| محمد نور الدين
مع تعيين حاقان فيدان على رأس الديبلوماسية التركية، واجهت سياسة أنقرة الخارجية تحدّيات جمّة، توالت تباعاً، على رغم عقْد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، آمالاً كبيرة على أن يفتح التغيير في الوزارة، إضافةً إلى تعيين إبراهيم قالين رئيساً للاستخبارات، مرحلة جديدة تعزّز مكانة تركيا في محيطها الإقليمي، وفي العالم. غير أن التعثّر لازم المساعي التركية؛ أولاً من خلال إلغاء الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، زيارةً كانت مقرّرة إلى أنقرة الشهر الماضي، لتجيء من بعدها أيضاً حادثة قرية بيله القبرصية، وبيان مجلس الأمن المنتقد لتركيا، وكذلك تأجيل الرئيس التركي رحلة كانت متوقّعة إلى بغداد، استعيض عنها بزيارة أجراها فيدان الأسبوع الماضي. وعلى رغم أن الزيارة استمرّت على مدى ثلاثة أيام، إلّا أن ما رَشح عنها، وفق ما أوردته الصحافة التركية، كان صادماً لجهة اتّساع هوة الخلاف بين البلدَين حول مختلف الموضوعات، بدءاً من النفط وملف «حزب العمال الكردستاني»، وصولاً إلى مسألة المياه، فضلاً عن رسائل «تهديد وابتزاز» حملها فيدان إلى مسؤولي هذا البلد، وتحدّثت عنها الكاتبة المعروفة، هاندي فرات، في صحيفة «حرييات»، ومنها أن «توفير المياه للعراق مرتبط بحجم مكافحته لحزب العمال الكردستاني»، و«اشتراط تركيا الحصول على عشرين دولاراً في مقابل كل برميل نفط عراقي يمرّ عبرها»، ما يؤخّر استئناف عمليّة تصدير نفط العراق عبر تركيا، والمتوقّفة منذ فترة بسبب خلافات قضائية، «إضافةً إلى عودة تركيا إلى سياسة حشد السنّة ليكونوا موحّدين في الانتخابات النيابية المقبلة».
ومن بغداد، انتقل فيدان إلى أوكرانيا، في أول زيارة يجريها إلى هذا البلد منذ تعيينه في منصبه الجديد. وكان إردوغان أجرى زيارةً إلى لفيف الأوكرانية، حيث التقى نظيره فولودومير زيلينسكي، في صيف العام الماضي. وأتت زيارة فيدان إلى كييف، الجمعة، في مرحلة حسّاسة من تصاعُد التوتّر، ولا سيما بعد قرار روسيا الخروج من «اتفاق الحبوب» في 17 تموز الماضي، في ضوء استمرار الحصار الغربي على صادراتها من الحبوب إلى العالم، واتهامها أوكرانيا بأنها ترسل غالبية الحبوب المصدَّرة إلى الدول الغنية، وتتجاهل احتياجات تلك الفقيرة. كذلك، ارتفع منسوب التوتّر بين أنقرة وموسكو مع توسُّع نطاق الحرب الأوكرانية، لتشمل استهداف السفن في حوض البحر الأسود، الأمر الذي يهدّد بتحويل هذا الأخير إلى ساحة قتال وتعريض الاستقرار النسبي فيه لانفجار واسع تشارك فيه دول أخرى من خارج الدول المتشاطئة.
وإلى الآن، يبدو أن الأفرقاء المعنيّين وجدوا أن لا بديل من خطّ البحر الأسود لنقل الحبوب، علماً أن أوكرانيا تعمل، من جهتها، على تصدير جزء من حبوبها عبر نهر الدانوب إلى الدول الأوروبية، أو تسيير سفنها المتوسطة من موانئها عبر المياه الإقليمية إلى كلّ من رومانيا وبلغاريا، وصولاً إلى المياه الإقليمية التركية، ومنها عبر المضائق إلى العالم. وبهذه الطريقة، تتفادى السفن الأوكرانية هجمات الطائرات الروسية، لأن ذلك سيُعتبر انتهاكاً لسيادة الدول المذكورة. وقد سعى فيدان، خلال زيارته، إلى إحياء «اتفاق الحبوب» قبل أن تتجاوزه التطوّرات والتوتّرات. وإنجاز اتفاق جديد بوساطة أنقرة، من شأنه أن يعيد الاعتبار إلى الديبلوماسية التركية التي فقدت إحدى أهمّ أوراقها الوسيطة في أوكرانيا، بسقوط الاتفاق المذكور. وسيكون ذلك، في ما لو حصل، تعويضاً عن تراجع الثقة الروسية بتركيا بعد مواقفها الأطلسية في «قمّة فيلنيوس»، والتي كانت من أسباب عدم تحديد موعد، حتى الآن، للقاء يجمع إردوغان إلى نظيره فلاديمير بوتين، بعدما كان مقرّراً في مطلع آب، ومن ثمّ في الأسبوع الأخير منه.
واليوم، ليس من موعد محدّد قريب للقاء الرئيسَين، وخصوصاً أن جدول أعمال مكثّفاً سيعرفه شهر أيلول بالنسبة إلى الرئيس التركي، من مثل المشاركة في «قمّة العشرين» في الهند، ومن ثمّ المشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة. وهذا لا يعكس فقط تعقيد المواقف من «اتفاق الحبوب»، بل كذلك استمرار الانزعاج الروسي من مواقف أنقرة الجديدة وخروجها من سياسة التوازن ولو النسبي بين روسيا والغرب. أيضاً، فإن فيدان لم يتردّد في انتقاد الهجمات الروسية على الموانئ والسفن الأوكرانية، داعياً روسيا إلى «التعقّل». ويفاقم الاستياء الروسي، واقع أن المسؤولين الأتراك عندما يقصدون كييف يتعمّدون اللقاء مع ممثّلي جماعة تتار القرم والتأكيد على «حقوقهم»، وتكرار رفض أنقرة ضمّ شبه الجزيرة إلى روسيا من جانب واحد في عام 2014. وكرّر فيدان هذا الموقف من كييف، شاكراً الحكومة الأوكرانية على منْحها تتار القرم المزيد من الحقوق كأقلية تركية هناك.
مع ذلك، فإن الوزير الجديد يسعى إلى أن يسجّل إنجازاً في بداية عهده، من خلال ما يمكن تسميته «ديبلوماسية المكوك»، إذ إنه يُتوقّع أن يزور فيدان بعد كييف، العاصمة الروسية، بعدما أكد إردوغان أن اللقاء وجهاً لوجه مع الروس ضروري لبتّ المشكلات العالقة. وتقول صحيفة «غازيتيه دوار» إن تأثير أنقرة على موسكو بات أقلّ من ذي قبل. لذا، فإن زيارة فيدان إلى العاصمة الروسية تُعتبر مفصليّة لتحديد اتّجاه العلاقات التي تأزّمت بين الطرفَين. ووفق الباحث في شؤون أوراسيا، باريش آديبللي، فإن «التوصّل إلى حلّ لمشكلة اتفاق الحبوب، ليس مرتبطاً فقط بأنقرة، بل كذلك بمدى رغبة العواصم الغربية في تقديم تسهيلات في هذا الخصوص». ومن جهته، يرى الباحث التركي في الشؤون الروسية، صابر عسكر أوغلو، أن «توقيع اتفاق جديد للحبوب مهمّ جدّاً لأكثر من سبب: الأول هو تشغيل خط أوديسا – إسطنبول من جديد، وإلّا ستعمل أوكرانيا على البحث عن بدائل عبر شرق أوروبا. وتركيا لا تريد الخطّ البديل، لأن الخطّ المار عبر إسطنبول يصبّ في مصلحتها؛ والثاني، أن التوصّل إلى اتفاق جديد يعني تجديد التواصل بين أوكرانيا وروسيا وتخفيف التوتّر في منطقة البحر الأسود، وفي هذا أيضاً مصلحة تركيا لتتجنّب حرباً قد تتورّط فيها». ويضيف عسكر أوغلو أنه «لا بدّ في النهاية من وقفٍ لإطلاق النار، لأن الحرب باتت تراوح مكانها، والطرفان تعبا، فيما تريد تركيا الاضطلاع بهذه الوساطة، ولا سيما أنها الوحيدة التي استطاعت أن تجمع بين وزيرَي خارجية البلدَين العام الماضي». ويبقى أن الطريق الوحيد الأكثر أمناً للجميع، بحسب آديبللي، هو الذي «يمرّ عبر البحر الأسود وتركيا، ولا سيما أن روسيا تقصف أيضاً الموانئ الواقعة على دلتا نهر الدانوب التي تتوزّع السيطرة عليها بين كلّ من أوكرانيا ورومانيا ومولدوفا». ويقول الباحث إن تجديد «اتفاق الحبوب» في هذه الفترة قد يكون «باباً لوقف شامل لاحق لإطلاق النار»، مشيراً إلى أن «2024 هو عام الانتخابات في العالم، حيث سيكون من مصلحة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أن يدخل الانتخابات الرئاسية وقد حقّق السلام في أوكرانيا». كما أن السفير الأميركي في أنقرة، جيف فليك، ذكر، في تصريح مكتوب، أنه واثق من أن تركيا ستواصل لعب دورها «الرائد والدقيق» في مسألة أمن الحبوب العالمي.
زيارة فيدان إلى موسكو تؤكدها مصادر عديدة، وسيكون عنوانها الرئيس التوصّل إلى اتفاق جديد للحبوب
زيارة فيدان إلى موسكو تؤكدها مصادر عديدة، وسيكون عنوانها الرئيس التوصّل إلى اتفاق جديد للحبوب. ويقول الباحث في «جامعة التطوّر» في إسطنبول، علي سيمين، إنه «لا يبدو أن أيّ فريق مستعدّ لوقف الحرب الآن. وهذا بالضبط سيكون فرصة لتركيا لتجديد جهودها للوساطة نحو اتفاق للحبوب ووقف النار». أمّا علي رضا طاشديلين، فينتقد، في صحيفة «آيدينلق»، الإعلام الغربي وتصريحات المسؤولين حول دعم أوكرانيا حتى النهاية، متسائلاً: «ماذا يعني حتى النهاية؟ هل حتى استعادة دونباس أو شبه جزيرة القرم أو الذهاب إلى موسكو؟». ويضيف: «كم هو مؤسف أن أميركا تريد توسيع الحرب في أوكرانيا، وقد نجحت في جذب الدول الأوروبية إلى جانبها. وبدلاً من أن تكون أوكرانيا جسر تواصل بين الغرب وروسيا، تحوّلت إلى بؤرة كراهية لروسيا»، داعياً تركيا إلى أن تقوم بدورها في هذا البلد، وأن تتوسّط في اتفاق حبوب جديد، وحتى في وقفٍ لإطلاق النار بين البلدين.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار