الدكتور طارق ليساوي
حاولت من خلال مقال ” من مشروع” كامبل بانرمان” إلى ملحمة “طوفان الأقصى”: فلسطين عقل الأمة و القدس قلبها ، و مؤشر ذلك موقف الشعب المغربي الذي أسقط التطبيع و أكد بوضوح من قلب العاصمة الرباط ” كلنا فلسطينيون”… العودة بالقارئ الكريم إلى البدايات الأولى لتقسيم العالم العربي و الإسلامي، و زرع كيان أجنبي -إستيطاني وعنصري- بقلب هذا العالم الموحد دينيا و جغرافيا، و المختلف حضاريا و ثقافيا و دينيا عن العالم الغربي المسيحي، عودة إلى المؤتمر التأسيسي الذي رسم خطوط المؤامرة الشيطانية التي قسمت و بلقنت العالم العربي و الإسلام .. عودة إلى الممارسات الوحشية و الوجه القبيح للعالم الصهيو-صليبي ، هذا العالم الذي أعلن بشكل سافر دعمه للكيان الصهيوني و إصطف إلى جانبه و دعم و أخفى جرائمه في حق الشعب الفلسطيني…و هذا الموقف العدائي هو نتاج طبيعي للتعاقد و التحالف القائم بين الغرب المسيحي و ربيبته و صنيعته “إسرائيل” …
و نحن نتابع موقف أمريكا و الغرب من طوفان الأقصى و تحيزهم الفاضح و السافر للكيان الصهيوني ، و مساهمتهم الفعلية في إبادة أطفال و نساء غزة ، نستحضر الموقف الإيجابي لتحالف الشرق و الذي تقوده الصين و روسيا، فكلا البلدين تبنى موقف حيادي و إيجابي ، و لم ينحرف بشكل تام بإتجاه إسرائيل ..
و بحكم معرفة الكاتب بالصين فإني سأحاول تحليل الموقف الصيني ، فبعد عملية طوفان الأقصى، أعربت الصين يوم الأحد 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ، في بيان أولي و موجز ، بشأن عملية طوفان الأقصى و التصعيد بين إسرائيل وغزة، عبرت من خلاله عن قلقها جراء التصعيد بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، ودعت جميع الأطراف لضبط النفس، و إلى اتخاذ موقف محايد، ولم يدِن أياً من الطرفين، ولم يقدم أي عرض محدد للمساعدة الفورية.
وقالت وزارة الخارجية الصينية، إن بكين “تشعر بقلق عميق إزاء تصاعد التوتر والعنف بين فلسطين وإسرائيل، وتدعو جميع الأطراف المعنية لالتزام الهدوء وضبط النفس ووقف إطلاق النار فورا وحماية المدنيين ومنع تدهور الوضع أكثر”.
ورفضت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية “ماو نينج “خلال مؤتمر صحفي، -إدانة الهجوم الذي نفذته المقاومة الفلسطينية تجاه الداخل الإسرائيلي، مؤكدة مساندة الصين دائماً للإنصاف والعدالة. حسبما ذكرت شبكة “غلوبال تايمز” الصينية.
وكررت وزارة الخارجية الصينية دعوتها إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما أغضب الغرب…ووفقاً للبيان الأولي المكون من فقرتين، الذي لم يذكر حماس بالاسم، “يجب على جميع الأطراف التصرف بضبط النفس”. وقالت الوزارة في وقت لاحق إنها “صديقة للطرفين”، وأعربت عن حزنها لسقوط ضحايا. ورأت بكين، في بيانها، أن “الاشتباكات المتكررة بين الفلسطينيين والإسرائيليين مؤشر على أن الركود الطويل الذي تشهده عملية السلام لم يعد قابلا للاستمرار”.
ودعت الصين المجتمع الدولي إلى تكثيف الجهود لحل الصراع واستئناف محادثات السلام بين الطرفين، والسعي إلى التوصل إلى سلام دائم، مؤكدة عزمها على بذل جهود حثيثة مع المجتمع الدولي لتحقيق هذه الغاية.
وضمن جهود الوساطة، صرَّح وزير الخارجية الصيني “وانغ يي”، بأن بلاده ستُرسل مبعوثها الخاص “قريبا” إلى الدول المعنية في الشرق الأوسط لوقف العنف ونزع فتيل الصراع الجاري في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل.
و يوم السبت 14 أكتوبر ، أعلنت وزارة الخارجية الصينية أن مبعوث الصين الخاص إلى الشرق الأوسط”تشاي جون” اجتمع يوم الجمعة 13 أكتوبر مع ممثلين لجامعة الدول العربية في بكين في جلسة طارئة بشأن الأزمة في قطاع غزة، وفق ما نشرته صحيفة “ساوث تشينا مورنينغ بوست” الصينية.
و رغم حرص الصين الواضح على عدم انتقاد أي طرف صراحة في هذا الصراع فإن تصريحات المسؤولين الصينيين أثارت اعتراضا إسرائيليا.
فوردا على الموقف الصيني، قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية، الجمعة 13 أكتوبر ، إنها أبدت في اتصال هاتفي مع المبعوث الصيني إلى الشرق الأوسط “خيبة أملها الكبيرة”، إزاء عدم إدانة الصين وبشكل واضح لما وصفته بـ”المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها حماس”، في إشارة لهجمات عملية “طوفان الأقصى…( المصدر –وكالات)
و أنا أتابع موقف الصين من عملية الأقصى ، أستحضر مقولة غالبا ما أكررها في تحليلي لمواقف القيادة الصينية من الأحداث و الأزمات الدولية ، فالصين إلى جانب تغليبها للحكمة و التأني و الهدوء الدبلوماسي و ضبط النفس ، إلا أنها أيضا ” تفكر من محفظتها” ، و هذه العبارة الموجزة و المعبرة، خير اختزال لسياسات الصين التجارية و الدبلوماسية، وحتى مواقفها تجاه القضايا الإقليمية أو الدولية نابعة من مراعاة المصالح الاقتصادية و التجارية، فهناك تغليب ظاهر للمصالح على الأيديولوجيا، فالصين التي يحكمها الحزب الشيوعي الصيني هي حليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية قائدة النظام الرأسمالي و هذا الحلف تشكل منذ نهاية عقد سبعينات القرن الماضي و غاية التحالف محاصرة الاتحاد السوفياتي أنذاك، بل إن الصين في الوقت الراهن و تحت قيادة الحزب الشيوعي هي جنة للشركات العابرة للحدود …
مفارقات غريبة و عميقة نقف عندها عندما نحاول تحليل مواقف الصين السياسية و الاقتصادية بعمق و موضوعية و ليس بسطحية و انفعالية…فمن خلال تحالفات الصين التي تشكلت طيلة العقدين الأخيرين نلاحظ أن الصين تلعب على كل الخيوط، و تغلب مصالحها الاقتصادية و الإستراتيجية بدرجة أولى، خاصة عندما تتعامل مع البلدان العربية، فهي من جهة تقر بعمق العلاقات بينها وبين العالم العربي و بلدانه، التي لم تدرك بعد أن تفككها يجعلها لقمة سهلة البلع من قبل القوى الدولية الكبرى بغض النظر عن توجهاتها العقائدية…و لكن من جهة أخرى تحالفاتها مع جهات أخرى تضر بمصالح البلدان العربية …
و لست متحاملا عل الصين و لكن الأمانة العلمية و إنتماء الباحث لأمته الإسلامية و العربية و لهذا الفضاء الجغرافي الذي نسميه العالم العربي ، يدفعه إلى تحليل الموقف الصيني تجاه العالم العربي بموضوعية و برغماتية، و المنطق يقتضي أن نتعامل مع الصين و نحن نضع إعتبارا لمكاسبنا الاقتصادية و السياسية و الجيواستراتيجية الآنية و المستقبلية، و لا يمكن أن نتعامل مع الصين بهذا المنهج و الرؤية، دون النظر إلى تحالفاتها المقابلة مع من نعدهم متنافسين أو خصوم إستراتيجيين …
و لتوضيح هذه الفكرة سأعطي أمثلة لتقريب الصورة للقراء و لصناع القرار في العالم العربي، لأني أرى أن من يتصدرون المشهد العام يفتقرون للحس الاستراتيجي و للفهم العميق و الدقيق لمجريات الأحداث و لحركة التاريخ إن على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي ، فلا ينبغي الحكم على مواقف الدول بالأقوال و الشعارات و إنما بالأفعال و القرارات…و الأمثلة التي سوف أستند إليها هي تحالف الصين مع إسرائيل…
ويذكر القارئ الكريم أني سبق و حللت تطور العلاقات بين الصين و إسرائيل ، و كيف أن الصين غلبت مصالحها الاقتصادية و الإستراتيجية، الموقف تدريجيا من إسرائيل ففي الفترة مابين 1949-1959 تميزت العلاقة بالبرود و السرية، و في الفترة مابين 1959-1969 تبنت الصين سياسة مؤيدة للعرب ومعادية لإسرائيل، كما قدمت الصين دعم غير محدود لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن في الفترة مابين 1969-1979 خفضت الصين من لهجتها العدائية تجاه إسرائيل، و أيضا خفضت من دعمها الغير محدود لمنظمة التحرير الفلسطينية، و في الفترة من 1979-1989 اعترفت الصين بـ “حق إسرائيل في الاستقلال والبقاء”، و سعت إلى إقناع الطرفين بالتفاوض وتحقيق السلام ؛ و في عام 1992 سوف تعترف الصين بدولة إسرائيل و تقيم علاقات دبلوماسية كاملة معها…
و هذا الإعتراف الرسمي أو التطبيع مع “الكيان الصهيوني” جاء متزامنا مع التحول في السياسة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية، بعد تبنيها سياسة الإصلاح و الانفتاح أواخر سبعينيات القرن العشرين، وتراجعها عن موقف التشدد الأيديولوجي الذي شهده عهد “ماوتسي تونغ” ورفعت شعار «مصالح الصين قبل كل شيء» ، إذ أرادت الصين توجيه سياستها الخارجية نحو الغرب للاستفادة من رؤوس أمواله بغية النهوض بالاقتصاد الصيني الذي أنهكته تجارب ماو. وبعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس “نيكسون” إلى بكين في العام 1972، والتي انتهت بتصفية الخلافات حول “تايوان” من خلال توقيع بيان “شانغهاي” الذي تمسكت بموجبه واشنطن بسياسة الصين الواحدة. وبذلك زال من أمام اسرائيل أكبر عائق اعترض بناء علاقات متطورة مع الصين، والذي تمثل بالرفض الأميركي المستمر لقيام هذه العلاقات.. والتقت المصالح الأخرى بين الدولتين من خلال العداء المشترك للاتحاد السوفياتي، فقد أدركت الصين أن إحدى أهم الوظائف التي أوكلت لإسرائيل، كانت مكافحة المدّ السوفياتي، وإضعاف علاقات موسكو مع الدول العربية. وفي هذا المجال التقت المصالح الصينية مع إسرائيل، حيث رأت الصين في الكيان الاسرائيلي حليفًا محتملا لإضعاف الاتحاد السوفياتي كما أنه مصدر من ضمن المصادر التي تمكن بكين من تأمين المشتريات العسكرية المتطورة والتكنولوجيا العالية، لذلك يشكل هذا العنصر مفتاح العلاقة بين إسرائيل والصين.. ففي العام 1980 جرت صفقة عسكرية بين الطرفين، حصلت بموجبها الصين على 54 طائرة مقاتلة إسرائيلية وعدة مئات من دبابات “ميركافا”، ومدافع ذاتية الحركة وعربات مدرعة وصواريخ جبرائيل المضادة للسفن، بالإضافة إلى مضادات الكترونية متنوعة، قدّرت قيمة الصفقة بحوالى بليون دولار.و بالمقابل أدركت إسرائيل أهمية تنويع علاقاتها وتحالفاتها مع القوى الكبرى، وأن نشاطها مع أوروبا وأميركا ليس كافيًا، وأن تحسين علاقتها مع الصين سيوفر لها ظروفًا أفضل للعمل في آسيا. و قد توجت هذه العلاقات السرية بتوقيع إتفاق في كانون الثاني 1992 يخرج هذه العلاقات من السر إلى العلن ، إذ وقع وزيرا خارجية البلدين آنذاك، “دايفيد ليفي” و”تشيان تشي تشنغ”، بيانًا مشتركًا يعلن إقامة علاقات بينهما على مستوى السفراء…
وقد شهدت هذه العلاقات توسعا بعد أحداث “ميدان تيانانمين” في يونيو 1989 ، فهذه الأحداث و ما أعقبها من فرض عقوبات غربية على الصين و التي شملت حظر و تجميد صادرات الأسلحة و التكنولوجيا العسكرية أو ذات الاستخدام المزدوج، إستغلتها إسرائيل بفعالية لتقوية علاقاتها بالصين، إذ أصبحت إسرائيل الباب الخلفي للصين للحصول على التكنولوجيا الغربية المتقدمة فقد أصبحت إسرائيل بالنسبة للصين مصدر موثوق للأسلحة و التكنولوجيا المتقدمة ، و هذه العلاقات المتقدمة بين الصين و إسرائيل في المجال الأمني و الدفاعي ، تطورت و توسعت بالرغم من معارضة الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجي للإسرائيل، فقد أعربت أمريكا في أكثر من مناسبة عن استيائها من العلاقات العسكرية الصينية الإسرائيلية. إذ إتهمت إسرائيل بشكل دوري بالنقل غير القانوني للتكنولوجيا التي توفرها أو تمولها الولايات المتحدة للصين..و بعد العام 2017 ستشهد العلاقات الإسرائيلية الصينية تطورا ملحوظا فقد قام رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بزيارة إلى الصين، تم خلالها توقيع ثماني اتفاقيات ثنائية، و تعززت هذه العلاقات أكثر بزيارة “وانغ كيشان” ، نائب رئيس جمهورية الصين الشعبية إلى إسرائيل في الفترة من 22 إلى25 أكتوبر من العام 2018، و بعد هذا التاريخ شهدت العلاقات الصينية الإسرائيلية توسعا في مجالات مثل الزراعة والتكنولوجيا والعلوم والثقافة و السياحة…
لكن في الجانب المقابل علينا التأكيد أن الاستسلام العربي و الانخراط المحموم في سباق التطبيع مع الكيان الصهيوني منذ معاهدة “كامب ديفيد” بين مصر و إسرائيل، و ما لحقها من اتفاقيات استسلام، أخرها اتفاق التطبيع بين المغرب و الكيان الصهيوني ،هذا التوجه الاستسلامي المفرط في الحقوق الشرعية، أسهم في تعزيز العلاقات الصينية – الاسرائيلية ، فلاينبغي أن نطلب من الصين أن تكون عربية أكثر من العرب، ذلك أن التطورات السياسية المحلية والدولية اللاحقة، كان لها تأثير عميق على مسار العلاقات الصينية الإسرائيلية، خاصة و أن التوسع الاقتصادي السريع للصين قاد بالضرورة إلى توسيع دائرة نفوذها السياسي في جميع أنحاء العالم. إذ بدأت جمهورية الصين الشعبية التي كانت تركز بشكل كبير على معالجة القضايا الداخلية، إلى التطلع للخارج و المشاركة الفعالة في الشؤون العالمية ، فسقوط نظام القذافي في ليبيا بإعتباره أهم حلفاء بكين على خلفية الربيع العربي، قاد إلى إعاقة أهداف سياسة بكين في المنطقة، و قادها إلى تكبد خسائر ضخمة بلغت نحو 20 مليار دولار…لذلك عملت بكين على مراجعة سياستها الخارجية تجاه شمال إفريقيا و غرب أسيا و أصبحت إسرائيل نقطة مركزية لتسهيل و تنفيذ سياسة الصين بالمنطقة…
و في سياق سعي إسرائيل لتعزيز علاقاتها مع الصين في مختلف المجالات، حاولت إسرائيل تطوير مفاهيم وفرضيات عديدة تخدم تطوير هذه العلاقات وتمتينها، و في مقدمة هذه الفرضيات أن إسرائيل دولة متطورة اقتصاديا وصناعيا، ولا سيما في التكنولوجيا المتطورة، سواء ما كان منها مرتبطا بالصناعات السلمية أو الصناعات الأمنية – العسكرية، وأنها تحظى بعلاقات متينة ومتميزة مع الولايات المتحدة، وأنها دولة مستقرة ولا تتعرض لثورات تهدد استقرارها، وأن لديها القوة الكامنة للمساهمة في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، وأن أجهزتها الأمنية متطورة وتُلم بمجريات المنطقة وأجزاء واسعة من العالم، و بعبارة بسيطة أن لها ما تقدمه للصين..
فضعف البلاد العربية و تفككها و غياب الرؤية يقود المنطقة إلى خسارة شركاء يمكن التعاون معهم ، خاصة و أن الصينيون يدركون أهمية الموقع الجغرافي و الحضاري و الاقتصادي للعالم العربي و هذا ما أكده لي أكثر من مسؤول في الحزب الشيوعي الصيني …و حتى لا أطيل عليكم سوف أرحل ما تبقى إلى المقال الموالي للمقال الموالي إن كان في العمر بقية.. و في الختام، تحية إجلال و تقدير لغزة و مقاومتها الباسلة و شعبها الجبار، و الرحمة و المغفرة لشهداء العدوان الصهيوني الغاشم ، و الخزي و العار للمتصهينين العرب ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم