كنتُ، وما زلتُ، أضحكُ ضحكاً خُرافياً يسمعه الجيران كلّهم فيما أشاهدُ مسلسلي «ضيعة ضايعة» و«الخربة»، لكنني في كثير من المَشاهد أغصُّ بدمعةٍ ساخنة تنزل أحياناً لتحفر أخدوداً صغيراً على خدّي.
أبكي من شعورٍ غامضٍ أتمنى ألّا يصدق بأنني لا أريد لنا/ لي أن نشبهَ تلك الشخصيات البائسة المهمّشة التي نسيها الزمن وتركتها «الحداثة» في غياهب الجُبّ. وفي الوقت ذاته تحملني موجة فرح لذيذة لأنني أخالُ أن تلك الشخصيات هي من الجمال والروعة ما يجعلنا نتمنى للحظة أنها موجودة بحلوها ومُرّها ومشاكساتها وهشاشتها وعفويتها.. بل ببلادتها المزمنة.
أذكر أنه حين عُرض مسلسل «ضيعة ضايعة» للمرة الأولى قبل الأحداث الدامية، سارعَ الناسُ بشكل جنوني للسفر إلى قرية «السمرة» التي اختيرت كمكان لتصوير المَشاهد، وهم على قناعة تامة بأن «عادل الفسّاد» سيستقبلهم عند مدخل الضيعة وسيخبر عنهم رئيس المخفر «أبو نادر» والشرطي حسّان والـ«يا همّا لالي»، وأن «ديبة» ستطبخ لهم «مجدّرة» على الحطب بنكهة «الجيجة» التي سرقها «جودي» من قّن جاره «أسعد»، وأن «بديعة» ستقدم لهم صحن المكدوس الذي خبّأته لأخيها «سليم»، وأنهم سيتغامزن ويتهامسون فيما بينهم على «سلينغو» و«عفوفة» وهما خلف صخرة حبّهما يشربان المتة، مُختبئين من سليل الإقطاع المختار «البيسة»، وغارقيْن في قصيدة غزلٍ عُذريّ مكررة مئة مرة من دون أن تفقد عذوبتها، وأنهم سيحقّقون أمنيتهم الأكبر برؤية «جودي أبو خميس» (يبلف) «أسعد خرشوف» خمسينَ ليرة بحزّورة تعجيزية، وأن «أسعد خرشوف» سيطلق في استقبالهم مئة طلقة تحية من «بارودته الصدئة»، وأنهم سيعودون إلى أصدقائهم في المدينة محمّلين بهدايا تذكارية و«كمشة» ملبّس يكسر الأضراس من «دكانة صالح وزهرة».. كل ذلك لأن جميع الممثلين في «ضيعة ضايعة» عاشوا أدوارهم إلى أقصى درجات الصدق في الأداء، وتمثّلوها في أذهانهم وأرواحهم لدرجة جعلونا نصدّق الحكاية/ الوهم، ونتألم لألمهم، ونفرح معهم، بل ننتظرهم كأنهم موجودون هناك منذ الأزل كجزء حقيقي من المكان بجوار أشجار البلوط والسنديان وحجارة الجبال وأمواج البحر.
وفي مسلسل «الخربة»، أصبحَت عندي «ردّاتُ فعل مُنعكِسة شَرْطيّة» كما يقال في علم النفس، إذ كلما سمعتُ خوارَ بقرة في أي مكان أحسبُ أن «فيّاض/ راعي العجّال» قادمٌ نحوي، وكلما سمعت «قرقعة» صحون وطناجر في الشارع أو في أي مكان أو لمحتُ طيفَ شخصٍ فقيرٍ بائس أحسبُ أنّه «سمعان» مع كيسه التاريخي الأبدي، وكلما سمعتُ بعض الأشخاص «يتمنطقون» في حديثهم أو بمجرّد أن يقولوا: «فتاح قوس» أبتسمُ متخيّلاً «تُوفيق» يحدّثني رامياً في وجهي بنقاطه وفواصله وإشارات تعجّبه. بل أصبح بعضنا – كلما همَّ أو همَّتْ بقول مثلٍ شعبي كشاهدٍ وتأكيد على قوله- يردّد عبارة «عطرشان» اللازمة: «شغل ساعتو يا سندي» كأنّ هذه الجملة أصبحت «اللوغو» أو العلامة/الماركة المسجّلة لتلك الشخصية الدرامية.
إنها بكل تأكيد براعة الكاتب ممدوح حمادة في رسم شخصياتٍ/ كاركتراتٍ مذهلة أصبحت مثل وشم المعلّقة الجاهلية، مثل بصمةٍ وعلامة فارقة ولازمة نكررها كأننا نقلّد شخصياتٍ حقيقية موجودة قطعاً ولم يبقَ لنا إلا أنْ نقابلها واقعياً في مكانٍ ما.. يوماً ما.
ومن دون شكّ تستحق جميع الشخصيات (ومَنْ جسّدها من ممثلين مذهلين) في كلا المسلسلين أن نخصّها بما تستأهل لكنني اكتفيت هنا بأمثلة فقط مع كامل المودّة للبقية!
يقال: «إن الشهرة هي أن يدخلَ الناسُ إلى تفاصيل حياتك، بينما التمثيل هو أن تدخلَ أنت إلى تفاصيل حياة الناس». أشيرُ هنا ليس إلى الشهرة والنجومية اللتين تليقان بمعظم ممثلينا السوريين، بل إلى ما يجعل الدراما السورية قادرة على الدخول إلى عوالمنا الجوّانية، ويجعلنا نحبّ ما نراه من أنفسنا على الشاشة، ونقتنع بأن ما يؤدّيه الممثلون السوريون من قصص تدور حول مآسينا، وتكشف خبايا بيوتنا وأسرارها، ليسَ مسرحيةً سمجة أو «ضحكاً على عقولنا»، إنما هو إخلاص كامل لأرواحهم كممثلين، وتقدير لمهنةٍ شاقةٍ تأخذ من هناءة بالهم ووقتهم المخصص لعائلاتهم وأطفالهم. وأقصد بـ«الإخلاص» أيّ الصدق في الأداء، التمثيل الصادق الذي يزرع الحب في نفوسنا ويجعلنا – لدرجة البراعة في تقديم الحكاية/ الحلم- نصدّقها على أنها حقيقة.
فتحيةً لِمَنْ كتبَ ومثَّلَ وأخرجَ ولكل الطواقم الفنية في الأعمال الدرامية السورية كلّها (أولئك المخلصون المجهولون)، والرحمة كل الرحمة لمن أمتعنا وأضحكنا حتى البكاء.. ورحل.
جواد ديوب
سيرياهوم نيوز 6 – تشرين