آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » لهّاية الراعي..!

لهّاية الراعي..!

 

مالك صقور

مرة ثانية وثالثة وعاشرة أعود إلى هذا الموضوع :
في الطفولة البعيدة ، حين كنا نذهب للرعي ، خاصة ، بعد موسم الحصاد في الحقول الفسيحة ، التي ضاقت جداً هذه الأيام . كانت أمي توصيني بعدم اللعب ب (صَلْي) الأفخاخ للعصافير ، أو حفر ( الطافوحة ) ، لكنها تحذرّني جداً من الإستسلام للهاية الراعي .
ولهّاية الراعي أو لهاية الرعيان – طير صغير من فصيلة ” الدرغل ” . يتميز بلونيه الأسود والرمادي . هذا الطير الصغير الذي ما عدنا نعرف له اسماً غير ((لهّاية الراعي )) عكس الطيور الأخرى ، فهو أليف جداً ، ويأنس للإنسان ويقترب منه . ولما كان الراعي أكثر تواجداً في البرية ، فالطير هذا يأتي إليه ويحط على مقربة منه ، طالباً الأنس أو التسلية في هذه البرية المقفرة . أو كأنه سيقول له شيئاً أو يحدثة .. لكن الراعي ما أن يرى هذا الطير على بعد شبر أو فتر من حذائه ، حتى تستيقظ فيه غريزة الصيد الأولى ، فيهّم بالتقاطه ، ويبقى الطير ينظر إليه بلا حركة ، حتى تكاد يد الراعي أن تُمسك به ، فيفّر حالاً ولكن لا يبتعد أكثر من شبر واحد ، ويعود ينظر إلى الراعي ، وكأن شيئاً لم يكن . ويعاود الراعي المحاولة بإمساك هذا العصفور الذي يبدو أنه يُحب أن يلاعبه . وفي كل مرة ومحاولة يكاد الراعي أن يقبض على هذا العصفور ويظفر به ، لكن هذا الطير أسرع منه ، فيقفز حالاً خطوة وأقل ، لكن لا يبتعد عن قدمي الراعي . وهكذا ، يستمر الطير بإغراء الراعي بالإستكانة والقرب والراعي يصدق هذا الإغراء فيجري خلفه ، خطوة فخطوة … وهكذا دون جدوى ، حتى يبدو وكأن الطير يلاعب الراعي ، ويمضي الوقت بسرعة . وما أن يلتفت الراعي إلى الوراء حتى يصاب بالذعر لأنه يدرك أنه قطع مسافة طويلة ، وقد تفرق القطيع ، واقتحم مزروعات مجاورة وسبب أضراراً بها أو تعرض لهجوم ذئب أو ضبع أو ثعلب أو حرامي .. فيعود راكضا ً لاهثاً يجمع ما يستطع من القطيع قبل المغيب .
وعلى الرغم ، من معرفة الرعيان لهذه اللّهاية ، إلا أن إغراء لهاية الراعي لها سطوة ليس من السهل الإنعتاق منها .
في هذه الأيام ، ماعادت هناك سهول فسيحة للرعي ، وماعاد هناك قطيع من الماشية كما كان أيام زمان . فانتقلت لهاية الراعي إلى البيوت ، وليس بوسع أحد أن يوصي أولاده بعدم الإستسلام لهذه اللهّاية ، لإنها تغري الكبار والصغار . ففي الركن الأرحب في البيت يقبع الكمبيوتر أو اللابتوب . والتلفاز يحتل الصدارة في الصالون أو في غرفة الجلوس ، وإنْ كنت شاطراً لا تستسلم لهاتين اللهّايتين .
وبما أن عصرنا هو عصر المعلوماتية بامتياز ، وعصر الاتصالات والسوشل ميديا ، فإن عاقلاً واحداً أو واعياً أو نصف عاقل أو نصف واعٍ لن يقف ضد “ثورة” المعلوماتية ومشتقاتها وأخواتها وتوابعها ، أو ضد هذا التطور العاصف الذي حوّل الكرة الأرضية برمتها إلى ” قرية كونية صغيرة ” تستطيع أن تسمع أخبارها من الجهات الست بلحظة واحدة وتشارك برأيك وأن تعلق ما شئت وبكل حرية . وهذا كله من فضل ربي – وسبحان من علّم الإنسان ما لم يعلم . فمن يقف ضد العلم إلاّ الجاهل ، فالكمبيوتر له إيجابيات لا تُعد ولا تُحصى وهو علم ومن يقف ضد التطور والعلم إلاّ الجاهل والمتخلف ؟!! وهذا العلم وهذا التطور جيد جداً لمن يُحسن استخدامه ويستفيد منه ويستثمره إيجابياً . لكن هناك أغلبية ساحقة تحول الكمبيوتر إلى أداة للتسلية والألعاب أو عرض الأفلام الوضيعة المنحطة والإباحية ، والطرب الذي يُفسد العقل والذائقة الفنية ويشوّه الذوق . بالإضافة إلى كل ذلك دسّ المعلومات الخاطئة والكاذبة التي تتلقفها عقول الأجيال الشابة التي ليس لديها العمق المعرفي والثقافي كي تعرف الصح من الخطأ .
وهكذا ، دخلت لهاية الراعي ، لا بل قل سرب من اللهايات إلى كل بيت بأسلوب عصري وتحت غطاء الحاجة والضرورة . وهذا ما نبّه إليه الإميريكي هربرت شلر تحت عنوان : ” التلاعب بالقلوب والعقول ” ؛ كذلك حذّر منه روجيه غارودي في كتابه :” ثقافة اللامعنى ” .
وإذا كان جيلنا قد اكتسب شيئاً من المناعة البدنية وشيئاً من المناعة الثقافية فإن الأجيال الناشئة معرضون لنقص المناعة البدنية والثقافية . ومن المؤكد أن الأطفال بعد سنوات قليلة سيصبحون مثل الضفادع : أدمغة منتفخة فارغة من الإدمان على النظر في الهواتف المحمولة والكمبيوترات ذات الإشعة القوية النافذة ، وعيون جاحظة وايدي واصابع نحيلة ضعيفة لعدم العمل .. ومالعمل ؟ّ!
(موقع:أخبار سوريا الوطن)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نهاية “قيصر” وآمال الشعب السوري

      بقلم المهندس باسل قس نصر الله   بدأت قصة قانون قيصر عندما انشقّ المصوّر العسكري السوري “فريد المذهّان” عام 2013 — والذي ...