الرئيسية » تربية وتعليم وإعلام » في خدمة البروباغندا البيضاء: الإعلام الأميركيّ على حقيقته

في خدمة البروباغندا البيضاء: الإعلام الأميركيّ على حقيقته

| نزار نمر

«إذا كانت الحروب تبدأ بالأكاذيب، فالسلام يبدأ بالحقيقة»
جوليان أسانج
مؤسس «ويكيليكس»

«تذكّروا أنّ وسائل الإعلام الإخبارية ليست مستقلّة؛ هي نوع من لوحة إعلانات وشركة علاقات عامّة للطبقة الحاكمة – الأشخاص الذين يديرون الأشياء. هؤلاء الذين يقرّرون أيّ أخبار تسمعونها أو لا تسمعونها، يدفع أجورهم أولئك الذين يمتلكون القوّة الاقتصادية. إذا كانت الشركة الأمّ لا تريدكم أن تعرفوا عن أمر ما، لن يظهر في الأخبار»

جورج كارلن
كوميدي وناقد اجتماعي أميركي راحل

«إذا لم تكن حريصاً، ستجعلك وسائل الإعلام تكره مَن يتعرّضون للقمع وتحبّ مَن يقومون بالقمع»
مالكولم أكس
مناضل حقوقي أميركي راحل

غالباً ما تتفاخر دول الغرب، ولا سيّما الولايات المتحدة الأميركية، بإعلامها الذي تعتبر أنّها تعطيه «مساحة حرّية» كبيرة مقارنةً مع الدول الأخرى، ولا سيّما تلك التي تصفها بالـ«أوتوقراطية» التي لا تعطي المجال سوى لـ«الرأي الواحد»، وهي غالباً دول في ما يسمّى عالم الجنوب لا تعمل وفق مصالح الإمبريالية المركزية والنظام الرأسمالي النيوليبرالي المعولم. في الولايات المتحدة نفسها، ليست هناك قناة تلفزيونية رسمية أو مموّلة من الحكومة (رغم أنّها تموّل إذاعتَي «صوت أميركا» وRadio Free وقناة «الحرّة» الناطقة بالعربية، لكنّها كلّها موجّهة إلى غير الشعب الأميركي)، لادّعاء حرص الدولة على إعطاء الإعلام المجال لنقدها. لكن ما صحّة هذا الادّعاء، وهل يؤتي أُكُله في الحفاظ على رونق طوباوية «الديمقراطية» الأميركية، أم أنّه مجرّد ثوب مزركش يغطّي أكذوبة من مستوى «وهم الاختيار»؟ الغالبية الساحقة من سكّان العالم، موالين للولايات المتحدة ومعارضين لها، تسخر من القنوات الأميركية لـ«نشرها الأخبار الكاذبة»، وأشهر النكات حول هذا الموضوع هي تلك التي تسخر بشكل خاصّ من CNN (ومعها FOX وBBC وآخرون بشكل أقلّ). ينشر ناشطون بشكل دائم على مواقع التواصل الاجتماعي عناوين لصحف ومواقع إلكترونية غربية، مع تصحيحها لإظهار انحياز كاتبي تلك العناوين ومعاييرهم المزدوجة. فبحسب المنطق الذي تتّبعه تلك العناوين، شخص ذو بشرة داكنة قام بالسرقة من أجل إطعام أولاده يستحق أشدّ عقاب، أمّا آخر أبيض قتل 20 بريئاً فلا بدّ من أن يكون يعاني من اضطرابات عقلية. كذا إذا استشهد عدد من الفلسطينيين بنيران المحتلّ، تعتبر تلك العناوين أنّهم «ماتوا» وقد تضيف «تحت ظروف غامضة»، فيما لو ردّ أولئك الفلسطينيون على ترويعهم وقتلهم برمي حجر على أحد جنود العدوّ لعنونت أنّهم «إرهابيون» وجب «وضع حدّ لتصرّفاتهم». وهكذا دواليك.

لعقود خلت، لم يتنبّه كثير من الأميركيين إلى حقيقة إعلام بلدهم. لكن مع ظهور مرض كوفيد، بدأ الشكّ بينهم يتزايد بشكل غير مسبوق، ليبلغ ذروته مع تغطية الحرب الأوكرانية التي حاول الإعلام الأميركي خلالها إقناع الأميركيين بعكس كلّ ما كان يلقّنهم إيّاه حول فساد السلطات الأوكرانية والنازيين الجدد خلال السنوات العشر الأخيرة، وحول النازية بشكل عام منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. هكذا، ذهبت كلّ العناوين السابقة سدى، من أجل التركيز على الخطر الداهم الذي يشكّله «الدبّ الروسي» على الغرب المعولم، لنكون قبل أيام أمام فيديو انتشر على الإنترنت يظهر فيه عشرات المذيعين من قنوات أميركية مختلفة وهم يردّدون الخبر نفسه، حرفاً حرفاً، تماماً مثلما تُتلى البيانات في الدول الديكتاتورية! وهي بالمناسبة ليست المرّة الأولى التي ينتشر فيها فيديو كهذا، لكنّ أهمّية الأخير تكمن في انكشاف الأجندة والاستراتيجية الإعلامية المعتمدتَين حيال أوكرانيا، أمام الأميركيين أنفسهم هذه المرّة.

6 شركات تسيطر على 90% من وسائل الإعلام
المشهد الآنف ذكره قد يبدو غريباً في الشكل، لكن تتبدّى «طبيعيّته» مع الغوص وراء الكواليس. فـ90% من القنوات الأميركية، بأشكالها وألوانها و«اختلافاتها»، تعود ملكيّتها لـ6 شركات فقط. أيّ إنّ ستّ شركات تتحكّم بكلّ ما يراه ويسمعه ويقرأه مئات ملايين الأميركيين كلّ يوم. الأرقام تعود لدراسة أجريت سنة 2011 ونشرتها آشلي لوتز في تقرير لها على موقع Business Insider في تاريخ 14 حزيران 2012. الشركات هي News-Corp وGeneral Electric وDisney وViacom وTime Warner وCBS. وبحسب الدراسة نفسها، فإنّ الدمج بين «كومكاست» وNBC ضمَن احتكار 11 سوقاً منها نيويورك وشيكاغو. كذلك، فإنّ «نيوز-كورب» المملوكة من الملياردير الأميركي ذي الأصول الأسترالية روبرت مردوخ، تستحوذ على أكبر صحيفة في كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، هي «وول ستريت جورنال» و«ذا صن» و«ذي أوستراليان» توالياً. وتسيطر شركة مردوخ على 800 شركة أخرى حول العالم، منها Fox Corporation التي نشأت بعد انتقال ملكية 21st Century Fox إلى «ديزني» وصحيفة «نيويورك بوست» الأميركية ودار نشر «هاربر كولنز» وصحيفتَي «ذا تايمز» و«تلغراف» البريطانيتَين وإذاعة Virgin Radio وشركة «فوكستيل» الأسترالية، والأخيرة تستحوذ بدورها على ما يقارب الـ70% من القنوات الأسترالية بما فيها باقة قنوات «فوكس» و«سكاي نيوز أستراليا» و«نيكلوديون» وغيرها. وأقامت «نيوز-كورب» سنة 2021 اتفاقات مع كلّ من «غوغل» و«فايسبوك» تقضي باعتماد الوسائل الإعلامية المملوكة منها كمصادر أخبار موثوقة على الموقعَين المذكورَين.

يُجمع المحلّلون الأميركيون المعارضون لـ«الدولة العميقة» على أنّ لا شيء يُثبت توقّف «عملية الطائر المحاكي» في يومنا هذا، بل إنّ غالبية المؤشّرات تدلّ على أنّها اشتدّت حدّتها

حسناً، ما تفعله الشركات الستّ المذكورة لا يمكن أن يكون جيّداً. لكن إذا كانت تُعتبر قطاعاً خاصّاً، فما علاقة الحكومة الأميركية بالأمر؟ عدا أنّ مؤسّسي تلك الشركات هم من النخبة المتحكّمة بالولايات المتحدة والعالم، ومالكيها من أصحاب النفوذ في داخل الدولة ومؤسساتها من الكونغرس نزولاً، وإداريّيها يتمتّعون بحظوة لدى الدولة العميقة، وموظّفيها يخضعون للإغراءات والابتزازات، فإنّ نفوذ الحكومة الأميركية (بكلّ ما تمثّل) ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) في الإعلام الأميركي عمره من عمر هذا الإعلام نفسه، ما يجعل ادّعاء تعدّد الآراء باطلاً لا يعدو كونه تعدّد واجهات لرأي واحد من أجل إيهام المُشاهدين بحرّية الاختيار، وما يسمّى «نظرية الغرس الثقافي» جارٍ على قدم وساق. قد يظنّ الناس أنّ «فوكس» و«سي أن أن» مثلاً على تناقض تامّ سياسيّاً، لكنّ اختلافاتهما لا تتعدّى الأمور شبه السطحية التي يختلف عليها تقليديّاً المحافظون والليبراليون، فيما المشكلة تقع في مكان آخر؛ «الاختلاف» المذكور هو بهدف التفرقة بين الأميركيين حمايةً لمصالح «الدولة العميقة». هذه الاستراتيجية تنجح بشكل عام، إذ إنّ القناتَين المذكورتَين (والقنوات الأخرى بالتأكيد) عند الضرورة تنسى كلّ أجنداتها الجانبية وتوحّد جهودها، للتسويق لمصالح «الدولة العميقة» وأجهزة الاستخبارات وشركات الأسلحة والنفط والمصارف واللوبي الصهيوني. هذا ما تجسّد خلال غزو العراق سنة 2003، ويتجسّد كلّ يوم في الأخبار المنحازة إلى إسرائيل والناكرة لفلسطين وقضيّتها، وتجسّد أخيراً في أوكرانيا، منتجاً شريطاً كالذي انتشر منذ أيّام.

«سميث-موندت»
يُعرف قانون تبادل المعلومات والتعليم في الولايات المتحدة لعام 1948 (القانون العام 80-402) بقانون «سميث-موندت». اقترح القانون لأوّل مرّة عضو الكونغرس كارل موندت سنة 1945، فوافق الكونغرس وأحاله إلى الرئيس هاري ترومان الذي وقّع عليه عليه سنة 1948 ليصبح نافذاً. هدف القانون إلى تنظيم بث البرامج الموجّهة إلى الجمهور الأجنبي التي يتمّ إنتاجها تحت إشراف وزارة الخارجية، وقضت إحدى موادّه بحظر النشر المحلي لمحتوى هذه البرامج. لكنّ الأمر تغيّر في عهد الرئيس باراك أوباما، إذ تمّ إقرار قانون «تحديث سميث-موندت 2012» الذي سمح بنشر المواد التي تنتجها وزارة الخارجية ومجلس محافظي الإذاعة (BBG) على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة.
قدّم قانون «تحديث سميث-موندت 2012» عضو الكونغرس ماك ثورنبيري، وكان عضو الكونغرس آدم سميث أحد عرّابيه. سمح التحديث بالنشر المحلي للمحتوى الموجّه من الخارجية الأميركية. وادّعى سميث من أجل الترويج للقانون، أنّ تنظيم «القاعدة» كان يتسلّل إلى الإنترنت لبث المحتوى المناهض لسياسة الولايات المتحدة. ألغى التحديث فعليّاً أيّ تمييز بين الجمهور الأجنبي والمحلّي، واعتبر معارضوه أنّ ادّعاء «حرّية الإعلام» سقط وباتت الحكومة الأميركية تتحكّم بوسائل إعلامها بشكل مقونن.
«الطائر المحاكي»
أشهر تدخّلات «لانغلي» (مقر قيادة الـ CIA) كان «عملية الطائر المحاكي» (Operation Mockingbird)، وهي عبارة عن برنامج واسع النطاق بدأ في الحرب الباردة بهدف التلاعب بوسائل الإعلام في خدمة البروباغندا الأميركية، مجنّداً صحافيين أميركيين بارزين. أوّل ذكر للعملية بشكل علني كان سنة 1967 عندما كشفت مجلة «رمبارت» أنّ جمعية الطلاب الوطنية تلقّت تمويلاً من وكالة الاستخبارات المركزية. في عام 1975، كشفت تحقيقات للجنة الكنيسة في الكونغرس عن اتصالات وعلاقات سرّية للوكالة مع خمسين صحافيّاً. وفي تقرير له في «رولينغ ستون» سنة 1977، كتب كارل برنستين أنّ حوالي 400 صحافيّ قاموا بتقديم فروض لصالح الوكالة، بمن فيهم ناشر «نيويورك تايمز» آرثر سولزبرغر ومجلّة «تايم»، ووثّق كيف عملت فروع وكالات الأنباء الأميركية الكبرى في الخارج كـ«عيون وآذان» «عملية الطائر المحاكي» من أجل نشر البروباغندا البيضاء (أي التي تدّعي مناصرة المُشاهد المستهدَف فيما تحمل رسائل سياسية مبطّنة) عبر وسائل الإعلام الأميركية المحلّية. وقد اعترف عميل الـCIA السابق جون ستوكويل في مقابلة عام 1978 بتجنيد الوكالة صحافيين لنشر البروباغندا البيضاء في دول لاتينية وآسيوية. ويُجمع المحلّلون الأميركيون المعارضون لـ«الدولة العميقة» على أن لا شيء يُثبت توقّف «عملية الطائر المحاكي» في يومنا هذا، بل إنّ غالبية المؤشّرات تدلّ على أنّها اشتدّت حدّتها، خصوصاً بعد ما حصل للصحافي الألماني الراحل أودو أولفكوت (Udo Ulfkotte).
أودو أولفكوت
نشر أودو أولفكوت كتاباً سنة 2014 تحت عنوان «الصحافيون الألمان المُشترون: كيف يتحكّم السياسيون ووكالات الاستخبارات والتمويل بوسائل الإعلام الجماهيري في ألمانيا»، كتب فيه أنّ الـCIA وغيرها من الأجهزة السرّية كالمخابرات الألمانية (BND) تقوم برشوة الصحافيين لكتابة مقالات دعائية مؤيدة للـ«ناتو». وفي مقابلة له مع قناة «RT» بعد نشره كتابه، ادّعى أولفكوت أنّه خلال 25 سنة من عمله كصحافي، تمّ تعليمه على «الكذب والخيانة وعدم قول الحقيقة» وأنّ الـCIA دفعت له أموالاً لكتابته مقالات تدعم السردية الأميركية وأنّ الأمر يحصل في كلّ أوروبا، معبّراً عن ملله من الأمر وقائلاً ما معناه إنّه «طفح الكيل» ومبدياً تخوّفه من حرب في أوروبا تحرّض عليها الوسائل الإعلامية الموجّهة من الـCIA، وهو ما تبيّنت صحّته اليوم. واستدرك الصحافي الألماني في المقابلة نفسها أنّ المعلومات التي يدلي بها قد ترتدّ عليه، ولم يكن مخطئاً. لم تمرّ ثلاث سنوات على نشره كتابه حتى اكتمل المشهد بوفاته بـ«سكتة قلبية» عن عمر لم يتعدّ الـ51، في ظروف لم تقنع حتى أقرب المقرّبين منه، وأثيرت الشكوك حول وفاته وأشيرت أصابع الاتّهام إلى وكالة الاستخبارات المركزية التي اعتادت أن «تقصي» كلّ من يفكّر حتى بفضحها. هكذا قضى أودو أولفكوت محاولاً إعطاء جرعة من الحقيقة المخفاة للألمان بشكل خاصّ وللأوروبيين وباقي شعوب العالم بشكل عام.
خاتمة
كلّ ما ورد ليس سوى رأس جبل الجليد في عالم الإعلام الأميركي، إذ يتناول دور الحكومة الأميركية والـCIA بالتدخّل في الإعلام، لكن هناك تدخّلات من مختلف اللوبيات، من الصهيوني إلى السعودي، فلوبيات النفط والمصارف، وحتى أصحاب المليارات المستقلّين (مثل جورج سوروس وجيف بيزوس ومارك زوكربرغ وغيرهم)، وشركات التواصل الاجتماعي. كذلك، يتدخّل هؤلاء كلّهم (مع الحكومة) في ما يطلق عليه «الإعلام الجديد»، في داخل الولايات المتحدة وفي خارجها. البروباغندا البيضاء والرمادية التي كانت تُطلق عبر إذاعات وقنوات محلّية، تحوّلت نحو الإعلام الجديد من أجل غسل عقول الأجيال الحالية وإقناعها بعدم جدوى أمور مثل التحرّر الوطني والاكتفاء الذاتي والعدالة الاجتماعية وتصويرها على أنّها أصبحت «باهتة»، في مقابل إقناعها بالليبرالية والفردانية والخصخصة والعولمة باعتبارها «المستقبل» (كما اعتبرها روكفيلر في أوائل القرن الماضي). صحيح أنّه من الصعب مواجهة هكذا نوع من البروباغندا المقتدرة والمتغلغلة، إلّا أنّ واجب كلّ حرّ من أحرار العالم أن يتابع مسيرة جوليان أسانج وأودو أولفكوت وجورج كارلن وإدوارد سنودن وغاري ويب وأندري فلتشك وفيليب مارشال وغيرهم من ضحايا قول الحقيقة في عالم يعيش على أكاذيب الإمبراطورية.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار
x

‎قد يُعجبك أيضاً

التربية تتيح فرصة أخيرة للتسجيل بامتحانات الشهادات العامة بصفة دراسة حرة

أعلنت وزارة التربية اليوم عن فتح باب التسجيل للراغبين بتقديم امتحانات الشهادات العامة بصفة دراسة حرة، وذلك يوم الإثنين الموافق لـ الـ 29 من نيسان الجاري ...