هندو إيرانية مكرسة لعبادة الإله ميثرا، الذي اشتق اسمه من لفظة ميهرا في اللغة الفارسية القديمة التي تعني مهركان – مهرجان، وذلك للدلالة على الاحتفالات التي كانت تقام له. وتذكر بعض المصادر التاريخية أن الميثرائية اقتبسها الإيرانيون من الديانة البابلية بعد غزو الملك الإخميني كورش الثاني (559 – 530 ق.م) لبابل عام 539 ق.م، حيث اقتبس كهنة الفرس المجوس مبدأ الزروانية (= الزمن) من البابليين. والذي جعل منه الميثريون (الشمس التي لا تقهر).

وينتهي بروكا الى القول إن “الإله أو الـ”خوه دا/ أزدا” الإيزيدي، لم يخلق شيطانه أو أسوده الإلهي بذاته كـ”إله أبيض نقي”، خارجاً عنه ، لينتهي في مرحلة لاحقة إلى إلهين مستقلين ومتناحرين (إله أبيض خير وإله إسود شرير)، كما هو الحال في الديانات التوحيدية (الزرادشتية والديانات السامية منها على وجه الخصوص) ظاهرياً، وإنما ظل إلهاً بــ”الأبيض والأسود”، واضحاً وفصيحاً في رماديتـه، حيث يتداخل في ذاته البياض بالسواد، والنور بالنار، والحب بالخوف، والدواء بالداء، والخير بالشر، والحياة بالموت،  والنظام بالفوضى. والطاعة بالتمرد، والجدوى باللاجدوى”.

وفي المقام الأخير، يرى بروكا أن الإيزيدين يوحدون “الله الكثير” من أجل العبور الى “وحدانية العبادة”، وعليه فإن ديانتهم تجمع بين التعددية والوحدانية. وهذه  الأخيرة هجينة تختلف كثيراً عن وحدانية الأديان صاحبة الرسالات. وفي نظر الباحث، فإن التفارق يعكس الاختلاف في “النظر الى الله في كونه رباً للعالمين، أكثر من الاختلاف على الله نفسه، كما قد يُعتقد”.

ويزعم بروكا أن الإيزيدية في تصورها تقترب من إيمان الصوفية بـ”وجود الكل بالكل، وارتباط الكل بالكل، وفناء الكل بالكل، وبقاء الكل بالكل”.

والحال، عاد الإيزيديون الى الواجهة بعد أن احتل تنظيم “داعش” الإرهابي مناطقهم في العراق ولا سيّما جبل سنجار في العام 2014، فارتكب المجازر بحقهم وسبى نساءهم وهجّرهم. وبعد دحر التنظيم، أتى على لسان أحد المسؤولين في الأمم المتحدة قوله: “سيكون لحجم الفظائع المرتكبة ضد المجتمع الإيزيدي تأثير في الأجيال القادمة. ويجب على حكومة العراق والمجتمع الدولي تهيئة الظروف التي تطمئن الإيزيديين بأن مثل هذه الفظائع لن تتكرر مرة أخرى، مع تقديم الدعم لهم من أجل التعافي وإعادة بناء حياتهم”.

 

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

تقرير لـ”اليونيسف” يكشف تأثير 6 أشهر من العدوان الإسرائيلي على أطفال لبنان

منظمة الأمم المتحدة للطفولة، “اليونسيف”، تكشف في تقرير لها تأثير ستة أشهر من الحرب الإسرائيلية على الأطفال في لبنان.   قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة، ...