| ضياء البصير
قد نكون ك ‘سوريين’ أكثر شعوب العالم تآلفاً مع فكرة السفر، حتّى أنّ السفر لم يَعد نقاشاً، وجهة السفر فقط كذلك، يُقال بأنّ شتاتنا لا يُقارن بشتات الآخرين من الدول صَعبة المَعيشة، ويُقال بأن شتاتنا الإجمالي قد وصل إلى 200 وجهة في العالم.
من كُل هذه الوجهات أناقشُ حيّزي:
ما الذي يعنيه أن تكون سورياً في مصر؟.
لقد هاجرتُ إلى الجمهوريّة المصريّة قبل رأس السنة بالضبط، وهذا يعني بأنني قد أتممت شهري العاشر هُنا، وبهذه الشهور ومنها أريدنا أن نعتبر كُل كلامي: زاوية خاصّة فيّ لرؤية الأمر، زاوية قد أختلف بها مع مُهاجِر آخر من أهلي هُنا وقد أتفق.
ولكي أُسهّل عليكم قراءة الأمر أحبُّ أن افترض أسئلةً قد تسألوها، ثُم أُجيب عليها، أُجيب أخوتي الذين قدّ ضاقت عليهم الدِيار وصار موعدُ اختيار الوجهة، وقرروا اختيار موقع قريب من بلادهم، ليس إلّا حّبّاً ربما بما قد خلى من الأيّام..
هل يُعامِلنا المصريّ مُعاملةً لائقة حقاً؟
هذا السؤال أحبُّ أن أقسمه إلى نصفين، شعبياً: ‘سأقول عبارة ربما قد تبدو رومانسية لكنّها حقيقة أكيدة، وحدة ١٩٥٨ لم تتآكل بمعظم أجزائها، لم تُفتّت، لقد لمستُ هُنا حناناً من لدُنهِم.. فالسوري مُرحّبٌ به أينما حلّ في أرضهم الكَبيرة، هذه الصحراء فَتَحتْ يدها للجميع وجادتْ بموجوداتها، السوري عندهم لا يُهان، لا يُذلّ ولا يُميَّز فقيراً، ولا يُنبَذ غنيّاً، قريبٌ إليهم حلبي وشامي وأدلبي.. إلخ. وهذا عندي، على الأقل عندي، كُل شيء، كنت أبحثُ منذُ البداية عن أرض أهلها بقلوب وسيعة… خفت أن تَصيرَ مُعضلتي بثيمة فلسطينيّة: المفتاح والأبواب.
هل هذا الترحيب هو طبع مصري لا يختصّ بالسوري وحده؟
يُقال أنّ المصري هذا العاديّ عنده والطبيعي وأنّهُ يعامل الجميع بما يُعامل السوري، أي أنّهُ لا يختصّهُ بشيء، وهذا كلام غير صحيح! لا ألمس للحقيقة هذا الترحاب مع السودانيين ولا الفلسطينيين وربما حتى مع أهلنا المغاربة ومع أهلنا في الخليج.. (وهنا لا أقول بشكل بدهي أنّهم عنصريين مع من ذكرت، على العَكس، ‘لكن بكل تأكيد لا يهتمّون بأمر الجميع كما يهتمّون بأمرنا).
أمّا حكومياً.. فالأمر يُلخّص بعبارة واحدة: (نُعامل مُعاملة المصري) لا تظن بأنّ هذا بمنتهى الجمال، لإن هذا المكان ليس عالي الجودة، لا من الناحية الخدمية ولا من الناحية القانونية، لذلك عليك حرفياً أن تواجه معظم ما يواجهه المصريّ بحلوه ومرّه.
ماذا عن استصدار وتجديد الإقامة، هل الأمر صعب؟
أغلب الناس هُنا إمّا إقامة دراسيّة وهذه لمدّة سنة أو سياحية ربما بأغلبية ساحقة وهذه تستمر ل ست أشهر فقط، تحتاج يوم للطلب ويومين للاستلام، وتُكلّف فقط ٦٠٠ جنيه تقريباً، أي ما يساوي ٢٥$ لا غير، يُطلب منك لتحصيلها:
– عقد إيجار موثّق بالشهر العقاري
– فاتورة كهرباء أخيرة
– صور شخصيّة
– تصوير جواز السفر والعقد (٣ صور)
– لقاح الكورونا عند البوابة الخارجية.
هل يمكنني العمل بموجب الإقامة؟ (السياحية طبعاً).
لا، لا يمكنك قانونياً ولكن بحسب ما أرى فإنّ المصريّ يتجاوز ذلك وربما فقط مع السوريّ، أعرفُ كثيراً من الأصدقاء يعملون بشركات مصريّة والأمور جيدة.
ما هي الأمور المُزعجة حقاً بالقاهرة؟
أنا من دمشق والهدوء في الحواري عندي سمة طَبَعتْ الماضي ربما كلّه، فلا يكاد طفل أن يركض في شارعنا حتى يُقال لهُ ألف مرة أو بألف طريقة: يلا على البيت عمّو – أمّا في القاهرة فالزُحام وعديله الضجيج سمة من سمات المحافظة، شيء لا يُمكنك السيطرة عليه، هي أرضٌ لا تنام، تغلي بالحياة، تغصُّ بالبشر إلى الدرجة التي تولّد، تولّد إحساساً قد يُصيبك بأنّك مجرّد رقم ليس إلّا.
هُناك بعضُ الصعوبة في التواصل أيضاً، فأنت تفهمهم ولكن هم في كثير من الأحيان لا يفهمون مفرداتك، وهُنا عندي حادثة طريفة قد تذكرتها الآن: عملت في معرض القاهرة للكتاب في ‘دار نشر’ وأثناء ذلك قالت مشرفة الجناح يومها حين انتهى دوام المعرض للحارس الأمني كنوع من المُزاح: قلعونا – حينها اعتبر الحارس الأمني ولإنه مصريّ الهوية الكلمة صادمة وصار ينظر إلينا حتى استوعبنا الأمر أخيراً بأنّ كلمة قلعونا في المصريّة تعني: خلعوا ملابسنا. فاعتذرنا، وضحكنا وضحِك وقلعنا (بمعناها السوري).
صعوبات الأكل، كيف نأكل وماذا نأكل؟
هذا تحدّي أغلبيّتنا، فلا زعتر حلبي ولا جبنة حمويّة ولا فستق من أدلب ولا نابلسيّة من الشام ولا مكدوس لاذقاني، ولا حتى متة، قد تجد هذه المأكولات في أماكن تجمّع السوريين (ستة أكتوبر/العبور وربما مدينتي) وبأسعار أعلى من اللازم.
هُناك شائعة غليظة مفادُها بأنّ الأكل المصري سيء الطعمة ولأقول الحقّ، كدت أن أُصدّقها، لكنّي تنبّهتُ أخيراً بأنّهُ ذوقٌ آخر بالمشارب والمآكل لا يُشبهنا (عدم محبّتي للبهارات لا يجعلني ألغي جودة كل أكل الهند) ثُم علينا أن نضع في الموازين اعتبارات الطقس لإن هذا يؤثّر أيضاً في المسألة. طبعاً عليّ ان أؤشّر على نجاح المأكولات السوريّة هُنا بشكل غريب وملفت، لها رواج غير طبيعي، خاصّة بالشاورما وهذا مُتوقّع طبعاً.
ماذا عن الوضع الصحّي؟
نُشكّل كسوريين بحسب منظمة الهجرة الدولية: ‘١٧%’ من أصل كل المهاجرين الدوليين الذين وصلوا إلى مصر، أي ١.٥ مليون سوري، لا أعرف ما أقول هُنا، هذا رقم ثقيل على البَلدين… كم هو ثقيلٌ حتى على سمعي وقلبي. ومع هذا ما زالت مصر ملتزمة بتقديم برامجها للجميع، لمن يدفع طبعاً لكن دون أي تمييز، تساوي في كل شيء، لا أنكر طبعاً أنني راضي بأن التطعيم مجاني وبطريقة سهلة جداً.
أخيراً، ما الذي قد تقوله من تجربتك يا ضياء؟
لم أندم على اختياري “للقاهرة” ولكن ندمت على السفر من دمشق،
بصراحة يبدو أنّ الشعور الوحيد الذي يُخيّمُ عليّ ليل نهار هو الندم فقط، ظلمتُ دمشق كثيراً، قد تكون دمشق كما قال الماغوط مرّات عديدة: “ليست مثل بيروت، دمشق تأخذ ولا تُعطي” قد تكون فعلاً كذلك، ولكن أمّي هُناك، أهلي هُناك، مطارحي هُناك، ذاكرتي هُناك، فلا تسأل عن تجربتي هُنا، ما الذي لي هُنا؟ إلّا بعضٌ قليلٌ من أنا؟..
أسأل يومياً متى نرتاح؟
للصراحة لا أعرف، لإنني ومن سماعي لأحاديث السوريين بالقاهرة ألمسُ فيهم أنّهم ما زالوا يبحثون عن أمرٍ لم يجدوه، أسمع منهم ما قالهُ درويش مرّةً: “نُريد ما بعد المحطّة” أسمع وأخاف..
(سيرياهوم نيوز3-مدونة الراي العام5-11-2022)