يبدأ أصل الحكاية عام 2015، حين اختارت «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» (الألكسو) التابعة لجامعة الدول العربيّة، مدينة طرابلس كعاصمة للثقافة العربيّة لعام 2021. إلا أنّ انفجار مرفأ بيروت وتفشّي وباء كورونا حول العالم حينها، فرضا تأجيل الحدث حتى عام 2023، ليتأجّل من جديد إلى العام الحالي. كان يفترض بالتأجيل المتكرّر أن يكون مكسباً للبنان والمدينة، وخصوصاً في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تعانيها البلاد، بحيث يكون أمام الجهات المختصة الوقت الكافي للتنظيم، وتوفير الموارد الماليّة اللازمة على مراحل. إلا أن ما حصل هو أنّه بعد مرور حوالى عقد على اختيار طرابلس كعاصمة للثقافة العربيّة، وصلنا إلى التاريخ المحتوم بصفر ميزانية، ولجان شُكلّت ولم تعقد أي اجتماع بعد انقضاء أشهر على تشكيلها. وزير الثقافة محمد المرتضى، يعمل باللحم الحيّ، محاولاً خلق ديناميكية والتقليل من أهمية الموراد الماليّة لإنجاح الفعاليات، على قاعدة التمسك بالأمل والاتّكال على الوعي. يقرّ المرتضى لنا بغياب التمويل، أي تمويل، ولو الشحيح منه، «فنحن مصرّون على أن نصنع المستحيل بصفر تمويل، بجهودنا الشخصيّة وبهمّة الشباب الطرابلسي الواعي والمسؤول. المال مهمّ، لكن الأهم هو الوعي». في 6 أيار (مايو) 2023، أصدر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قراراً بتأليف لجنة مركزيّة للاحتفاء بطرابلس برئاسة وزير الثقافة. وأشار القرار إلى وضع اللجنة خطة عمل وتحديد الإجراءات كافة للاحتفاء بطرابلس عاصمة للثقافة العربية لعام 2024. إلا أن الظاهر أنّ اللجنة المركزيّة كانت بحاجة إلى من يضع لها خطة عمل. حتى شهر شباط (فبراير) المنصرم، أي بعد انقضاء تسعة أشهر على تأسيسها، لم تكن اللجنة المركزيّة قد عقدت أي اجتماع، وفقاً لعضو اللجنة المركزيّة ورئيس «الرابطة الثقافية» في طرابلس رامز الفري. وفي ما يختصّ بالتمويل، يكشف الفري أنّ «التمويل كان العقبة الرئيسية. لا الوزارة ولا بلدية طرابلس ولا اتحاد البلديات ولا الجمعيات أو المؤسسات الثقافية تملك الإمكانات الماديّة. ولا أعلم ما إذا طلبت مساعدات من متموّلين طرابلسيين ولم يتبرعوا. لكن نحن في الرابطة، لم نطلب من أحد ونعمل ضمن إمكاناتنا الذاتية التي غالبيتها تطوعي من شباب وصبايا طرابلسيين».
في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أصدر وزير الثقافة قراراً قضى بتشكيل 11 لجنة متخصّصة، بهدف توزيع المهام وإشراك أهل الاختصاص في كلّ لجنة لتنظيم الأمور على أكمل وجه. لكن أيضاً ووفقاً للفري وحتى شهر شباط الماضي، «هنالك لجان اجتمعت ولجان لم تجتمع، ولجان لم يشارك كل أعضائها في الاجتماعات».
ترى الكاتبة والأديبة زهيدة درويش، ابنة مدينة طرابلس، أنّ «المعنيين تأخروا كثيراً في التحضير. فطرابلس اختيرت كعاصمة ثقافية للعالم العربي، وبالتالي لا يمكن الاكتفاء بأنشطة محليّة، بل يجب جلب فنانين وأعلام فكريّة من الدول العربيّة ليكون هنالك حراك ثقافي يحتضن العالم العربي بأسره. كان يمكن إنجاز هذه الرؤيا قبل عام أو عامين، والتواصل مع سفارات وجهات داعمة. كذلك كان يجب على «الألكسو» أن تؤمّن مبلغاً من المال. فكيف ننجح المشروع؟ لو كنت مكان الوزير، لكنت أجلّته».
من جهته، يشدد وزير الثقافة على أن «لا تأخير على الإطلاق، بل تسريع لقرار مجلس الوزراء. ومن المنطقي أن نبدأ بالتحضير قبل الإطلاق لضمان أن الفعاليات المرافقة للإعلان تليق بمدينة كطرابلس، وخصوصاً أنّه يجب على التنظيم أن يأخذ في الحسبان إشراك أكبر عدد من الروابط والجمعيات وقوى المجتمع المدني، إضافة إلى مروحة الاتصالات واللقاءات الواجب عقدها مع كل القوى السياسيّة في عاصمة الشمال تأميناً لانخراط مجتمعي شبه كامل. وما تخصيصنا ثلاثة أيام أو أكثر أحياناً للتواجد في طرابلس إلا دليلاً على الحرص الذي نوليه لإنجاح الفعاليات».
من المتوقع أن يعلن رسمياً عن الأنشطة المرتقبة في شهر أيار (مايو) المقبل. يلفت المرتضى إلى أنه «ستصدر تباعاً عن وزارة الثقافة لائحة بالأنشطة. وهناك العشرات منها التي بدأ شعار طرابلس مدينة الثقافة العربيّة يتوسط دعواتها، والطلبات أكثر من أن تحصى. وستصدر عنا برامج متكاملة تعلم الرأي العام بنوعية هذه الأنشطة. وأدعو المهتمين إلى متابعة صفحتنا على مواقع التواصل الاجتماعي للوقوف على الأنشطة المذكورة».
في المقابل، هنالك من اختار التغريد منفرداً والاحتفاء بطرابلس على طريقته، بعيداً من الفعاليات الرسميّة مثل تجمع «فيحاؤنا – حاضنة الثقافة لكل الأزمان» الذي باشر منذ كانون الثاني (يناير) المنصرم بتنظيم فعاليات ثقافيّة وشعريّة ومسرحية وموسيقية تمتد حتى شهر حزيران (يونيو) المقبل، وفقاً لبرنامج متكامل أعلن عنه. تشرح درويش أنّ «إطلاق التجمع ونشاطاته ليسا مرتبطين باختيار طرابلس كعاصمة للثقافة العربيّة. فالتجمع نشأ بسبب الرغبة في توحيد جهود كل جمعية من الجمعيات المنضوية في التجمع. ولكن شاءت الصدف أن تتزامن المواقيت. لم يكن لدينا النية لتلقف المبادرة. ولا أي شيء من شعاراتنا يحمل عنوان أو شعار طرابلس عاصمة ثقافية».
في هذا السياق، برزت مخاوف من أن تتخذ الفعاليات المنوي إطلاقها طابعاً نخبوياً، وأن تهمل بعض جوانب الحياة الثقافيّة الطرابلسيّة. وهو ما ينفيه وزير الثقافة الذي يؤكد بأن «الفعاليات ستحاكي البُعد الحرفي والفني والنحتي والغنائي. ولن تقتصر إقامة الفعاليات على أمكنة محددة، بل نخطّط لأنشطة تتعلق بالبيئة والنظافة والفن الشعبي وتدخل الخانات والأروقة وتبرز خفقان المدينة الحقيقي لا المصطنع». وفي هذا الإطار تسأل درويش: «لماذا لا يفعّل خان العسكر ويكون مركزاً ثقافياً للمدينة القديمة. ماذا عن قلعة طرابلس المهملة، وهي أهم قلعة في المشرق العربي؟ كان يمكن استخدامها لتنظيم مسرحيات وكورالات وورش عمل ومشاريع عدة بإمكانات مالية ضئيلة».

* في مناسبة احتفالية «طرابلس عاصمة الثقافة العربية 2024»، تفتتح «الرابطة الثقافية في طرابلس» اليوم معرض الكتاب السنوي الخمسين (س:17:00) في مسرح «الرابطة الثقافية» (طرابلس)


حاضرة المتوسط في زمن الفرنجة
يتحسّر الكاتب والإعلامي طلال شتوي على مدينته طرابلس التي «تعدّ من المدن القليلة في الشرق والعالم العربي التي تستحق أن تكون عاصمة للثقافة بشكل دائم، لكنها للأسف تحولت إلى عاصمة للفقر والحرمان والجهل والأمية. عاصمة النسيان. أبداً طرابلس ليست عاصمة الثقافة بالمعنى الذي يفترض أن يكون. هل هذه طرابلس التي سمّيت في زمانها القاهرة الصغرى ودمشق الصغرى وكانت حاضرة من حواضر المتوسط في زمن الفرنجة؟ طرابلس كانت تعدّ برلماناً فينيقياً ونقطة الجمع والتلاقي بين مدنها وممالكها، تحتضن اجتماعاً سنوياً للتداول واتخاذ القرارات، رغم أنهم كانوا مدناً وممالك مستقلة».
يتحدث صاحب كتاب «بعدك على بالي»، عن طرابلس كعاشق لا تفارق معشوقته باله. يحبّها كيفما كانت وإن جار عليها الزمن. بالنسبة إليه، فإنّ «مرحلة الحرب كانت أفضل بأضعاف من المرحلة الحالية. خلال مراهقتي في مرحلة الحرب، شاهدت داليدا في طرابلس وكلود فرنسوا وديميس روسوس، وجين مانسون. وكانوا يقصدون المسارح المتواضعة في طرابلس، بمعنى تلك التي تتسع لحوالى 500 شخص. حضرت معظمهم في سينما «أوبرا»، وليس في مسرح يتسع للآلاف. كانت طرابلس مدينة عصرية وساحة التلّ ساحة باريسية بامتياز. طرابلس رفدت الحركة الثقافية والفنية في لبنان منذ ما قبل الاستقلال. الزواريب الداخلية لمنطقة الزاهرية مليئة بالمطابع القديمة، التي تصفّ الأحرف جنب بعضها، وهي تعدّ حالياً آلات أثرية. وبعضها لا يزال يعمل. كذلك، كانت تتميز طرابلس بنشاط ثقافي كثيف وغزير، ومقاهيها تعج بالمثقفين والمفكرين. تفتقر طرابلس اليوم إلى السينما والمسارح والفنادق عالية المستوى. ومن حيث الآثار، فاللافت أنّ المناطق الأثرية بقيت مأهولة، وهنالك حياة وناس وحركة وبيوت ومتاجر ودكاكين. بقي العالم القديم مأهولاً». وعن تفسيره لهذا الانحدار الشامل للمدينة، يجيب شتوي: «أعتقد بأنّ الجواب صعب. نحتاج إلى وقت قبل أن ندرك ونحلّل ظواهر من هذا النوع. إلا اذا أردنا أن نتسرّع ونقع في المكروه الذي يأخذنا إلى التسييس».