غنوة فضة
تدور احداث الرواية خلال فترة الحجر الصحي بعد انتشار فيروس كورونا، في محاولة من الكاتب لردم الهوة الطارئة التي أحدثها الوباء على العلاقات الاجتماعية.
رواية
رواية “فرصة لغرام أخير” للروائي اللبناني حسن داوود.
الرواية: “فرصة لغرام أخير”
تأليف: حسن داوود
الناشر: دار نوفل – بيروت – 2022 |
لعلّ أكثر ما يُجمَع عليه فيما يتعلق بمهمة الأدب إزاء الواقع هو تلك الإمكانية الجمالية على تحويل الحدث العادي إلى مدهش. وهو، أي الواقع، بدوره الذي يجسّد الحيوية للفضاء الروائي مطواعٌ لتلك الصنعة بأبعادها ووظائفها. يشبّه الأمر خلق مغامرة في عمق السمات البشرية والتجمعات الإنسانية وما تفرزه الأمكنة عبرها من علاقاتٍ تنسجم مع وحدة الكائن الخلاق للقصص والحكايات. ذلك ما نجده في رواية “فرصة لغرام أخير” للكاتب اللبناني حسن داوود (1950) والصادرة عن دار نوفل (2022)، إذ نطل على شرفاتٍ تخرق الحواجز الفاصلة بين الرواية والواقع، وترصد دمجاً منظماً ليومياتٍ تعرض هشاشة المرء وعجزه عن العيش معزولاً.
تدور الأحداث خلال فترة الحجر الصحي بعد انتشار فيروس كورونا، وعبر تلك الأجواء الحذرة، تنتقل الحكاية إلينا كمن يهمس بأحداثها حذراً من التلصص، علماً أن التلصص قوامها. إلا أن غاية الكاتب في ردم الفراغ الذي أوجدته تلك الهوة الطارئة على العلاقات الاجتماعية، يملؤها حسّ رهيف في نقل الحكاية، وهو ما ينتصر للحدث ويجعله نافذاً إلى عمق متفرد. تبدأ القصة في وقت فقد الناس فيه التلقائية والعفوية: “هكذا من دون تفكيرٍ يسبقها. آنذاك في عمر أقل. كانت اليدان ستتصرفان لوحدهما وتذهبان إلى أبعد مما كانت تنتظر”. نعاين هنا حكاية بثلاثة أصواتٍ رئيسة، وصوتٍ آخر هامشي وناشز، كما لو أن الكتابة تؤلف مقطوعة بثلاث حركات وأخرى رابعة تصرّ على التطفل والاندماج. نشاهد عزت الطبراوي من شرفته خلال فترة الحجر، وهو يتلصص عبر منفذهِ المتاح للنجاة من الفراغ. نشعر بترسخ العزلة وسيطرتها التي جعلت المدينة تبدو فارغة سوى من أبطال الحكاية. فالفراغ يحكم والصمت يطبق ولا لغة جديرة بالمشاهد سوى لغة الإشارة.
تغادر زوجة عزت وعائلتهُ إلى أستراليا في وقتٍ يجد نفسه وحيداً في بيروت تحت إجراءات الوقاية. هكذا من فضاء أبكم لا تواصل فيه ولا جرأة على لقاء الآخر، تُقرب الجائحة بين الجارين تامر وعزت بعد ما كانت العلاقة بينهما شبه معدومة. يشترك الجاران في حكاية التلصص، ونعلق كقراء في قصة شبيهة بما يسمّى حباً لما بعد الستين، فالمرأة “هي” على الشرفة المقابلة تتلصص بدورها على الرجل الستيني “عزت” وهي مثله عالقة، ليس عبر سطوة الحجر فقط، إنما بزواجها من رجل غائب ومجهول المصير في إفريقيا إلى جانب وجودها مع أمه العجوز، والتي تجسد دورَ تطفلٍ يتمثل في رصد تحركات زوجة الإبن الغائب. من غير أن نغفل عن صوت آخر، هو صوت خادمتها “ساماواتي” والتي تظهر في النص كنغمة خفيضة لها أن تفسّر لنا بعضاً مما يحدث بين أبطال الحكاية.
بين الإشارات والإيحاءات تبدو المسافة التي تفصل بين البناءين كما لو أنها عبور بين بلدين “لسنا إلا نحن وهم، أعني أولئك الذين نواجههم ويواجهوننا كأننا استقلينا عما حولنا”. تشتعل هنا علاقة بين عزت وإلسا، إلا أن هشاشتها تسمح بأن تتشعب وتستوعب طرفاً ثالثاً هو تامر، مرشده في علاقته مع الجارة المقابلة. نكتشف لاحقاً مراقبة الرجلين للمرأة ذاتها؛ عزت عبر شغفه باختبار جسدهِ وعاطفته مع امرأة تصغره، وتامر الكاتب الذي هجر مهنته باحثاً عن وميض يوقدها ويعيد إليه موهبته الآفلة.
هكذا بين علاقة شبه منتهية وأخرى على وشك أن تبدأ، نعاين أشخاصاً أثقل الوباء حيواتهم. ومن خلال كشف متأصل في عمقها، ندرك أن ثمة خراباً اقتُطع من أعمارهم وحجز مكانه فيها. فالجائحة حجزت الجميع، ويبدو الفضول والتلصص لمعرفة ما يحدث في الخارج سلوكاً غير شائن، ذلك أن الحدث يسمح بشيء من الخروج عن التنميق الاجتماعي المهذب، والحجر حوّل الجميع إلى شبه أصنامٍ اقتصر التواصل فيما بينهم على المحادثات البعيدة الحذرة.
إلا أن الحال مع مرور الوقت يتعدى مساحة الترقب ليمسي في بعض المواضع حباً، ويخلق لغة قوامها المواعدات البعيدة والرسائل المشفرة، بما يشير إلى حاجة المرء الماسة للخروج من العزلة.
يظهر تامر كاتباً هجر كتابته، ويصح وصفه بالمشتاق إلى مهنةٍ غادرته، الأمر الذي يدفعه لتشجيع جاره على مواصلة الحكاية مع الجارة المقابلة، كما لو أنه يعيد عبر ذلك خلق خطوط حكاية ما، أو يضيف عبر نصائحه وتدخلاته فصولاً ويمحي أخرى. إلا أنه وكما يحدث في الكتابة يجري في الحياة، إذ يظهر عزت ممسوساً بمراقبتها ومهتماً في التواصل معها، ما يدفع بتامر للخروج عن النص والوقوع في ذلك الهوس اليومي، ليقترح على جاره كتابة رقمه على كرتونة تخلق الفرصة للتواصل الحقيقي. تبدأ هنا قصة غرام غير مأمون الجوانب، هي قصة غرام خفيف، أو يصح وصفها بأنها مغامرة تبدأ من جرأة تجاوز الحدود بين البناءين إلى تجاوز حدود العلاقة الجسدية بين عزت وإلسا، والتي ترمي الرجل في بعد آخر لم يكن معروفاً، إذ يكتشف تشنجاً في قربه منها: “ذلك الاستمتاع لا أعرف كيف أبلغه..”، الأمر الذي يصيب العلاقة بالاضطراب رغم الشاعرية الساحرة التي يضفيها الخروج إلى شوارع بيروت والتجوال على شاطئها.
وعبر 236 صفحة نلمس التعقل والشعور بالذنب حيال من غابوا عن ما جرى في الحكاية. فعزت يشتته ذعرهُ من اقتراب عودة زوجته، وإلسا تحيا منذ سنوات احتمالية ظهور زوجها سيما بعد وفاة أمه، إلى جانب تامر الذي يفشل بحثه لاستعادة مهنته عبر اقتحام العلاقة تلك، وينفذ إليها في نهاياتها مثلما يفشل في استعادة حكايته. الأمر الذي يضعنا أمام قصة لغرام غير منضبط وطارئ، صنعتها الظروف بما يشبه الفرص التي تأتي للحظات وسرعان ما تحلق بعيداً مثل مشاهد سينمائية سريعة وخاطفة: “هكذا نتصرف كما لو أننا لم نخسر شيئاً من وصولنا إلى تلك العلاقة متأخرين. أنا كنت أستعيد بعض ما فقدناه، بأن أُكِثرَ من تذكرنا كيف كانت…وقد توقفتُ عن التفكير بالعودة إلى الكتابة. ذلك السطر الوحيد الذي لم أعرف ماذا أكتب من بعده يوجع رأسي كلما ترددت كلماته في رأسي. ولم أعد أنتظر أن ينهي الوباء آخر موجاته حتى أفهمه وأعرف ماذا هو. كما لم أعد مهتماً بأن أعرف كيف ستكون الحياة من بعده”.
حسن داوود- روائي لبناني، مواليد بيروت عام 1950. حاز شهادة الكفاءة في الأدب العربي من كلية التربية، الجامعة اللبنانية. صدرت له مجموعات قصصية وأعمال روائية من بينها “بناية ماتيلدا” (1983)، “غناء البطريق” (1998)، “مئة وثمانون غروباً” التي مُنحت جائزة المتوسط الإيطالية (2009)، و”لا طريق إلى الجنة”، التي نالت جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية (2015). كما صدرت له “نساء وفواكه” (2020) عن دار نوفل، وقد تُرجمت رواياته إلى لغات عدة.
سيرياهوم نيوز 1-الميادين