مصعب أيوب
لم تغب مدينة غزة الفلسطينية يوماً عن صدارة المشهد الإقليمي وحتى العالمي لكونها تقع في قلب الصراع التاريخي العربي ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ نكبة 48 وحتى يومنا هذا ، لتكون أيقونة النضال والمقاومة وينتشر منها عبق الورد والعطر من دماء الشهداء ومن تحت الأنقاض ، ولأن الفن أحد أهم الجوانب التي تقع عليها مسؤولية التغني بالشهادة والشهداء ونصرة الحق وتسليط الضوء على تجاوزات الباطل وأذرعه ، فقد كان للشعر وأهله وقفتهم البطولية ليعبروا من خلالها عن تضامنهم ووقوفهم إلى جانب إخوتهم وأبناء جلدتهم ، ولعل تلك الأشعار باتت معروفة لدى شريحة واسعة من الجمهور ولاسيما فئة الشباب والكبار ، ولعل أبرز من أخذ على عاتقه مهمة نصرة القضية وناضل في سبيل دعمها ورفض الاحتلال الشاعر الفلسطيني محمود درويش وكذلك الشاعر الكبير نزار قباني.
من أجل غزة
اختصر محمود درويش في قصيدته «صمت من أجل غزة» معظم ما يمكننا قوله عن تلك المدينة التي أنهكها العدوان الغاشم والقصف المتكرر ومن الممكن أن تكون الأبيات القادمة ملائمة جداً لواقع الحال وقد جاء فيها:
تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار
إنه أسلوب غـزة في إعلان جدارتها بالحياة
منذ أربع سنوات ولحم غـزة يتطاير شظايا قذائف
لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غـزة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدو
ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا في غـزة
لأن غـزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء.. لأن غـزة جزيرة كلما انفجرت وهي لا تكف عن الانفجار خدشت وجه العدو وكسرت
إن غـزة لا تباهي بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها إنها تقدم لحمها المُرّ وتتصرف بإرادتها وتسكب دمها. وغزة لا تتقن الخطابة.. ليس لغزة حنجرة.. مسام جلدها هي التي تتكلم عرقاً ودماً وحرائق.
من هنا يكرهها العدو حتى القتل. ويخافها حتى الجريمة. ويسعى إلى إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم. من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحياناً. لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء.
وحين نتساءل: ما الذي جعلها أسطورة؟
ونظلم غزة لو مجّدناها، لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حد الانتظار، وغزة لا تجيء إلينا، غزة لا تحررنا، ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصي سحرية ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد وحين نلتقي بها ذات حلم ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار.
محمد الدرة
كما كان لشاعر فلسطين والمقاومة أيضاً قصيدة متميزة أخرى نظمها في الطفل الشهيد محمد الدرة الذي قتلته سلطات الاحتلال أمام أعين العالم وهو يحتضن والده في أحد شوارع غزة محاولاً تفادي رصاص العدو الغاشم ومما قاله درويش فيها:
محمد
يعشّش في حضن والده طائراً خائفاً
من جحيم السماء: احمني يا أبي
من الطيران إلى فوق!
إنّ جناحي صغيرٌ على الريح والضوء أسود
محمد
يريد الرجوع إلى البيت،
من دون درّاجة أو قميصٍ جديد
يريد الذهاب إلى المقعد المدرسيّ
إلى دفتر الصرف والنحو: خذني
إلى بيتنا، يا أبي، كي أعدّ دروسي
وأكمل عمري رويداً رويداً
على شاطئ البحر، تحت النخيل
ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد
محمّد،
يواجه جيشاً، بلا حجرٍ أو شظايا
كواكب، لم ينتبه للجدار ليكتب: «حريتي لن تموت»
فليست له، بعد، حريّة ليدافع عنها
ولا أفقٌ لحمامة بابلو بيكاسو
وما زال يولد، ما زال يولد في اسمٍ يحمّله لعنة الاسم
كم مرةً سوف يولد من نفسه ولداً ناقصاً بلداً ناقصاً موعداً للطفولة؟
أين سيحلم لو جاءه الحلم… والأرض جرح… ومعبد؟
محمّد،
ملاكٌ فقيرٌ على قاب قوسين من بندقية صيّاده البارد الدم
من ساعةٍ ترصد الكاميرا حركات الصبي الذي يتوحّد في ظلّه
وجهه، كالضحى، واضح
قلبه، مثل تفاحة، واضح
وأصابعه العشر، كالشمع، واضحة
والندى فوق سرواله واضح
كان في وسع صيّاده أن يفكّر بالأمر ثانيةً،
ويقول: سـأتركه ريثما يتهجّى فلسطينه دون ما خطأ
سوف أتركه الآن رهن ضميري وأقتله، في غدٍ، عندما يتمرّد!
محمّد،
يسوع صغير ينام ويحلم في قلب أيقونةٍ
صنعت من نحاس ومن غصن زيتونة
ومن روح شعب تجدّد
محمّد،
دمٌ زاد عن حاجة الأنبياء
إلى ما يريدون، فاصعد
إلى سدرة المنتهى
يا محمد
تلاميذ غزة
كما كان الشاعر السوري نزار قباني في صلب قضايا الوطن العربي ومعاناته وكان دائم الوفاء له من خلال أشعاره التي رفض فيها وجود المعتدين والطامعين بهذه البقعة المتميزة من الوطن العربي، ففي قصيدته «أطفال الحجارة» التي نظمها مخاطباً فيها أبناء غزة والتلاميذ في المدارس ليقول:
بهروا الدنيا وما في يدهم إلا الحجارة
أضاؤوا كالقناديل وجاؤوا كالبشارة
يا تلاميذ غزة لا تبالوا إذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا اضربوا بكل قواكم واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح فخوضوا حروبكم واتركونا
هاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحاً ويتامى لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورنا وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونا
من شقوق الأرض الخراب طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر فكونوا على الشفاه لحونا
أمطرونا بطولة وشموخا
إن هذا العصر اليهودي وهمٌ سوف ينهار لو ملكنا اليقينا
يا مجانين غزة ألف أهلاً بالمجانين إن هم حررونا
إن عصر العقل السياسي ولّى من زمان فعلمونا الجنونا
القضية الفلسطينية كانت ولا تزال مرتبطة بإنسانيتنا، وبقيمنا وكرامتنا، ولا يمكننا أن نتجاهل ونغض الطرف عما يحصل في فلسطين وما تشهده غزة من مجازر وتعديات وحشية وهمجية جيش الاحتلال، ولم يكن الفن يوماً بعيداً عن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وقد كُرست الكثير من الأجناس الأدبية لخدمة الحق الفلسطيني ودعم القضية وإدانة العدو الإسرائيلي وأذرعه.
سيرياهوم نيوز1-الوطن