د. بسام أبو عبد الله
الخميس, 02-09-2021
كثُر الحديث قبل قمة بغداد الأخيرة عن «الحاضر الغائب» في هذه القمة أي سورية، إذ لا يستطيع عاقل في الأرض أن يتصور قمة في بغداد عن جوار العراق، وسورية ليست حاضرة، فهذا التصور قاصر ومجنون، وخارج التاريخ والجغرافيا والمنطق، ذلك أن السؤال الذي يطرح: كيف يمكن للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يكون جاراً للعراق مثلاً؟ ويتحدث بكل وقاحة ونفاق عن الاستقرار، والتنمية، ومكافحة الإرهاب، في حين أن مخابراته، وبرنارد هينري ليفي قادوا لسنوات عتاة المتطرفين والقتلة جهاراً نهاراً، وبالصور والأدلة، وصدروا إرهابيين بقوائم تعرفها أجهزة مخابرات ماكرون، اسماً اسماً، ولقباً لقباً، وصورة صورة، ومع ذلك لم يتردد ماكرون في بغداد في الحديث عن المستقبل والتنمية التي قوضت أسسها سياسات فرنسا الحمقاء في العراق، والأهم سورية، حين اعتقد السياسيون الفرنسيون منذ الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي مروراً بخلفه فرانسوا هولاند، وانتهاءً بماكرون، إمكانية إسقاط الرئيس بشار الأسد، والنظام السياسي في سورية، لينتجوا نظاماً طالبانياً ولا أدري أين تكمن مصلحة فرنسا والشعب الفرنسي فيه، وما نقاط التقاء الثقافة الفرنسية مع ثقافة جبهة النصرة، والقاعدة، وداعش؟
هي أسئلة كثيرة ستلاحق كل السياسيين الفرنسيين، وغيرهم طيلة سنوات، وهنا سأذكر حادثة حصلت معي في ندوة علمية أقامتها الصين عام 2017 لخبراء معنيين بالشرق الأوسط كانت بعنوان «مستقبل الحل السياسي في سورية»، وشارك فيها آنذاك أحد السفراء الفرنسيين المكلفين بالملف السوري وهو الآن سفير ماكرون في قطر، حيث استخدم هذا السفير مصطلح «نظام الأسد- ASSAD Regime» في الجلسة المغلقة كعادتهم إذ يكررون المصطلح كالببغاوات، وحين اعترضت على المصطلح أمام رئيس الجلسة الصيني، وافقني ممثل الأمم المتحدة على اعتراضي لأنني استندت إلى ما تقوله الأمم المتحدة نفسها، فسورية عضو في الأمم المتحدة، والشارة أمام ممثلها تشير إلى الجمهورية العربية السورية، والمشاركات في جنيف كانت تتحدث عن وفد الحكومة السورية، إذاً أين ورد مصطلح «نظام الأسد»، الذي هو مصطلح سياسي إعلامي يروج له الغربيون ضمن إطار نزع الشرعية منذ بداية الحرب على سورية، وآنذاك قلت للسفير الفرنسي إنه يُفترض ببلادك العضو الدائم في مجلس الأمن أن تكون حريصة على المصطلح، واحترام القانون أكثر مني، ومع ذلك لم ينبس ببنت شفة إلا كلامهم المعتاد حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، وهي الأسطوانة المشروخة التي مللنا من سماعها، لأنها اليافطة التي يختبئون خلفها لإخفاء مصالحهم الحقيقية، كما حال الإخوان المسلمين الذين يتحدثون بالدين، ويجاهرون بحركات الضحك على الجمهور لتمويه أهدافهم الحقيقية، وتضليل الناس من خلال دغدغة مشاعرهم.
آنذاك سألت السفير الفرنسي في تلك الندوة، وقلت بأدب تربينا عليه في سورية، سعادة السفير، هل يمكن أن تجيبني على سؤال يحيرني منذ بدء الحرب على سورية: من الذي يخطط للإستراتيجية الفرنسية في سورية، والذي أعتقد أنه معادٍ للشعب الفرنسي؟ وهنا دعني أسأل: ماذا تريد فرنسا من مصالح في سورية أكثر مما كان قائماً بين البلدين: لغتكم لغة ثانية في مدارسنا، وكان لديكم مركز ثقافي نشيط وفعال، ودرّسنا مئات المعيدين والاختصاصيين في الجامعات الفرنسية، وكان هناك تعاون علمي يتطور، وعلاقات دبلوماسية فاعلة، وتعاون استخباري في مكافحة الإرهاب، وشراكة اقتصادية، حيث مصلحة البلدين، وأما خلال الحرب فقد تحولتم إلى ملحق صغير في مؤخرة قوات الاحتلال الأميركي، وحتى عندما قرر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سحب قواته من سورية لم يبلغكم! والحقيقة أن السفير الفرنسي لم يرد بكلمة واحدة، وصمت لأنه يعرف أنني أقول الحقيقة!
ماكرون زار لبنان مرتين لإيجاد حل سياسي، وفشل لأنه أتى بصفته موفداً أميركياً، وليس رئيساً فرنسياً يمثل فرنسا الديغولية، التي على الأقل كانت تعمل على اتباع سياسة موضوعية، ومستقلة عن سياسة واشنطن، وهو أمر انتهى، منذ لقاء الرئيسين السابقين جاك شيراك- جورج بوش الشهير وتعاونهم على إصدار القرار 1559، ومنذ ذلك التاريخ تحولت فرنسا في عهد كل من ساركوزي، وهولاند، والآن ماكرون، إلى تابع لواشنطن، وبدأت بفقدان دورها، وتأثيرها في المشرق العربي، فالتأثير يكون بالتعاون مع دول المنطقة، وليس بالتآمر عليها، وعلى مستقبلها، وبتمويل ودعم تنظيمات التطرف والإرهاب المتأسلمة، والتي أول ما ضربت واستهدفت المدن الفرنسية، والمواطنين الفرنسيين!
بدا ماكرون باهتاً وكذاباً في قمة بغداد، وفضحته لغة جسده كما هو حال الوزير التركي مولود تشاووش أوغلو، الذي يحتل جيشه أراض عراقية وسورية، ويدعم الإرهابيين، والمرتزقة، ولكنه في بغداد ظهر مُنظّراً ومتحدثاً عن التنمية والمستقبل، والأكثر نفاقاً في حديثهما كان عن مكافحة الإرهاب؟ إنه الكذب والنفاق بعينه.
وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان وحده الذي غرّد خارج سرب الحاضرين، وتحدث عن الأبطال الحقيقيين الذين قاتلوا داعش والنصرة، وغيرهم من شركاء ماكرون وأردوغان، وبقية الأخوة غير الأشقاء من العرب، الذين مولوا بمليارات الدولارات القتلة والمجرمين لتشريد السوريين والعراقيين وتدمير أسس الحياة والتنمية، التي بنوها خلال عقود من الزمن، ومع ذلك لم يتجرأ أي واحد من الحضور على ذكر المأساة السورية بالاسم لأن الحديث عن «الثورة» التي قادها قتلة ومرتزقة ومجرمون بقيادة غربية، وتمويل بترو دولاري وترويج إعلامي من الجميع، لم يعد إلا فضيحة مدوية لهؤلاء المنافقين جميعاً، ولهذا كيف يمكن لهم أن يضعوا عيونهم في عيون أي مسؤول سوري فيما لو حضر قمة بغداد!
على كل حال الرئيس العراقي برهم صالح حاول في «ملتقى الرافدين» تبرير عدم دعوة سورية لقمة بغداد، بالتأكيد على دورها وأهميتها، وبأنها كانت في جوهر المباحثات التي جرت على هامش القمة، إلا أنه لم يفصح عن السبب الحقيقي لعدم الدعوة، والارتباك العراقي الواضح قبل القمة، لكن دمشق الرسمية تتفهم الموقف العراقي الذي يدعم عودة سورية لمؤسسات العمل العربي، وتعمل على ذلك، لكن واشنطن لم تعط أحداً الإشارة، وهو السر الذي لا يمكن لأحد البوح به كي لا يظهر أنه ليس صاحب قرار، وهنا مربط الفرس أساساً.
الحقيقة المرة التي سيضطر الجميع للقبول بها أن سورية نقطة توازن المنطقة بأسرها، وأن محاولة ضرب نقطة التوازن هذه أدت إلى اختلالات على مستوى المنطقة والعالم، والتي كان الرئيس بشار الأسد قد حذر منها منذ بداية الحرب على سورية، والجانب الأهم أن لا أحد يتغير في هذا العالم وحده لأن الرحمة هبطت عليه فجأة، بل لأن دماء شهدائنا وجرحانا هي التي لا تزال شاهدة على همجية هؤلاء، كما أن ثبات وصلابة الشعب السوري وصبره على آلامه، وتحمله الهائل، وجيش سورية البطل، وقائدها الرئيس الأسد أجبروا كل هؤلاء على أن يغيروا مواقفهم على مضض، على الرغم من المكابرة.
المكابرة المستمرة لن تفيد كل هؤلاء حتى لو ماطلوا، فسورية ستبقى أسطورة بحاجة لتفسير، وقراءة أعمق لأولئك الذين اعتقدوا في لحظة ما أن بإمكانهم ابتلاعها لقمة سائغة ليغيروا من خلالها تاريخ المنطقة والعالم.
أما أردوغان الذي مازال يعتقد أنه لا يمكن تحريك حجر في المنطقة دون موافقة تركيا، فهو على ما يبدو لم يتذكر تصريحه بشأن الصلاة في الجامع الأموي، والذي أصبح في الأرشيف مع آلاف التصريحات العنترية التي لا تختلف كثيراً عن تصريحات دواعش درعا، فالزمن تغير، والتاريخ يصنع من جديد، تصنعه دمشق وحلفاؤها في المقاومة من طهران إلى بيروت إلى بغداد المقاومة، إلى اليمن إلى كل حرٌّ في هذا العالم.
العالم يولد من جديد، ويتحول تدريجياً، وسياسات المكابرة والإنكار لم تعد مجدية.
(سيرياهوم نيوز-الوطن)