عبدالوهاب الشرفي
استخدم الجيش السوداني قوات شعبية للقتال في الصراع المسلح مع المتمردين المسلحين في جنوب البلاد، قبل حل قضية جنوب السودان لاعتبار ان المناطق التي كانت تدور فيها المواجهات لاتساعد على القتال النظامي، وعرفت هذه القوات الشعبية بالجنجويد.
وبعد حل قضية جنوب السودان ظلت قضية دارفور قضية منشأها الرئيس قبلي، حيث كانت ترى ان قوات الجنجويد يغلب عليها الاصول العربية، وانها تضطهد الدارفوريين، واستمر القتال المسلح مع متمردين هذه المرة؛ هم الدارفوريين، واستمر القتال في مناطق لازالت تفرض وفق وجهة نظر الجيش السوداني؛ الاعتماد على القوات الشعبية التي خاضت مواجهات اتسمت بالعنف والانتهاكات بحق الدارفوريين وصلت الى محكمة الجنايات الدولية، ووصولا إلى ان اصبح رئيس الدولة حينها عمر البشير مطلوبا لمحكمة الجنايات الدولية على خلفية الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الجنجويد في دارفور .
.. فرض على الدولة السودانية ان تعمل على محاولة ايجاد حل لهذا المأزق، فهذه القوة ليست رسمية ولا تخضع واقعا لقيادة الجيش السوداني، ولا يمكن ان يكون الحل دمجها بالجيش بشكل مباشر؛ لأنها قوة شعبية غير مدربة وغير مؤهلة لخلطها بالجيش حينها، و جاءت الفكرة بتحويل قوة الجنجويد إلى قوة رسمية، ولكن ليس ضمن مؤسسة الجيش، وانما كقوة تتبع الامن والمخابرات.
أول ماتطلبه تنفيذ هذا القرار هو هيكلة قوات الجنجويد بقيادة عليا واحدة لها، واختير لقيادتها “حميدتي” كونه يحقق القبول كقائد للجنجويد؛ كونه من قبيلة ذات اصول عربية، ولكونه من قبيلة دار فورية ونافذ؛ ويمتلك قوة قبلت الدولة ان تضمها لجانبها، حيث يتم انجاز اعمال تأهيل لهذه القوة؛ ليصبح من الممكن دمجها بالجيش، وهو ما كان بدء بمنحها الصفة الرسمية والحاقها بجهاز رسمي، ثم بقيادة واحدة لها، وبرفدها بافراد من القبائل لتحقيق التوازن القبلي في تركيبتها، كونها كما سبق؛ كانت تتهم بالتركيبة ذات الاصول العربية.
.. كانت السودان في تلك الفترة تحت حكم البشير والمصنف ضمن تيار الاخوان، وكانت دولة الامارات تعمل في المنطقة حثيثا ضد سلطات الدول المحسوبة على تيار الاخوان، وكان السودان ساحة من ساحات العمل على تغيير السلطة فيها. و كان “حميداتي” مناسبا من وجهة نظر الدولة السودانية لقيادة قوات الدعم السريع، وكان كذلك مناسب من وجهة نظر الاماراتيين لطموحه وامتلاكه عدة صور من صور القوة؛ بما فيها لعب دور خارجي لم يكن يلعبه حتى الجيش، نحو ارسال قوة ضمن التحالف السعودي في الحرب العدوانية على اليمن وكذا تعاون الاوربيين معه في مواجهة الهجرة، ولوجود عائق امام طموحه؛ وهو انه ليس رجلا عسكريا، وان منحت له رتبة عسكرية رفيعة ووالته قوة توازي قوة الدولة، وهو ما استثمرته الامارات بشكل جيد.
لم يكن الوضع في السودان ذات الحال في مصر فالاطاحة بالاخوان امكن بقائد واحد لوجود جيش واحد في مصر، اما الوضع في السودان فالأمر تطلب رجلين لوجود جيش ووجود قوة باتت توازي الجيش. وتم تأمين الرجلين وكان البرهان للاستبدال في الدولة من جيشها، وكان “حميدتي” لكي لا تقف قوة الردع السريع مع السلطة وتستخدمها ضد الجيش الذي سيخرج عليه ويستبدله بالبرهان خصوصا ان “حميدتي” مطلوب للجنايات الدولية كرئيسه.
تمت الامور بنجاح واطيح بالبشير وبنظامه وأنقلب الجيش بالبرهان وأمّن الدعم السريع البرهان. ونجح العمل وكون مجلس عسكري انتقالي من شخصيات عسكرية من مؤسسة الجيش بإستثناء “حميداتي” الذي لاينتمي للمؤسسة العسكرية والمطلوب للجنايات الدولية.
لم يكن وضع “حميدتي” الرجل الثاني والبرهان الرجل الاول؛ وضع يعبر عن حقيقة الدور وحقيقة الرغبة الاماراتية المعين الاساسي لما تم في السودان، فالدور والرغبة للمعين الاساسي كانت في صف “حميدتي” لكن لم يكن ذلك ممكنا لكونه ليس عسكريا وليس ابن مؤسسة الجيش ويصعب وضعه في موقع الرئيس للبلد والقائد للجيش بالتبعية.
بتخلق مجلس السيادة العسكري اصبحت المسألة ماسة بالامن القومي المصري؛ وبالجيش المصري مباشرة، فالأمن القومي المصري يتطلب الرسمية لقيادة اهم دولة بالنسبة للامن القومي لمصر، والجيش المصري على علاقة وثيقة ومحورية بالجيش السوداني؛ بل كان في يوم ما جزء منه، كما ان التحديات التي تواجه مصر والسودان؛ وتجمع البلدين معا كملف سد النهضة الاثيوبي ليس امامها فرصة للترتيب في متوسط او طويل المدى وصولا لتحقيق الرغبة الاماراتية. والارادتان الاماراتية والمصرية اللتان توحدتا قبل مجلس السيادة العسكري اختلفتا بعد تحقيقه، فالأولى تفضل “حميداتي”، والثانية لن تقبل غير البرهان.
وترتب على اختلاف الارادتان ازمة في العلاقة المصرية الاماراتية ظهرت على السطح قبل ان تفرض الارادة المصرية ارادتها على الاماراتية؛ وتتقبل الترتيب للبرهان و التخلي عن “حميداتي”.
في الوقت الذي كانت تظهر ازمة ترتيب الوضع السياسي والعسكري في السودان فيما بين المجلس العسكري وبين القوى المدنية؛ كان هنالك ازمة اعمق لا يعرفها في البداية ولا يعرف عمقها بعد ان ظهرت إلا الرجلين فقط البرهان و”حميداتي”.
يرى “حميداتي” انه الرجل الاول في صناعة الحالة السياسية الجديدة في البلد بالاطاحة بالبشير ونظامه، ويرى ان الترتيب الذي يتم العمل عليه للتحول المدني خطر على طموحه وخطر عليه كذلك، وقد يتخلص منه لاحقا بتسليمه للجنايات الدولية، كما تعرض رئيسه له بعد انقلابه عليه. فالتحول المدني يتطلب خطوة للخلف بدلا عن خطوة للامام التي كان ينتظرها وان هذه الخطوة للخلف اذا تمت على النحو الذي يتم الترتيب له ستكون خطوة للخلف للمجلس العسكري، اما بالنسبة له فهي خطوات وليس خطوة فقط. فهو ليس ابن المؤسسة العسكرية وما سيتفق عليه هو دمج قوته التدخل السريع بالجيش الذي لن يمكنه قيادته، ولن يمكنه حتى ان يكون قائدا محوريا فيه، فرتبته الكبيرة هي رتبة فخرية ووجوده وحضوره شخصيا اعتمد على القوة التي هي بيده، والتي سيخسرها بدمجها في الجيش. كما انه لم يعد يضمن حتى حضورا سياسيا مدنيا قويا يمكنه ان يتحول اليه؛ لانه بعد دمج قوته بالجيش لن يكون من قوة يعتمد عليها إلا الحلفاء السابقين الذين استخدموه وهؤلاء الحلفاء لم يعد من الممكن الركون عليهم؛ فقد تعرض لخيانة منهم بتحولهم للبرهان وتخليهم عنه.
كان الحراك السياسي في البلاد يتشكل باتجاه دمج قوة حميدتي قبل التحول المدني للسلطة في البلد، وكان “حميداتي” يريد ان يكون التحول المدني قبل دمج قوته بالجيش حتى يضمن الوضع الذي يرى انه هو الذي يستحقه لا غيره من كل المشاركين في الحراك السياسي في البلد، وجاء الموقف الخارجي داعما لما يشكله الحراك السياسي، وان حسم ملف دمج قوته بالجيش يجب ان يحسم بجدولته، وتحديد مدى زمني قريب لانجازه، وما من مجال لتحديد مدا زمنيا طويلا للانجاز يتيح لحميداتي ترتيب وضع يرضي غروره ويحقق أمنه الشخصي؛ باعتباره مطلوب للجنايات الدولية، وكل ذلك اعتمادا على القوة التي في يده؛ قبل ان يتخلى عنها، وبالمقابل اصبح على البرهان ان ينتزع هذه القوة من يد “حميداتي” بأسرع مدى زمني ممكن.
وقبل انفجار الوضع في السودان بساعات كان الحراك الظاهر قد اعلن انباء مبشرة جعلت السودانيين ينامون على تفائل، لكن الامور وصلت فيما بين البرهان وحميداتي إلى نقطة يا “أنا” يا “هو”، وليتبخر تفائل السودانيين ويجدوا انفسهم وبلدهم بصورة مفاجئة وغير متوقعة، وغير متصورة في قلب صراع عسكري لم تعرف السودان مثله من قبل، ويهدد البلد وجوديا، وثلاث ساعات فقط كانت كفيلة ان تنقل المواجهات من الرصاص إلى الطائرات الحربية في مواجهة “حميداتي” الذي يخوضها بقوة لايستهان بها؛ لكنه يخوضها وحيدا، والبرهان الذي يخوضها ومعه الكل تقريبا في الداخل و من الخارج.
إنما تشهده السودان من مواجهات عسكرية هو المصير الذي ينتظر أي بلد كانت توجد فيه قوى مسلحة خارج الدولة، أيا كان شكلها أو طبيعتها او توجهاتها، وان بدا الحال غير ذلك لبعض الوقت. وما يؤسف له ان ما يحصل في السودان مهدد للمدنيين في غاية الخطورة، الا اذا تدخلت عناية الله ليتعقل من في الداخل، وليلعب الخارج دورا مسئولا تجاه السودان، ونسأل الله ان يجنب المدنيين في السودان وبلدهم كل سوء ومكروه.
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم