*ميرفت أحمد علي
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ جوهرَ القيادةِ الثقافيةِ في تبايُنٍ حادٍّ مع نظيرهِ في الشؤونِ الحياتيّةِ الأخرى، فالقائدُ الثقافيُّ لا ينبغي لهُ أن يكونَ تابعاً أو مُجنداً لدى أحدٍ، أو بيدقاً في رقعةِ شطرنجٍ يُديرها ذوو الفضلِ و المنَّة فيما آلَ إليهِ أمره.. و متى ما تنازلَ هذا القائدُ عن شطرِ كرامةٍ، و أبدى انصياعاً جزئيَّاً أو تامَّاً لهذا و لذاكَ ، ابتُليت الثقافةُ بعاهةِ التدنِّي، و فقدتْ شطرَ كرامةٍ على مقاسِ و حجمِ الشطرِ المفقودِ لقائدِها، و المقدَّمِ كعُربونِ امتنانٍ لتلكَ الجهةِ النافذةِ أو لهاتيكَ. و مِن دواعي الأسفِ أن تُسلَّمَ أمانةُ الثقافةِ و مسؤوليتُها إلى المنقادينَ الصَّاغرينَ، و المنزلقينَ بكرامتهم الشخصيةِ إلى دركٍ مُخزٍ من تسوُّلِ المنصبِ.
و هذا الأُنموذجُ الكارثيُّ و العجائبيُّ في استجداءِ القيادةِ، يبدو للناظرِ المتأمِّلِ اليومَ و كأنّه (قانونٌ) متعارفٌ عليه، يحملُ معاييرَ و مُحدِّداتِ الشخصيةِ القياديةِ الثقافيةِ ، بصورةٍ عامةٍ لا تخلو من استثناءاتٍ. و كأنَّما أُريدَ لمجتمعِنا العربيِّ الموسومِ بالتَّقاعسِ الحضاريِّ أن تتكلَّلَ إخفاقاتهُ بنكسةٍ ثقافيةٍ متناميةٍ مُستديمةٍ، و هذا ما تقفُ المؤسساتُ الثقافيةُ ( شِبهُ الخاويةِ على عروشِها) منَ الناسِ اليومَ شاهداً دامغاً عليهِ. و أزعمُ أنَّ ظاهرةَ هجرِ المؤسسةِ الثقافيةِ ، و القطيعةَ بينها و بينَ مُرتاديها، بريئةٌ ــــ إلى حدٍ ما ـــــ منَ التعلُّلِ بالأوضاعِ المعيشيةِ الشاقةِ، و بغيابِ المثقفِ النوعيِّ (الاستقطابيِّ) الذي يعرفُ كيفَ يستحوذُ على اهتمامِ المتابعينَ ، و تكفي جدولةُ اسمهِ في منشطٍ ما، حتى يتدافعَ الناسُ إلى الحضورِ ،’ و تقومُ قائمةُ الثقافةِ، و تتفتَّقُ مهاراتُ المناقشةِ و المُحاججةِ فيما قرأَ أو ارتجلَ أو أغدقَ من نفيسِ أفكارٍ.
أيُّ خطَلٍ هذا الذي يجعلُنا ننحو باللائمةِ في فتورِ الحراكِ الثقافيِّ على المثقفِ؟ و على تراجُعِ أدائهِ؟ و نتعامى عن المؤسسةِ و عن تفاقُمِ أزمةِ القيادةِ و التنصيبِ فيها لغيرِ الأكفاءِ ثقافيَّاً و إبداعيَّاً؟ في الوقتِ الذي يكادُ فيهِ فلاسفةُ الشرقِ و الغربِ ـــ على حدٍّ سواء ــــ يُجمعونَ على أنَّ مقتلَ الأممِ في ثقافاتِها، و مقتلَ الثقافةِ في تبعيِّتها. و هذهِ التبعيَّةُ لا تجدُ لها نصيراً و لا حليفاً لدى المثقَّفِ الواعي، المستقلِّ، المتنوِّر فكراً و مبدأً. فمَن يتولَّى الدَّفةَ إذاً؟ إنَّهم قادةٌ لا يملكونَ من مهاراتِ القيادةِ إلا الاسمَ، فلا نسمعُ مِن طبَّالِ الإدارةِ الثقافيَّةِ و زمَّارِها إلَّا الجلبةَ و التلوُّثَ السمعيَّ، و تنظيراتٍ ساذجةً مُنبتَّةً عن أرضِ الواقعِ ، و رؤيةً واهمةً لإنهاضِ الراهنِ الثقافيِّ من كبْوتهِ، و الوعودَ بردمِ الهوَّةِ بينَ المثقَّفِ و المتلقِّي، و بينَ المؤسسةِ و مُرتاديها.
و يكادُ حالُ الثقافةِ يشبهُ حالَ فرسٍ كريمةِ السُلالةِ، جَموحٍ، كرَّارةٍ ، فرَّارةٍ، امتطاها مَن يجهلُ تقاليدَ الفروسيَّةِ؛ فسرعانَ ما أسقطتهُ الفرسُ، وولَّتِ الأدبارَ فارَّةً بأصالِتها و بنَفيسِ أصلِها من ساحٍ لا انبعاثَ لغُبارِ الفرسانِ النُّبلاءِ فيه.
إنَّ مأساتَنا الثقافيةَ تَدينُ ببلادتِها و بصنَميَّتها إلى من يجهلُ نفاسةَ الثقافةِ و فخامةَ حضورِها في حياةِ الشعوبِ، إلى من يجهلُ قيادةَ حاضرِها، و يتعامى عن نُزوفِها اليوميَّةِ الحادةِ، و يحصرُ جُلَّ اهتمامهِ في استغلالِ الموقعِ الإداريِّ الممنوحِ لهُ لحيازةِ و لتحصيلِ مكتسباتٍ شخصية، و مصالحَ خاصة آنيَّة، و لاستقدامِ وسائلِ الإعلامِ لتَبهيرِ صورتهِ أمامَ المجتمعِ، و لإضفاءِ التوابلِ و المُنكِّهاتِ على مُنجزهِ الثقافيِّ أو أدائهِ الإداريِّ المتواضعِ (أحياناً)، بينما يتسامى عن تلكَ النَّوازعِ و المُتعِ الزائلةِ ـــ عامداً متعمِّداً ـــ المثقفُ القديرُ ، و المبدعُ الموهوبُ، و المفكِّرُ المائزُ، و الفنَّانُ الجدليُّ لأسبابٍ يطولُ تِبيانُها و استعراضُها، في مقدَّمِها الاعتدادُ الباذخُ بالكرامةِ الشخصيةِ، و النَّأيُ بها عمَّا يُقزِّمُها.
و هذا ما عبَّرَ عنهُ (يوسف إدريس) قائلاً: (الثقافةُ هيَ المعرفةُ الممزوجةُ بالكرامةِ ، فلو كانتِ الثقافةُ تعني المعرفةَ فقط لما اهتاجتِ السلطةُ، فماذا يهمُّها مِن سابلةِ الثقافةِ و رِعاعها؟ إنَّما الذي يصنعُ الأزمةَ الدائمةَ هيَ الثقافةُ ذاتُ الكرامةِ، لها شُعاعُها الخاصُّ، تلمحهُ في بريقِ العيونِ، ووَضاءةِ الجبهةِ، و جلالِ العقلِ، و نَصاعةِ الموقفِ… إشعاعٌ يكشفُ الزِّيفَ، و يُصارعُ التلفيقَ، و يضربُ المُخاتلةَ)
فأينَ نجدُ نظيراً لمثقَّفِ (إدريس) ذاكَ، بينَ القادةِ الثقافييَّنَ الأَجلَّاءِ في عالمِنا العربيِّ اليومَ؟
(سيرياهوم نيوز ٦-١٢-٢٠٢١)