علاء حلبي
في وقت تتسارع فيه الخطوات السورية – التركية في اتجاه تطبيع العلاقات بين البلدين، بعد قطيعة تجاوزت العقد من الزمن، تَبرز في مقابل ذلك معوّقات عديدة، سواءً على صعيد إمكانية تنفيذ التفاهمات الأمنية والميدانية، أو على الصعيد السياسي في ظلّ محاولة واشنطن المستمرة تثبيت الخريطة الراهنة التي توفّر لها وجوداً مريحاً في المناطق النفطية السورية. ولئن استطاعت أنقرة إلى الآن «تكييف» الفصائل المعارضة التابعة لها مع المسار الجديد، فإن التحدّي الأبرز أمامها يتمثّل في «هيئة تحرير الشام» التي بدأت مفاوضات معها من أجل فتح طريق «M4»، توازياً مع اتّخاذها خطوات ميدانية للغرض نفسه
تمكّنت أنقرة، كما كان متوقّعاً، من فرض حالة تهدئة في مناطق سيطرتها في الشمال السوري، بعد إعلانها الصريح التوجّه إلى الانفتاح على دمشق، والذي كانت استبَقته بإجراءات ميدانية عدة، تضمّنت اعتقال عشرات الأشخاص بتهم مختلفة، من بينها إهانة العلم التركي، وعرقلة الحلّ السياسي للأزمة السورية. هذه الإجراءات التي آتت أُكلها في الميدان، عبر منع أيّ تهديد صريح لمواقع انتشار الجيش التركي أو المقرّات الحكومية التركية في الشمال السوري، تبعها لقاء شكلي بين وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، ومجموعة من وجوه المعارضة بينهم رئيس «الائتلاف» المعارض سالم المسلط، ورئيس «الحكومة السورية المؤقتة» عبد الرحمن مصطفى، ورئيس «هيئة التفاوض» المعارضة في مسار «اللجنة الدستورية» بدر جاموس، شدّد خلاله تشاويش أوغلو على ضرورة منع «التشويش» على المسار السياسي الجديد الذي تفتتحه أنقرة، وهو ما تمّ الامتثال له على الفور، عبر إعلان ممثّلي المعارضة تأييدهم هذا المسار.
وفي وقت تبدو الأرض ممهّدة في الشمال السوري لتطبيق أيّ مخرجات قد تنجم عن العملية التوافقية بين دمشق وأنقرة، يَظهر المشهد أكثر تعقيداً إلى حدّ ما في إدلب في الشمال الغربي، حيث تسيطر «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، وتنتشر مجموعة من الفصائل «الجهادية» الأخرى والتي تضمّ مقاتلين غير سوريين. وتجلّى جانب من هذا التعقيد في محاولة زعيم «الهيئة»، أبو محمد الجولاني، تصدّر المشهد الميداني، عبر إعلانه رفض المسار التركي، ودعوته الفصائل الأخرى إلى التوحّد بهدف «استمرار القتال». ولئن كانت هذه الدعوة طبيعية في ظلّ إصرار دمشق على إنهاء «الفصائل الجهادية» وعلى رأسها «تحرير الشام»، ما يعني استبعاد رجل «القاعدة» السابق من مسار الحلّ في سوريا، فإنها تمثّل بالنسبة إلى أنقرة تحدّياً ميدانياً يفرض عليها البحث عن مخرج ملائم يبعد عنها خطر مواجهة «فصائل جهادية» كانت – حتى وقت قريب – حليفاً استراتيجياً لها، خصوصاً أن مواجهة كهذه ستضع جيشها المنتشر في إدلب تحت خطر الهجمات من جهة، وتحيي خطر تسرّب «الجهاديين» بشكل غير منضبط إلى الجهة الشمالية من الحدود من جهة أخرى، ما يعني تحوّل التهديدات إلى الأراضي التركية، وهو خطّ أحمر أمني وعسكري بالنسبة إلى تركيا.
بدأ الجولاني يستعدّ للمرحلة المقبلة والتي قد تتضمن الانسحاب من مناطق عدة في ريف إدلب.
على أن ملفّ إدلب يعدّ من بين الملفّات التي لا تحتمل تجاهلاً أو تأجيلاً، بالنظر إلى ما يمثّله من أولوية بالنسبة لدمشق وموسكو، وحتى أنقرة التي تسعى إلى استثمار التقارب مع جارتها اقتصادياً عبر إعادة تفعيل خطوط تصديرها المعطَّلة إلى سوريا وعبرها إلى دول الخليج العربية (الترانزيت). ويتطلّب كلّ ذلك تأميناً للطرق الرئيسة، ومن بينها طريق «M4» بفروعه كافة، سواء القسم الذي يقع جزء منه على خطوط التماس مع مواقع انتشار «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) في الشمال الشرقي من سوريا، أو الجزء الغربي منه، الممتدّ من حلب إلى اللاذقية، والذي تسيطر الحكومة السورية على معظمه، باستثناء جيب صغير تنتشر بمحاذاته نقاط عسكرية تركية عدة، إلى جانب مقرّات لـ«هيئة تحرير الشام». وخلال الأسبوع الماضي، ظهرت تحركات جدّية من قبل الجيش التركي للتمهيد لفتح هذا الجزء من الطريق، عبر عمليات تمشيط مستمرّة لمحاوره، إضافة إلى دفع ثلاثة مقرات تابعة للجولاني إلى الانسحاب من محاذاته. غير أن هذه الإجراءات لن تكون كفيلة وحدها بتأمينه، على الرغم من تعهدات عدة سابقة أطلقها زعيم «تحرير الشام» بالالتزام بمسار «أستانة» ومنع تعرّض الطريق لأي هجمات. إذ تخشى أنقرة، وفق مصادر ميدانية تحدثت إلى «الأخبار»، من شنّ الفصائل «الجهادية» أو عناصر غير منضبطة فيها، هجمات انتقامية على «M4». وكشفت المصادر أن ضباطاً من الجيش والاستخبارات التركيَين عقدوا ثلاثة اجتماعات مع «الهيئة» خلال الأيام القليلة الماضية، مضيفة أن الجولاني أعاد تعهّده بتأمين الطريق، وعدم المساس بالنقاط التركية، في حال عدم التحرّك لممارسة ضغوط على جماعته أو السعي لإنهاء وجودها، متابعة أن الوفد التركي تلقّى مجموعة من الأسئلة التي يريد الجولاني الإجابة عليها، ومن بينها إمكانية إدخاله وجماعته في مسار الحل السياسي، وهي أسئلة لم يتلقَّ زعيم «تحرير الشام»، وفق المصادر، أي رد عليها.
وبالتوازي مع تحريك ملفّ إدلب، يبدو أن الجولاني – الذي استبق هذه الخطوات بتأسيس موطئ قدم له في ريف حلب الشمالي عبر سيطرته على عفرين – بدأ يستعدّ للمرحلة المقبلة، والتي قد تتضمّن الانسحاب من مناطق عدة في ريف إدلب، على خطوط التماس مع مواقع سيطرة الجيش السوري، مقابل التوسّع أكثر في ريف حلب، حيث تمّ رصد إرسال أسلحة ثقيلة، من بينها آليات ودبابات، من إدلب إلى ريف حلب، ليجري تسليمها إلى فصائل متحالفة مع زعيم «الهيئة». وأمام تلك التحرّكات، تدور في الأوساط المعارضة نقاشات عدة حول إمكانية إنخراط الجولاني وجماعته في المعارك مع «قسد»، الأمر الذي يتطلب في البداية تشكيل غرفة عمليات موحّدة تجمع كلّ الفصائل، وهو مَنفذ يراه الجولاني، وفق المصادر، مقبولاً؛ كونه يضمن استمرار وجوده وجماعته، خصوصاً أنه اتخذ خلال الأعوام الثلاثة الماضية خطوات واسعة لنفض غبار «القاعدة» عنه، عبر إزالة مظاهر التشدّد عن مناطق سيطرته. ويفتح تمدّد «تحرير الشام» في ريف حلب، سواءً تزامن مع انسحاب من إدلب كاملة أو من بعض المناطق فيها، الباب أمام سيناريوات عدة تنتظر الشمال الشرقي من سوريا، في ظلّ توسيع الولايات المتحدة نشاطها، الذي شكّلت إعادة التموضع في الرقة، وتغذية «قسد» بأسلحة نوعية من مثل مضادات الدروع، والتدريبات على مضادات الطيران، ذروته. وتتقدّم تلك السيناريوات إمكانية انتقال الجولاني إلى المعسكر الأميركي، في ظلّ وجود قنوات اتصال فعلية بينه وبين واشنطن، ظهرت بوضوح خلال عملية اغتيال قياديَين في «داعش» من بينهم زعيم التنظيم السابق الأبرز أبو بكر البغدادي، والذي اغتالته قوة أميركية في منطقة تخضع لسيطرة «تحرير الشام» في ريف إدلب قرب الحدود مع تركيا، وخليفته عبدالله قرداش، الملقّب بأبو إبراهيم الهاشمي القرشي أيضاً.
وإزاء التعقيدات الميدانية العديدة التي تواجه مسار التقارب السوري – التركي، يبدو من المنطقي الحديث عن خطوات هادئة ومتأنّية ميدانياً، لا توازي الخطوات السياسية الواسعة التي يتمّ العمل عليها، سواء عبر المحادثات الثنائية السورية – التركية، أو الإقليمية التي انضمّت إليها الإمارات. ومن هنا، فإن الحراك السياسي يَظهر أقرب إلى تأسيس لمسار ميداني مؤلّف من سلسلة طويلة من الخطوات، سواءً في ملف إدلب والجماعات «الجهادية»، أو ملفّ الشمال السوري الذي تنتشر فيه فصائل عدة شديدة الولاء لتركيا، أو في شرق الفرات حيث تحاول «قسد» تجذير «الإدارة الذاتية» بدعم من واشنطن، التي ترغب بدورها في إفشال مسار الحلّ الروسي، وإبقاء الخريطة الميدانية والسياسية على حالها الراهنة.
سيرياهوم نيوز 1-الاخبار اللبنانية