| ابراهيم علوش
يمثّل الذهب، كسلعة، الأمان والاستقرار، ولعله أكثر ما يحتفظ بقيمته عند تبخّر القوة الشرائية للمسطّحات النقدية تحت شمس التضخّم الحارقة. لكن الذهب يعاني من مشاكل أخرى عند محاولة استخدامه بديلاً أو أساساً للعملات النقدية.
أظهر تقرير أصدره “مجلس الذهب العالمي” في 5/5/2023 أن مشتريات المصارف المركزية من الذهب حول العالم بلغت رقماً قياسياً في الربع الأول من العام الجاري ينوف عن 228 طناً. وكان تقريرٌ سابق لـ “مجلس الذهب العالمي”، في 31/1/2023، قد توّج 2022 بأنه العام الذي بلغ فيه إجمالي مشتريات المصارف المركزية من المعدن الأصفر، عند نحو 1136 طناً، أعلى مستوىً لها في السجل، منذ بدأ تدوينه عام 1950.
بلغت مشتريات المصارف المركزية من الذهب في الربع الأخير من عام 2022 وحده 417 طناً. ويشير التقرير ذاته إلى أن نزوع المصارف المركزية لمراكمة الذهب في خزائنها يحدوه عاملان:
أ – ازدياد حاجة الدول إلى التحوّط “بقرشها الأبيض ليومها الأسود”، في ظل تفاقم الأزمات الجيوسياسية حول العالم.
ب – دور الذهب كمخزن مستقرّ للقيم النقدية في ظل تصاعد معدلات التضخّم، ما يمثّل تأكّلاً في القوة الشرائية للنقود العادية.
لكنّ مثل هذا التفسير يرتبط بظواهر قصيرة المدى نسبياً، إذ إن مراكمة المصارف المركزية للذهب ارتبط تاريخياً بظواهر أعمق وأطول مدىً، مثل:
أ – تغير ميزان القوى الاقتصادي دولياً، ما يمكِّن الاقتصادات الصاعدة من مراكمة ذهبٍ يعكس حصتها المتزايدة من إجمالي الثروة والناتج المحلي عالمياً، كما الولايات المتحدة مقابل بريطانيا بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ب – الاستراتيجيات المدروسة التي قد تتبعها بعض الدول لزيادة الثقة في عملاتها المحلية دولياً، الأمر الذي يصبّ، في سياقنا المعاصر بالذات، في مجرى “نزع الدولرة” de-dollarization، أي التخفيف من أثر هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد الدولي عموماً.
تبرز هنا بالضرورة ظاهرة مراكمة الصين وحدها لـ 1448 طناً من الذهب بين عامي 2002 و2019 أضافت إليها 62 طناً في الشهرين الأخيرين من 2022 فقط، ليربو إجمالي احتياطها من الذهب على 2000 طن مع نهاية العام الفائت، أضافت إليها بضع عشرات الأطنان، ليصبح احتياطها 2068 طناً من الذهب مع شهر آذار/مارس الفائت.
هنيهة ونعود إلى ميزان القوى الذهبي عالمياً. أمّا ما يهمنا الآن فهو توجّه بعض المصارف المركزية عالمياً، خصوصاً الروسية والصينية، إلى تقليل المكوّن “الدولاري” من احتياطاتها من العملة الصعبة، ما يدفعها، من بين أشياء أخرى، إلى استبدال دولاراتها بالمزيد من الذهب.
يأتي ذلك في سياق دعوات متزايدة عالمياً لاستبدال الدولار الأميركي بـ:
أ – المتاجرة بالعملات المحلية.
ب – العملات الإلكترونية crypto-currencies.
ج – الذهب.
أما المتاجرة بالعملات المحلية، فقد جرى التطرّق إلى بعض صعابها وتحدياتها خلال شهر أيار/مايو الفائت في الميادين نت. أما العملات الإلكترونية، فشديدة التقلّب، ما يجعلها أكثر ملائمة للمضاربين، حتى الآن، في حين أن المطلوب دولياً هو بديل للدولار الأميركي يؤدي دور وسيطٍ للتبادل، ومقياسٍ للقيمة، ومستودعٍ للمدخّرات، ومعيارٍ للدفع الآجل، الأمر الذي يتطلّب قدراً معقولاً من الاستقرار.
يمثّل الذهب، كسلعة، الأمان والاستقرار، ولعله أكثر ما يحتفظ بقيمته عند تبخّر القوة الشرائية للمسطّحات النقدية تحت شمس التضخّم الحارقة. لكن الذهب يعاني من مشاكل أخرى عند محاولة استخدامه بديلاً أو أساساً للعملات النقدية، ما يعيق تبنّيه بديلاً تلقائياً للدولار الأميركي، وهو موضوعنا في هذه المقالة.
لا بدّ من القول أولاً إن هناك اليوم مجموعةً من العملات الإلكترونية التي ترتبط بالذهب كلياً أو جزئياً، ومنها Tether وDigix وPaxos وغيرها.
تتسم تلك العملات بأنّ قيمها أقلّ تذبذباً وتقلّباً من غيرها من العملات الإلكترونية، وستكون بالضرورة أكثر وأكثر استقراراً وأماناً لو أصدرتها المصارف المركزية للاقتصادات الصاعدة استناداً إلى مخزونها من الذهب، وهو أحد المقترحات المطروحة على الطاولة لبدائل الدولار في زماننا.
تعد هذه العملاتُ مشتقاتٍ ماليةً إلكترونيةً مدعومةً ذهبياً، وبالتالي يجري عليها ما يجري على الذهب صعوداً وهبوطاً، سوى أنها لا تتطلّب من مالكها أن يحتفظ بذهبٍ ملموس يحتاج تخزيناً وحراسةً وتأميناً، بل تتطلّب مفتاحاً رقمياً فحسب. وهذا يجعلها أصلاً جذاباً ضمن المحفظة الاستثمارية للمستثمر الفرد كبديلٍ جزئيٍ عن الذهب، أما قدرتها على الحلول كلياً محل الدولار الأميركي لدى المصارف المركزية والتجار والمستثمرين والسياح، فتلك مسألة أخرى يعقّدها استنادها إلى الذهب.
تحاول المصارف عموماً، غير المركزية فحسب، توزيع استثماراتها بما يوائم بين 3 قيود متعارضة في آنٍ واحد:
أ – تحقيق أكبر عائد ممكن، ما يعني تجشّم مخاطرة أكبر.
ب – تأمين السيولة النقدية اللازمة لـ “المقاصّات” اليومية.
ج – تعزيز الثقة بملاءتها المالية، وهنا يأتي دور الأصول الآمنة، ذات العائدات الأقلّ، وعلى رأسها الذهب الذي لا يدر عائداً.
الذهب إذاً درع، ليس سيفاً ولا رمحاً، في عالم المال.
ليس الطريق إلى بديلٍ ذهبيٍ للدولار الأميركي معبّداً بالذهب
كانت بريطانيا سبّاقة في العصر الحديث إلى استخدام الذهب عملةً، إلى جانب الفضة، منذ القرن الـ 18. وفي عام 1817، دشّنت الليرة الإنكليزية، ذات الـ 7.32 غرامات من عيار 22 قيراطاً، استخدام الذهب عملةً، حين كانت تسود الفضة عالمياً، جاء ليحلّ تدريجياً محلّ الفضة في بريطانيا ومستعمراتها أولاً.
في العقود الأربعة السابقة للحرب العالمية الأولى، عاش الذهب فترته “الذهبية” عالمياً. وأبرزَ تحوّلُ بقية دول العالم إلى الذهب مشكلةَ ندرة المعدن الأصفر، وعدم وجود ما يكفي منه لتغطية النشاط الاقتصادي دولياً، ما أدى إلى:
أ – استبدال الذهب بعملات ورقية يمكن مبادلتها من المصرف المركزي بالذهب عند الطلب.
ب – إعطاء المصارف المركزية هامشاً لإصدار عملة ورقية تفوق مخزونها من الذهب (باعتبار أن حاملي النقود الورقية لن يأتوا معاً في آنٍ واحد لاستبدالها بالذهب).
ج – السماح بحرية استيراد الذهب وتصديره، وتثبيت أسعار صرف العملات المختلفة بناءً على محتواها الذهبي، مع ترك هامش صغير تحت عنوان “كلفة إدارة وشحن وتخزين إلخ…”
لكنْ ما أن حلت الحرب العالمية الأولى حتى عُلّقت مبادلة العملة بالذهب، بالنسبة للمصرف المركزي البريطاني ولبعض المصارف المركزية الأخرى. كما فُرضت في الحرب قيودٌ شديدةٌ على تحويل العملات المحلية إلى عملات أجنبية خوفاً من انهيارها.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يجري فيها تعليق مبادلة العملات بأصلها المفترض، الذهبي أو الفضي، في زمن الأزمات والحروب، إذ إن الولايات المتحدة الأميركية علّقت مبادلة دولارها بالذهب في خضمّ الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، ثم ظلت تراوح حتى عام 1879 قبل أن تعود بثباتٍ إلى المقياس الذهبي.
لا شكّ في أن القارئ النبيه التقط أن الحديث لا يدور هنا حول الماضي أو التاريخ، بل حول أحد أهم مشاكل استخدام الذهب والمعادن الثمينة عملةً اليوم وغداً في خضمّ الأزمات والحروب، لأن الحروب والأزمات تزيد من التزامات الدول مالياً في اللحظة التي تنخفض فيها إيراداتها بشدة. فإذا كانت تعتمد غطاءً ذهبياً لعملتها، فإن الذهب لا يتكاثر فجأةً بحسب الحاجة إليه، إنما يكتنزه الأفراد في لحظة الأزمة بالضبط لأنه مخزنٌ آمنٌ للقيمة عندما تتهاوى القيم الأخرى، ما يقلل من كميته في التداول. فإذا كان عملةً، يُحدِث ذلك أثراً انكماشياً في الاقتصاد.
لن تفرّط الدول أيضاً بمخزونها من الذهب في الحروب والأزمات، ولن تجد بسهولةٍ من يقرضها ذهباً، إما لأنّ الدول الأخرى ستكون في أزمة مالية أيضاً، وإما لأنها ستتجنّب مخاطر إقراض من هم في أزمة مالية فترتفع احتمالية تعثّر قروضهم، الأمر الذي يجعل الغطاء الذهبي للعملة، عندما تحتاجه الدول أكثر ما تحتاجه، أقل دفئاً.
بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى بـ 10 سنوات، عادت بعض الدول إلى المقياس الذهبي، لكن ذلك لم يستمرّ طويلاً، إذ حلّ الكساد العظيم (1929-1939)، ليقضي على المقياس الذهبي للعملة نهائياً.
تخلّت بريطانيا عنه مرة واحدة وللأبد عام 1931. ولم تعلّق الولايات المتحدة العمل بالمقياس الذهبي خلال الحرب العالمية الأولى، لأن اقتصادها ظل بعيداً عن مخالب الحرب، فازدهر، لكنها تخلت عنه في قعر الكساد العظيم عام 1933. وكان قانون تأسيس الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأميركي) عام 1913 قد فرض عليه الاحتفاظ بما يعادل 40% من قيمة النقد في التداول ذهباً.
اندفع حاملو الدولارات الأميركية، تحت وطأة الكساد العظيم، إلى مبادلتها بالذهب من الاحتياطي الفيدرالي، فانخفضت كمية النقد في التداول، وتقلّص مخزون الاحتياطي الفيدرالي من الذهب. حاول الاحتياطي الفيدرالي في بداية الثلاثينيات الدفاع عن الدولار برفع معدل الفائدة، الأمر الذي أحدث أثراً انكماشياً مزدوجاً في الاقتصاد بالضبط حين كان يحتاج إلى سياسةٍ نقدية توسعيّة. لكنه إجراء أدى إلى زيادة مخزون الاحتياطي الفيدرالي بذهبٍ اشترى فيه غيرُ الأميركيين دولارات أميركية.
في آذار/مارس 1933، فور وصول الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت إلى الحكم، تخلى عن المقياس الذهبي للدولار. وفي 30/1/1934، مرّر الكونغرس الأميركي “قانون احتياط الذهب”، فيما كان الاقتصاد الأميركي يتمرّغ في وحول الكساد العظيم، الذي يصادر مخزون الذهب لدى الأميركيين مصارفَ وأفراداً وشركاتٍ، ويجبرهم على تحويله إلى وزارة المالية فوراً مقابل “شهادات إيداع”! وهي علامة فارقة بالنسبة لنظام رأسمالي حرّ، بزعمه، يترفّع عن تدخّل الدولة بالاقتصاد ويعادي الاشتراكية عقائدياً.
الأهم، أن قانون الكونغرس ذاته خوّل رئيس الولايات المتحدة تخفيض قيمة الدولار مقابل الذهب. وفي اليوم التالي لإقرار القانون، أي في 31/1/1934، خفض الرئيس روزفلت قيمة الدولار من 20.67 إلى 35 دولاراً مقابل أونصة الذهب. وهو الأساس الذي اعتمده اتفاق بريتون وودز عام 1944 للدولار مقابل الذهب.
أدّى هذا القانون دوراً مهماً في مراكمة الذهب لدى الاحتياطي الفيدرالي، وفي استقطاب الذهب إلى الولايات المتحدة، وكان بداية انتشار الدولارات الأميركية خارج الولايات المتحدة، أي بداية دولرة الاقتصاد الدولي. وحين اشتعلت الحرب العالمية الثانية، خرج الاقتصاد الأميركي من كساده ليصبح محرّكاً للاقتصاد العالمي ومصنع سلاح الحلفاء، فيما تدمّرت سائر اقتصادات العالم.
التهب الطلب على الدولار الأميركي، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تمتلك 75% من مخزون الذهب عالمياً. أما بعد اتفاق بريتون وودز، فقد تحوّل الدولار إلى بديلٍ للذهب، وما برح كذلك إلى اليوم.
ميزان القوى الذهبي عالمياً
تتربّع الولايات المتحدة، بحسب إحصاءات آذار/مارس الفائت، على رأس مالكي احتياطات الذهب عالمياً، تليها ألمانيا بفارقٍ بعيد. وتشير الإحصاءات إلى أن أكبر 10 دول مالكة للذهب عالمياً اليوم هي:
1)) الولايات المتحدة: 8133 طناً.
2)) ألمانيا: 3355 طناً.
3)) إيطاليا: 2452 طناً.
4)) فرنسا: 2437 طناً.
5)) روسيا: 2327 طناً.
6)) الصين: 2068 طناً.
7)) سويسرا: 1040 طناً.
8)) اليابان: 846 طناً.
9)) الهند: 795 طناً.
(10) هولندا: 612 طناً.
العبرة أن ميزان القوى الذهبي عالمياً يميل بقوة حتى الآن مع الإمبريالية، بمعناها القياسي، لا مع القوى الصاعدة المستقلة أو البريكس، وأن الولايات المتحدة الأميركية منفردة تتربّع على رأس هرم احتياطات الذهب عالمياً، على الرغم من ميلان ميزان القوى اقتصادياً، بمعيار معادل للقوة الشرائية، كما أظهرتُ في مادة سابقة في الميادين نت، مع اقتصادات البريكس بامتياز.
هذا يعني أن ميزان القوى الذهبي عالمياً ما برح يرجّح كفة رأس المال المالي على كفة الإنتاج الحقيقي، وبالتالي فإن الجنوح إلى مقياس ذهبيٍ للعملة البديلة للدولار الأميركي سوف يعيد إنتاج الهيمنة الإمبريالية عموماً والأميركية خصوصاً، لأنّ من يملك ذهباً أكثر، سوف تكون عملته أقوى، وسوف يضع يده بالتالي على كمية أكبر من السلع والخدمات والأصول عالمياً في حالة السلم، وسوف يكون أكثر قدرة على الاستمرار في حالة الحروب والأزمات.
من البديهي أن مصدر قوة دول البريكس هو الإنتاج، لا الذهب، وأن صعود اقتصاداتها يعتمد على دورها المتزايد في النشاط الاقتصادي عالمياً، ولا سيما قطاعاته الأكثر تقدّماً تقنياً، وقوة النقد من قوة الاقتصاد، وقوة الاقتصاد تستند إلى عدة عوامل، منها العلم والتكنولوجيا، ومنها ما يمتلكه من خامات ليس الذهب إلا أحدها، وربما يكون تصدير جزء من تلك الخامات واستخدام عائداتها استثمارياً أجدى من اكتنازها.
بلغ إنتاج الذهب عالمياً عام 2022 مثلاً 3100 طن. كانت حصة الصين منها 330 طناً، وكلٍ من روسيا وأستراليا 320 طناً، وكندا 220 طناً، والولايات المتحدة 170 طناً، وكلٍ من المكسيك وكازاخستان 120 طناً، وجنوب أفريقيا 110 أطنان، وكلٍ من البيرو وأوزبكستان 100 طن، وغانا 90 طناً، وأندونيسيا 70 طناً، وبقية دول العالم مجتمعة 1030 طناً.
من الواضح إذاً أن خريطة إنتاج الذهب عالمياً تختلف عن خريطة ملكيته، وأن غالبية إنتاج الذهب عالمياً يجري شرق الكرة الأرضية وجنوبها، في حين توجد غالبية سبائكه شمالاً وغرباً. وأسفاه على البلدان التي لا تمتلك مخزوناً من الذهب ولا تنتجه ولا من يحزنون!
في جميع الأحوال، لو أرادت دول البريكس مجاراة مخزون الولايات المتحدة وحلفائها من الذهب بمراكمة الذهب الذي تنتجه فحسب، لاحتاجت إلى عشرات السنين. أضف إلى ذلك أن التنقيب عن الذهب والمعادن لم يعد يقتصر على كرتنا الأرضية الصغيرة فحسب، بل انطلق السباق حثيثاً منذ سنوات للتنقيب عنه في الكواكب والكويكبات البعيدة في الفضاء الخارجي.
وللمزيد حول هذه النقطة، يمكن مراجعة مادة “معركة التعددية القطبية على جبهات القمر والمريخ وأبعد“، في الميادين نت في 12/7/2022. وهي معركة ربما تكون ذات أبعاد استراتيجية أخطر بكثير من سباق الذهب هنا على كوكب الأرض.
كما أن مراكمة كميات هائلة من الذهب، عندما يؤدي الأخير دور النقد، سوف يكون ذا أثر تضخّمي، عندما لا تواكبه زيادة موازية في الإنتاج، تماماً كما أدت مسروقات الذهب والفضة من أميركا اللاتينية إلى ارتفاعات عامة ومستمرة في معدل الأسعار غربي أوروبا على مدى قرون.
لذلك، يؤدي امتلاك الغرب مخزوناً هائلاً ومتزايداً من الذهب (والأصول المالية عموماً) إلى أثرٍ تضخّمي فقط إذا فقد الغرب القدرة على الوصول إلى أسواق الشرق والجنوب ومواردهما. فمفتاح التحرّر من الهيمنة الإمبريالية هو تأسيس منظومة اقتصادية عالمية بديلة تحد من قدرة الغرب الجماعي جنوباً وشرقاً، ولا يتحقّق ذلك بتبنّي عملةٍ جديدةٍ يمتلك الغرب حتى الآن أغلب كنوزها.
ليس من المؤكد إذاً أن تبنّي استراتيجية مراكمة الذهب والفضة أولوية، على غرار السياسة “المركنتيلية” في مستهلّ تأسيس الدول القومية في أوروبا، هي السياسة الأسلم لدول البريكس، أو أنها السياسة التي تعزّز تفوّق اقتصاداتها في ميدان الإنتاج الحقيقي حيث تتمتّع البريكس بميزةٍ نسبية.
المقياس الذهبي يعيق قدرة الدولة على إدارة الاقتصاد
ربما يكون من المغري مطالبة الغرب الجماعي أن يدفع ثمن نفطنا وغازنا وخاماتنا عموماً ذهباً بدلاً من أوراق الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني المدعومة بالهيمنة الغربية فحسب، على غرار دعوة رئيس الوزراء الماليزي الأسبق محاضير بن محمد عام 2001 لإنشاء دينار ذهبي إسلامي، وزنه 4.25 غرامات من الذهب وعياره 24 قيراطاً، أو على غرار دعوة الزعيم الليبي السابق معمر القذافي عام 2009 لإنشاء دينار ذهبي خاص بالاتحاد الأفريقي يباع مقابله النفط والخامات الأخرى.
وربما تكون تلك الدعوة أحد أسباب عدوان الناتو على ليبيا عام 2011، الأمر الذي ترجّحه الآن تسريبات رسائل هيلاري كلينتون الإلكترونية عام 2016، والتي تحذّر إحداها من أن القذافي يزمع إنشاء دينارٍ ذهبيٍ استناداً إلى 143 طناً من الذهب راكمتها ليبيا في خزائنها، ويقول “مجلس الذهب العالمي” إن 27 طناً منها اختفى الآن.
وربما يكون تقاضي ثمن الخامات والصادرات إلى الغرب ذهباً أمراً محبّذاً في بعض الحالات. ومن المؤكّد أن الذهب أكثر أماناً من عملات الدول الإمبريالية، لكنّ تحويل الذهب إلى عملةٍ محلية، أو إسناد العملة المحلية إلى الذهب هو أمرٌ مختلفٌ تماماً، لأن الذهب ربما يجعل سعر الصرف أكثر استقراراً، وربما يجعل الأسعار عموماً أكثر استقراراً على المدى الطويل، ولكنه ينقل عدم الاستقرار إلى الاقتصاد، الذي يصبح أكثر عرضة لدورات التضخّم والكساد مع فقدان المصرف المركزي القدرة على السيطرة على كمية النقد في التداول.
فإنّ الفترات التي ساد فيها المقياس الذهبي في الاقتصاد الدولي اتسمت بازدياد إفلاس البنوك واشتداد الأزمات الدورية.
وللحديث تتمة…
سيرياهوم نيوز3 – الميادين