كانت الانقلابات التسعة التي شهدتها القارة الأفريقية، في غضون ثلاث سنوات فقط، كافيةً لإعطاء صورة واضحة عن مدى فشل السياسات الغربية، وعلى رأسها تلك الفرنسية، في منْع انهيار أنظمة الحُكم واحداً تلو الآخر، على رغم الدعم المستمرّ الذي قدّمه الغربيون لحكّام ظَلّ بعضهم على رأس السلطة لعقود كاملة. بيد أنه، وفيما تبدو الصورة العامّة على هذا الشكل، يبقى لكلّ حدث من هذه الأحداث خصوصيته؛ فليست الانقلابات جميعها متشابهة، سواءً من حيث الشكل أو الأسباب أو الدوافع بالنسبة إلى أولئك الذين تمنحهم «فرصة» الحُكم. وهو اختلاف ينعكس، على سبيل المثال، تفاوتاً في حدّة الموقف الغربي، ولا سيما الفرنسي، إزاء أحدث انقلابَين في القارة السمراء، ما يثير تكهّنات بأن باريس ربما كانت «راضية»، بل وحتى «محرّضة»، على أحداث الغابون.
ففي الأيام التي تلت إطاحة علي بونغو، ركّز الإعلام الفرنسي على إيصال ما مفاده بأن انقلاب الغابون «ليس هو نفسه انقلاب النيجر»، وإن لم ينكر المحلّلون والإعلاميّون أنّه قد يضرّ إلى حدّ كبير بمصالح فرنسا، حليفة الرئيس المعزول، وأبرز داعمي «سلالته» تاريخياً. إذ رأت صحيفة «ليبيراسيون»، في افتتاحيتها، أن الوضع في النيجر «مختلف» عن ذلك الذي في الغابون، فيما وصفت صحيفة «لو فيغارو» الانقلابَين بـ«التوأمين غير المتطابقَين». أمّا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وعلى رغم تنديده بانقلاب الغابون، ومطالبته العسكر بإعادة الأوضاع إلى «طبيعتها»، فقد نبّه، بدوره، إلى الاختلاف «الجذري» بين الحدثَين. لا بل إن وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، ذهب تقريباً إلى حدّ «تبرير» خطوة الانقلابيين الغابونيين، معتبراً أنّها حصلت في أعقاب انتخابات شهدت الكثير من «الانتهاكات». ومن جهتهم، شارك العديد من المحلّلين والإعلاميين الفرنسيين، بوريل موقفه، مذكّرين، في كلّ مرّة، بأن عائلة الرئيس المعزول حَكمت البلاد منذ عام 1967، وأن الانتخابات جرت بلا أيّ «رقابة دولية»، ومندّدين بـ«انقطاع الإنترنت» خلال عملية الاقتراع، وغيرها من المظاهر التي تُفقد الانتخابات الأخيرة «مصداقيتها».

وإزاء ذلك، لا عجب في أن تساور مَن يتابع الأحداث الأخيرة في الغابون شكوك في أن الانقلاب حصل «برضى فرنسا أو غيرها من القوى الغربية»، أو أن باريس كانت تفضّل فعلاً التخلُّص من علي بونغو الذي «لم يَعُد مؤهلاً للحكم»، تجنُّباً لوقوع انقلاب «لا يلائمها» على المدى البعيد، فيما تبقى النقطة الوحيدة الواضحة، وسط كلّ هذه التكهّنات التي تفتقر، إلى الآن، إلى أدلّة حاسمة، أن انقلاب الغابون لا «يؤرّق» فرنسا كما فعل، ولا يزال، الانقلاب في النيجر أو غيرها من دول الساحل الأفريقي. كذلك، يَظهر أن تداعيات الانقلابَين الأخيرين، على النفوذ الفرنسي في القارة، مختلفة جداً، بل متناقضة حتى؛ إذ فيما أفادت مصادر فرنسية، في وقت سابق، صحيفة «لوموند»، بأن باريس بدأت مفاوضاتها مع النيجر لـ«سحب بعض قواتها»، في أعقاب إلحاح المجلس العسكري على هذه الخطوة، جنباً إلى جنب مطالبة المتظاهرين المؤيدين للانقلاب، فرنسا، بـ«الخروج» من البلاد، لا تشهد الغابون، حتى الساعة، مثل هذه المظاهر، ولا هي تعبّر عن النزعة «العدائية» ذاتها تجاه فرنسا والقوى الغربية الأخرى، بل إن بعض المؤشرات تدلّ على أن مصالح فرنسا وغيرها من القوى الخارجية، لا زال، أقلّه راهناً، آمنة.

«ثورة القصر»

بعد تعيين الجنرال بريس أوليغي أنغيما رئيساً انتقالياً للبلاد، نشرت صحيفة «لوموند» تقريراً بعنوان: «في الغابون، الجنرال أوليغي أنغيما يترأس (ثورة القصر)»، في إشارة إلى أن الرئيس الانتقالي هو «قريب بعيد» لعلي بونغو، ورئيس «الحرس الجمهوري» سابقاً، والذي كان موكلاً حماية الرئيس. وفي هذا السياق، نقلت «لوموند»، عن مصادر عدّة، قولها، إنه «قبل تولّيه منصبه الجديد، استدعى الجنرال أوليغي أنغيما مجموعة من قادة وسط أفريقيا، والسفير الفرنسي في العاصمة ليبرفيل، في محاولة لطمأنتهم إلى نواياه». وأضافت الصحيفة، نقلاً عن مصدر أجرى حواراً مع الرئيس الانتقالي، أن الأخير «رجل معتدل وكتوم. أخبرني أن الجيش لم يَعُد يريد أن يقتل الغابونيين بعد كلّ انتخابات». وتابع المصدر أن «انقلاب أنغيما لا يتبع المنطق نفسه لدول منطقة الساحل الأخرى»، مشيراً إلى أن الرجل لا يفكّر حتى في «مطالبة الفرنسيين بالمغادرة».

لا عجب في أن تساور مَن يتابع الأحداث الأخيرة في الغابون شكوك في أن الانقلاب حصل «برضى فرنسا»

و«ثورة القصر» هو التوصيف الذي أطلقته أيضاً المعارضة في الغابون، برئاسة ألبير أوندو أوسا، الذي ادّعى فوزه في الانتخابات الأخيرة بـ«فارق كبير»، على الانقلاب، وسط حديث عن أن باسكالين بونغو، شقيقة الرئيس المعزول، هي مَن «خطّطت» للخطوة للحفاظ على «النظام القائم». وعندما يجري الحديث عن «حماية» النظام، يُقصد، وفق مراقبين، منْع أيّ انفجار اجتماعي قادم، في خضمّ تدهور اقتصادي واجتماعي كبيرَين تعيشهما الغابون، التي شهدت أيضاً، في عام 2019، محاولة انقلابية فاشلة. واللافت، هنا، أن أولى الخطوات التي اتّخذها «الرجل القوي الجديد في البلاد»، سعت إلى طمأنة أرباب العمل الوطنيين والدوليين تحديداً، إذ شملت وعوداً بالمضيّ قدماً في خصخصة إدارة صندوقَي الرعاية الاجتماعية (CNSS و CNGAMS) في البلاد، الأمر الذي لاقى ترحيباً كبيراً من قادة الأعمال. وفي أعقاب المواقف الأخيرة للانقلابيين، رأى البعض أن المعارضة الغابونية، التي سبق أن عبّرت عن مواقف مناهضة لفرنسا، واحتجّت على زيارة ماكرون في آذار الماضي إلى البلاد، قد تشكّل خطراً أكبر على المصالح الفرنسية والغربية من «السلطة الانتقالية» الحالية، وأن هذه الخطوة الأخيرة قد «تقطع الطريق» أمام توليها السلطة في المستقبل القريب.

مَن المحرّض؟
يُرجع البعض «الهدوء» الفرنسي والغربي النسبي، إلى أن فرنسا، وإنْ حافظت على علاقات وثيقة مع علي بونغو، إلّا أنها لم تجد فيه حليفاً بنفس «قوّة» والده، عمر بونغو؛ إذ حتى قبل تدهور صحته، ثمّ مواجهته انقلاب عام 2019، فاز علي بونغو في انتخابات «محفوفة بالمخاطر»، بفارق نحو 5 آلاف صوت فقط، قبل اندلاع تظاهرات مندّدة بالنتيجة في جميع أنحاء البلاد، اضطرّ الجيش لاحقاً لقمعها. أمّا الجهات التي تنفي أن يكون الانقلاب قد حصل بناءً على تدخّل خارجي، فتشير إلى إمكانية أن يكون جزءٌ من «البرجوازية الوطنية» قد بدأ يرى في حكومة بونغو تهديداً وشيكاً سيتسبّب بزعزعة الاستقرار والإضرار بمصالح هؤلاء، ما دفعهم إلى تشجيع «انقلاب القصر» الأخير، الذي يسمح بتوجيه الغضب الشعبي نحو إطاحة الرئيس، مع الحفاظ، في الوقت عينه، على «جوهر النظام» الذي يخدم مصالحهم.
على أن الانقلابات السابقة، وتلك التي قد تأتي «لاحقاً» في دول كالكاميرون ورواندا وبنين، وإنْ اختلفت في ما بينها، فتّتسم بعدّة قواسم مشتركة، أبرزها – بحسب تقرير نشرته مجلة «فورين بوليسي» -، إلى جانب «الحكم الأسري المستبد»، وتفرّد طبقة صغيرة من النخب بالثروة، وعدم استفادة هذه البلدان من مواردها تاريخياً، «الصمت الغربي» الكبير تجاه الحكّام وآلية حكمهم، خاصّة من جهة فرنسا، التي اعتادت استقبال القادة الذين تتمّ إطاحتهم، واحداً تلو الآخر.