منذ عام، نشرت «الدولية للمعلومات» بحثاً بعنوان «سوريا تنضم إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية-الرئيس الأسد يتخلّص من إرث اتفاقية سايكس-بيكو في سوريا»، للكاتب والباحث الدكتور جورج يعقوب، المتخصّص في الشؤون الجيوسياسية والاقتصادية. وهو عنوان دراسة استوحاها الكاتب من خلال قراءاته المتنوّعة عن جمهورية الصين الشعبيّة، ولا سيّما بعد أن وجد نفسه مهتمّاً بثقافة هذا البلد ومفتوناً بشعبه المتعلّق بهويته والدائم الاستعداد لاستيعاب أفكار جديدة من دون التخلّي عن تراثه. وقد شكّل انضمام سوريا إلى «مبادرة الحزام والطريق» (BRI) الصينية (كانون الثاني 2022) دافعاً للتوسّع في بحثه، إذ اعتبرها «خطوة إستراتيجية تاريخية قادرة على تمكين سوريا من مواجهة الحروب المتكرّرة التي تهدف إلى تقسيمها والسيطرة عليها منذ الحرب العالمية الأولى».
يهدف هذا البحث إلى دراسة انضمام سوريا إلى المبادرة وشرح مدى تأثيرها على التطوّرات السياسيّة المستقبليّة، ليس في سوريا وحسب، إنّما على مستوى المنطقة بأسرها؛ كما وإبراز أبعاد هذا المشروع ونطاقه الإستراتيجي والاجتماعي والاقتصادي في مرحلة تشكّل انعطافاً حاسماً في تاريخ سوريا وعلاقاتها الدولية. ويرى الكاتب أنّ «لدى سوريا اليوم فرصة كبيرة للتراجع عن الضرر الذي لحق بجغرافيتها السياسية بعد الحرب العالمية الأولى».
وقد اقتصر نطاق هذا البحث على الجمهورية العربية السورية بسبب أهميتها الاستراتيجية الحالية، إذ وبصفتها آخر مشارك في مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، تضع الحجرَ الأساس لأسس استراتيجية جديدة تنطوي على فوائد سياسية واقتصادية وأمنية جمّة لكلّ الأطراف المعنيّة. ويعتقد المؤلّف أنّ «مركزية سوريا الجغرافية، بالإضافة إلى تقاليدها التجارية، القديمة والراسخة، ومواردها الطبيعية، تمكّنها في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها من الاضطلاع بدور محوريّ في شبكة الطرق البريّة والسكك الحديدية والممرّات البحرية ومرافق الموانئ في الصين… كما أنّ المبادرة الصينية هذه، تحتل مركز الصدارة في سياساتها واقتصادياتها العالمية نظراً إلى أن إستراتيجيتها لدعم التنمية الاقتصادية السريعة داخل البلاد وتعزيز المساواة في العلاقات السياسية والتفاعلات الإنسانية المفيدة للطرفين في الخارج معترف بها دولياً».

كما يرى أنّ «دخول الصين إلى سوريا من خلال مبادرة الحزام والطريق هو تغيير رئيسي للّعبة، ليس بسبب حجمها ونطاقها فحسب، إنّما أيضاً بسبب التهديدات والفرص المختلفة التي تشكلها لمختلف القوى العالمية والإقليمية».
من الواضح في واقع الأمر أنّ دول الشرق الأوسط الثلاث -سوريا ولبنان والعراق- تتمتّع بالموقع الجغرافي والموارد التي تؤهّلها للعب دور حاسم في انضمامها إلى مبادرة «الحزام والطريق» الصينية. فهي لا تربط «الممرّات الاقتصادية» البريّة الرئيسيّة للصين عبر الشرق الأوسط بساحل البحر الأبيض المتوسط فحسب، إنّما توفّر لها أيضاً الموانئ ومراكز العبور. وقد انضمّت سوريا إلى مبادرة «الحزام والطريق»، سيتبعها العراق في نهاية المطاف، بعد أن وافق على خط السكة الحديد الذي يربط حدوده الجنوبية مع إيران. ويُعتبر دور كل من سوريا والعراق في مبادرة «الحزام والطريق» مكمّلاً للآخر. فبالعمل معاً، يستطيع البَلدان خلق المزيد من الفرص وجلب منافع إضافيّة لشعبَيهما. ويمكن لهما أيضاً تنسيق خططهما والتعاون مع الصين لتعزيز خطة تنمية اقتصادية وسياسية مشتركة قادرة على خلق ديناميكيّة واستدامة خاصة بها. أمّا بالنسبة إلى لبنان، فبإمكانه جني فوائد لا تُعدّ ولا تُحصى في حال انضمامه وسوريا إلى مبادرة «الحزام والطريق» (انضمّت سوريا إلى المبادرة)، «غير أنّ قيادته لا تملك الإرادة السياسية ولا القدرة على القيام بمثل هذه المهمة». وإذا كان السياسيّون اللبنانيون، سواء في السلطة أو المعارضة، يخشون العقوبات الأميركية، فهذا ليس لحماية مصالح الدولة اللبنانية، ولكن لتجنّب تجميد حساباتهم المصرفية الخاصة ومصادرة ثرواتهم الشخصية المخبّأة في دول أجنبية. وأي شخص يعتقد خلاف ذلك فهو ساذج. ومن ثمّ، فإنّهم يرتجلون عبارات مثل «النأي بالنفس والحياد» ويقدّمونها كسياسة.

وفي ما يخص الصين، فهي تعتزم من خلال «مبادرة الحزام والطريق» تحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية، أهمّها: تجاوز مضيق ملقا، وتأمين حدودها الطويلة، وإيجاد أسواق لمنتجاتها ومصادر المواد الخام لشركاتها المملوكة للدولة، ومواءمة خطط التنمية الاقتصادية لشركائها مع خططها، بالإضافة إلى تعزيز سياستها الخارجية من دون اللجوء إلى التدخّل فيها.
تسلّط هذه الأهداف الضوء على الفرص والمخاطر التي تنطوي عليها هذه المبادرة بالنسبة إلى إعادة إعمار سوريا وتنمية اقتصادها والمحافظة على أمنها القومي. ولأول مرة في تاريخها الحديث، قد تجد سوريا في الصين شريكاً وحليفاً موثوقاً به لا يسعى إلى الهيمنة أو تحقيق منافع أحادية الجانب أو استغلال البلاد لتحقيق مكتسباته الوطنية.
ويمكن لسوريا، في إطار الشراكة مع الصين، أن تعيد بناء اقتصادها الوطني وأمنها القومي وأن تنشئ العديد من المؤسسات التعاونية الإقليمية، ما يؤدّي إلى بناء علاقات اقتصادية وسياسية دائمة ومتينة. وتبقى المنافع المشتركة والثقة المتبادلة، وقبل كل شيء الموثوقية، بمثابة عوامل أساسية لتحقيق ذلك.
وقد تحدّث الرئيس السوري بشار الأسد عن هذه المبادرة قائلاً:
«إنّ هذه المبادرة ليست مجرد طرق على الخريطة، ولكنّها سياسة ستتّبعها سوريا لتضطلع مرة أخرى بدور سياسي واقتصادي رائد سيعود بالمنفعة ليس على سوريا فحسب، وإنّما على المنطقة ككل».

كما ذكر «زو رونغ» (Zhou Rong) من معهد شينجيانغ للدراسات المالية:
«إنّ مشاركة سوريا في مبادرة الحزام والطريق تعني أنّ “المبادرة” لم تعد محجوبة عن دول الشرق الأوسط، ما يدلّ على قوة تأثيرها واستمالتها لبلدان المنطقة».
ملاحظات ختامية
تستعرض الملاحظات الختامية للدراسة، بإيجاز، نقاط النقاش والنتائج الرئيسية لهذا البحث، مع التركيز بشكل خاصّ على التبعات والعواقب المترتّبة على الخطوة التي قامت بها سوريا أخيراً عند انضمامها إلى مبادرة «الحزام والطريق» الصينية.
● أعلن مسؤول صينيّ أخيراً أنّ سياسة العلاقات الدولية التي تعتمدها الصين تقرّ بأنّ «العالم يضمّ مجموعة من الدول المختلفة والأمم المتنوّعة التي يجب أن تتعايش معاً بشكل سلميّ وتوفّر الرفاهية لشعوبها. ولا يمكن تحقيق ذلك إلّا من خلال التعلّم المتبادل والتوافق المتبادل وزيادة التعاون، ليس بين الدول ذات الآراء والأيديولوجيات والأنظمة المتشابهة فحسب، إنّما مع الدول المختلفة على السواء. كما يُعدّ التبادل الاقتصادي والتعاون الإقليمي عاملين مهمين لتحقيق السلام الدائم». وتهدف الصين كي تصبح القوّة الكبرى في العالم وتحقّق ما يُسمّى بـ«حلم الصين بالتعايش السلمي واعتماد نهجٍ مفيدٍ للجميع بهدف بناء عالمٍ متناغمٍ أو مجتمعٍ ذي مصالح مشتركة».
● تُعدّ مبادرة «الحزام والطريق» العنصر الأهمّ في استراتيجيّة الصين الكبرى للقرن الحادي والعشرين، إذ إنّها القوّة الدافعة الرئيسية لنموّ اقتصادها الوطني بشكل مستدام وبسط نفوذها السياسي والإستراتيجي في أنحاء العالم. وعلى الرغم من أنّ بعض القوى العالمية الأخرى ستُعارض الصين، إلّا أنّ هذه الأخيرة ملتزمة بتحقيق نجاحها واستمراريّتها، ولن يكون هناك مجال للتراجع.

● تَعتبر الصين أنّ مبادرة «الحزام والطريق» هي مبادرة عالمية طويلة الأجل تهدف إلى تعزيز الترابط بين الناس وتحسين النموّ الاقتصادي من خلال التعاون والاستقرار وتقاسم المنافع وتعزيز التفاهم السياسي. وعلى الرغم من أنّها مبادرة ذات نطاقٍ عالميٍّ، إلّا أنّها مبنيّة على شراكات إقليمية تربطها مصالح مشتركة وسمات تهدف إلى تحقيق تكاملٍ اقتصاديّ مُتسارعٍ.
● يعتمد نجاح مبادرة «الحزام والطريق» واستمراريّتها على العلاقات الموثوقة والمستقرّة والتعاون والاعتماد المتبادل وتوزيع المنافع بشكل عادلٍ. وتضمن هذه العوامل الرئيسية تماسك بنية هذه المبادرة وتعزّز استقرارها واستمراريّتها. كما يمكن تعزيز موثوقية طويلة الأجل من خلال الاعتماد المتبادل والمنافع المتبادلة والمشاركة، فمبادرة «الحزام والطريق» تقوم على ثلاثة عوامل أساسية، ألا وهي: النمو الاقتصادي، والترابط بين الشعوب، والأمن المشترك.

● تتضمّن مبادرة «الحزام والطريق» الصينية مفاهيم وممارسات جديدة في مجال العلاقات الدولية. ويستند توسّعها خارج حدودها إلى مبدأ عدم التدخّل والتكامل والتعاون وتقاسم المنافع، على خلاف النموذج الاستعماري الغربي القائم على الاستيلاء والاستغلال والسيطرة. وعلى عكس كلّ القوى العظمى التي سبقتها، ترفض الصين السياسات الاستعمارية القديمة المتمثّلة في الغزو والاستغلال العسكريّين، وتعتمد، بدلاً من ذلك، على سياسةٍ تولي اهتماماً أكبر للتنوّع الثقافي وتبادل المنافع والتعايش السلمي.
● بغضّ النظر عمّا إذا كان المرء مع الصين أو ضدّها، ثمّة حقيقتان لا يمكن إنكارهما:
o أوّلاً، تعتمد الصين نهجاً جديداً في مجال العلاقات الدولية قد يُغيّر الطريقة التي تتعامل بها الأمم والشعوب بعضُها مع بعض.
o ثانياً، إنّها فرصة فريدة من نوعها تُمكِّن سوريا من تصحيح مظالم اتّفاقية سايكس بيكو، إذ تُعَدّ الحرب الحالية على سوريا استمراراً للمخطّط نفسه، لكنّ الصين تقدّم إلى سوريا نموذجاً مختلفاً للعلاقات الدولية. وبالتالي، باستطاعة سوريا، ولأوّل مرّة في تاريخها الحديث، أن تُركّز على بناء دولةٍ علمانيّة ومعاصرة.
● اختارت الصين سوريا لإطلاق التنفيذ السياسي الرسمي لمبادرة «الحزام والطريق» في منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من ازدهار الصين اقتصادياً في المنطقة لعقودٍ طويلة، إلّا أنّ أنشطتها السياسية بقيّت حبيسة المجال الدبلوماسي. وقد أثبتَت سوريا نفسها دولةً صامدةً ذات قيادة قويّة سمحت للصين بتنفيذ مبادرة «الحزام والطريق» على أراضيها. وقد ورد على لسان العديد من المعلّقين الصينيّين أنّ هذا الأمر يُعدّ مؤشراً قوياً إلى ثقة الصين بالدولة السورية وقيادتها، وهما شرطان أساسيّان لنجاح مشروع طويل الأجل مثل مبادرة «الحزام والطريق».

● تنبع أهميّة سوريا بالنسبة إلى الصين من موقعها الجغرافي الإستراتيجي وسياستها الخارجية غير المُنحازة. كما أنّهما تشكّلان معاً «محطّة الربط» الأكثر موثوقية وفعاليّة في منطقة الشرق الأوسط، وتوفّران في الوقت نفسه نقاط عبور برّية وبحرية عبر البحر الأبيض المتوسّط لمبادرة «الحزام والطريق». والجدير بالذكر هنا، أنّ مصلحة سوريا بالانضمام إلى مبادرة «الحزام والطريق» هي مصلحة اقتصادية وإستراتيجية، إذ إنّها ستستفيد من مشاركة الصين في برنامج إعادة الإعمار ومن خبرتها في التطوير السريع للبنى التحتية وتعزيز النموّ الاقتصادي. كما تُعتَبَر الصين اليوم الحليف الأكثر موثوقية لسوريا، فهي تملك الموارد المالية والتكنولوجية والبشرية والتنظيمية اللازمة لإعادة بناء الاقتصاد السوري والتحرر من العقوبات التي فرضتها عليها أميركا والغرب.
● بعدما انضمّت سوريا إلى مبادرة «الحزام والطريق»، أصبح بإمكانها الجمع ما بين مبادرة البحار الأربعة الخاصّة بها ومبادرة البحار الخمسة التابعة لمبادرة «الحزام والطريق» من أجل ترسيخ مكانتها نقطةَ التقاء لأنابيب الطاقة التي تربط مصادر الطاقة في شبه الجزيرة العربية والخليج العربي وآسيا الوسطى والعراق وإيران بالأسواق في أوروبا. ويمكن أن تمتدّ هذه الشبكة في نهاية المطاف إلى بحر قزوين والبحر الأسود ليتمّ ربطها بآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية، بالإضافة إلى أفريقيا عبر البحر الأحمر. وقد قدّم الرئيس الأسد، خلال زيارته لتركيا، خطّة مماثلة. ومنذ البدء، اعتبرت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه العلاقة الاقتصادية بمثابة تهديدٍ لمصالحهم، ما دفعهم إلى شنّ حربٍ على سوريا.

● تتميّز مبادرة «الحزام والطريق» بنطاقٍ جغرافي عالميّ، لكنّ بنيتها تتكوّن من شراكات إقليمية ثنائية ومتعدّدة الأطراف تهدف إلى تعزيز مصالحها المشتركة. وعلى الرغم من أنّ التركيز الرئيسي ينصبّ على بُعدِها الاستثماري والتجاري، إلّا أنّه عندما يجري التمعّن في الأمر، نكتشف أنّ أبعادها الجيوستراتيجية والأمنية لا تقلّ أهميّة وضرورة لتحقيق نجاح هذه المبادرة واستمراريّتها. كما تعتبر الصين أنّ مبادرة «الحزام والطريق» إلزامية لضمان رفاهية شعبها في المستقبل ونجاح إستراتيجيّتها الكبرى.
● قامت بعض الدول في أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ، بقيادة الولايات المتحدة، باتّخاذ إجراءات ضدّ الصين. فردّت هذه الأخيرة بزيادة قدراتها العسكرية وتأثيرها السياسي للدفاع عن مبادرة «الحزام والطريق» وضمان سلامة ممرّاتها الاقتصادية. ومن خلال انضمامها إلى مبادرة «الحزام والطريق»، أصبحت سوريا جزءاً من إستراتيجيّة الصين الكبرى، وباتت تملك مصالح أمن قومي مشتركة. بعبارةٍ أخرى، ستشمل حدود المصالح الوطنية الصينية كل أنحاء سوريا في نهاية المطاف. ويُعدّ شمال سوريا مهمّاً جداً لكلٍّ من سوريا والصين بحيث لا يمكن تركه تحت احتلال تركيا والولايات المتحدة الأميركية. وبالفعل، بدأت سوريا، بدعمٍ من الصين، ببرنامج إعادة إعمارٍ ضخمٍ وخططٍ لتحديث وتعزيز قدراتها العسكرية.
● حقّقت الصين توسّعاً كبيراً على صعيد نطاق مبادرة «الحزام والطريق» ومداها الجغرافي، ما يجعل من تراجعها أمراً غير مرجّح. وبعدما انضمّت سوريا إلى مبادرة «الحزام والطريق»، لا تستطيع هذه الأخيرة الانسحاب أيضاً، إذ إنّ نجاح واستمراريّة هذه المبادرة مهمّان بالنسبة إلى المصالح الوطنية السورية والصينية على حدّ سواء. فكلّما زاد تطوّر مبادرة «الحزام والطريق» الصينية في سوريا وتقدّم اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ازداد كلٌّ من الترابط والمصالح الأمنية المشتركة بين البلدين.

● لقرونٍ عديدة، دام الصّراع بين القوى العظمى في العالم حول منطقة الشرق الأوسط. وقد تتغيّر الجهات الفاعلة وتتبدّل الوسائل، لكنّ الأهداف الإستراتيجية تبقى ثابتة ثباتَ جغرافية المنطقة. وتُعتبر كلٌّ من الولايات المتّحدة الأميركية والصين اللاعبتين الرئيسيّتين في الوقت الحالي، علماً أنّ كل الدول الأخرى هي بمثابة مساعدة لهما. ويترافق مع دخول الصين إلى منطقة الشرق الأوسط، العديد من التعديلات على لعبة القوى العظمى التقليدية. من الناحية المفاهيمية، تُعدّ مبادرة «الحزام والطريق» إستراتيجيّة اقتصادية وسياسية دولية جديدة. وقد أعلنت الصين، مراراً وتكراراً، أنّها تعتمد نهجاً مختلفاً في العلاقات الدولية يتمثّل في النقاط التالية:
1. نطاقها عالميّ مبنيّ على شراكات وعمليّات تعاون إقليميّة بدلاً من اللجوء إلى التدخّلات.
2. أهدافها طويلة الأمد ودائمة، وليست قصيرة الأمد وانتهازية.
3. تقوم على الاعتماد المتبادل لا التبعيّة.
● يُعتبَرُ دخول الصين إلى سوريا من خلال مبادرة «الحزام والطريق» عامل تغييرٍ رئيسيّاً، ليس لحجمها ونطاقها وحسب، إنّما أيضاً لتنوّع التهديدات والفرص التي تتلقّاها من مختلف القوى العالمية والإقليمية، إذ إنّ الولايات المتحدة وحلفاءها في «الناتو»، الذين سبق أن احتلّوا أجزاء من سوريا، يعتبرون الأمر بمثابة تهديدٍ لهيمنتهم الطويلة على المنطقة. أمّا على الصعيد الإقليمي، فستتخلّى تركيا وإسرائيل عن سياستيهما في المحافظة على علاقات جيّدة مع روسيا وستدعمان الموقف الأميركي. لقد أوصلت الحرب في أوكرانيا رسالتين إلى روسيا: أنّ سوريا، على عكس تركيا وإسرائيل، هي حليفها الأكثر موثوقية وأنّ سياسة الرئيس بوتين المتمثّلة في مصادقة جميع من في المنطقة لن تنجح. وعلى الرغم من تحالف روسيا مع الصين، إلّا أنّها في نهاية المطاف ستعتبِر مبادرة «الحزام والطريق» منافسةً لها.

● إنّ الكفاح من أجل منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، والمشرق بشكل خاصّ، قد بدأ بالفعل في سوريا ولبنان والعراق وإيران. الروس مترسّخون في سوريا، والأميركيّون وحلفاؤهم في «الناتو» مترسّخون في العراق وشمال سوريا، وإلى حدّ أقلّ في شمال لبنان. ولا يعني تجنُّب القوى الكبرى المواجهة المباشرة أن ذلك غير فاعل، إذ إنّ الأمر لا يقتصر على وجودها العسكري الواضح، إذ إنّها تقاتل أيضاً من خلال مجموعة متنوّعة من المرتزقة والمساعدين الذين تلقّوا مساعدة مالية ضخمة ومعدّات عسكرية. مع ذلك، كانت فعاليّتهم العسكرية ضئيلة. ويُذكَر أنه في عام 1513، وصف نيكولو مكيافيلي المرتزقة بأنّهم «غير مجدين وخطرين»، بالإضافة إلى كونهم «غير متّحدين ومتعطّشين للسلطة وغير منضبطين وغير مخلصين»، ولم يتغيّر أيّ شيء. وبغضّ النظر عمّا يُسمَّى به هؤلاء المرتزقة أو تحت أيّ راية يقاتلون، وعلى الرغم من الدمار والمعاناة الإنسانية التي تسبّبوا بها، فمن غير المرجّح أن يفوزوا كما كان مكيافيلي قد استنتج قبل خمسمئة عام.
● يشهد العالم تغيّرات كبيرة، والأمر نفسه ينطبق على طبيعة العلاقات وسبل إقامتها بين الناس. وقد سيطرت أوروبا والولايات المتحدة على المشهد العالمي لقرونٍ عديدة عن طريق التوسّع الإقليمي لبناء الإمبراطوريات. كما تمّ احتلال معظم هذه الأراضي بسرعة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتمّ «تبرير» ذلك من خلال اللجوء إلى مفاهيم مثل «مهمّة التثقيف» وسياسة «مكانها تحت الشمس» الألمانية الدولية وتعبير «بيان القدر» الذي تبنّته أميركا ونظرية «عبء الرجل الأبيض». وعلى الرغم من حدوث تغيّرات جذرية خلال السنوات الخمسين الماضية، إلّا أنّ الغرب لا يزال مصرّاً على الهيمنة العالمية، وإن كان ذلك تحت ذرائع وشعارات مختلفة. أمّا الصين، فتزعم أنّ توسّعها يختلف من حيث الغايات والوسائل ويهدف إلى إحلال السلام والوئام للبشرية.