لندن | يبدو أن «صقور الأمركة» في الائتلاف الحاكم في ألمانيا، نجحوا في فرض صيغتهم على الموقف الرسمي للبلاد في ما يرتبط بالعلاقات مع الصين؛ إذ أصدرت برلين، أول من أمس، أول وثيقة استراتيجية لها بهذا الخصوص، انتقدت فيها «عدوانية» بكين و«ممارساتها غير العادلة»، ودعت إلى «إزالة المخاطر» عبر «التقليل من الاعتماد الاستراتيجي على شريكها التجاري الأول خارج الاتحاد الأوروبي». الوثيقة – المكوّنة من 64 صفحة – جاءت ثمرة نقاشات مستفيضة – وحادّة أحياناً -، استمرّت لأشهر عدّة داخل الحكومة التي يتنازعها تيّاران: أحدهما تقوده وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك من «حزب الخضر» ويتبنّى وجهة نظر واشنطن بالكامل؛ فيما الثاني يقوده المستشار أولاف شولتس من «الحزب الاجتماعي الديموقراطي» ولا يرى مصلحة ألمانية في كسر الجرّة مع الصين، ويريد انخراطاً متوازناً معها من دون المخاطرة بفقدان الشركات الألمانية الكبرى حصّتها الوازنة في السوق الصينية. وتتجاوز قيمة التجارة بين البلدين 300 مليار يورو (325 مليار دولار) سنوياً، فيما تعدّ الصين سوقاً أساسية للشركات الألمانية الكبرى مثل «سيمينز» و«وباسف» (عملاق الكيمياويات) و«بي إم دبليو» و«فولكسفاجن». كما ترتبط وظائف مليون ألماني بالصين مباشرة، فضلاً عن عدّة ملايين ترتبط وظائفهم بها بشكل جزئي. وبينما تعتمد نصف الشركات الألمانية على سلاسل توريد تسيطر عليها بكين، استثمرت شركات ألمانية ما يقرب من 12 مليار دولار في الصين العام الماضي وحده.
وفي ما بدا ترداداً لـ«اللوازم» الأميركية، اتهمت الوثيقة الصين بـ«السعي إلى خلق تبعيات اقتصادية وتكنولوجية بهدف استخدامها لتحقيق أهدافها ومصالحها السياسية»، وحثت الشركات ومصالح الأعمال الألمانية على أخذ المخاطر الجيوسياسية في الحسبان في عمليات صنع القرار «حتى لا تضطرّ إلى الاستعانة بالأموال العامة عند حدوث أزمة جيوسياسية». كما تناولت ما سمّتها «عدوانية الصين خارجياً والاستبداد المتزايد فيها داخلياً»، متطرّقةً إلى مطالبة بكين باستعادة جزيرة تايوان، والشكوك الغربية في علاقاتها الوثيقة والمتنامية مع موسكو، مقابل علاقاتها المتوتّرة بواشنطن وتحدّيها للنظام العالمي القائم. وقالت بيربوك، بينما كانت تعلن صدور الوثيقة خلال مؤتمر صحافي، إنها ستُجري محادثات سرّية مع كبريات الشركات المرتبطة مع الصين حول تقييمها للمخاطر من جراء ذلك الترابط، علماً أن الوثيقة تفيد بأن الحكومة ستراجع بشكل دوريّ قوائم مراقبة الصادرات على خلفية التطورات التكنولوجية الجديدة، لضمان أن السلع الألمانية لا تستخدم في «الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان في الصين»، أو تدعم قدرات التسلّح العسكري وتصدير الأسلحة الفتاكة، في ما فُهم منه تأييد الحكومة الألمانية توجّه الاتحاد الأوروبي لوضع ضوابط تمنع الاستثمار الخارجي في التقنيات ذات الاستخدام العسكري أو المزدوج. وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، دأبت على الترويج لمقترح «إزالة المخاطر» من القطاعات الاقتصادية الأكثر حساسية في علاقة الكتلة الأوروبية مع الصين.
تفيد أكثر التوقعات تفاؤلاً بأن الاقتصاد الألماني لن يتعافى قبل نهاية العقد الحالي
من جهتها، مصالح الأعمال واتحادات العمّال الألمانية التي كانت تتابع بقلق الجدل داخل الحكومة، وتخشى من فكّ الارتباط بالصين بشكل مفاجئ، تنفّست الصعداء بالنظر إلى اقتصار الوثيقة على التوجيهات العامّة من دون تحديد أهداف أو متطلّبات ملزمة. ولا تمانع أغلب الشركات تنويع استثماراتها وسلاسل توريدها وأسواق تصديرها بعيداً عن الصين، لكن الواقع الموضوعي يقول إنه يستحيل تعويض السوق الصينية، لا لناحية الحجم، ولا لناحية فرص النمو المستقبلي، فيما سيكون تأثير فكّ الارتباط مدمراً على المدى البعيد للعديد من الشركات المتوسطة التي يصدّر بعضها أكثر من نصف إنتاجه إلى الصين. وكانت ألمانيا قد أسّست، خلال العقدَين الماضيين، حالة من الازدهار الصناعي والتجاري الذي وضعها على قمّة الاقتصاد الأوروبي، ومنحها القوة الناعمة لتكون قاطرة الاتحاد. وبحسب خبراء، فإن سرّ هذا الازدهار مرتبط بعاملين أساسيين: إمدادات الطاقة من الغاز والنفط والفحم الحجري من روسيا بأسعار رخيصة، والتي قلّلت من تكاليف الإنتاج وسمحت بتنافسية المنتج الألماني الممتاز تقنياً، وكذلك العلاقات التجارية الوثيقة بالصين التي بنيت في عهد المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، وفتحت الباب للشركات الألمانية الكبرى لاقتطاع حصص هامة من السوق الصينية العملاقة، ولا سيما في قطاعات الكيمياويات، والمعدات والآلات الصناعية، والسيارات.
لكن الحكومة الألمانية التي خَلَفت حكومات ميركل اضطرّت لمساوقة رغبات الحليف الأميركي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، فتخلّت بشكل شبه تامّ عن توريدات الطاقة الروسية، وانتقلت إلى مصادر بديلة. لكن فك الارتباط هذا جاء مكلفاً للغاية، وتسبّب في النهاية بوقوع ألمانيا في حالة من الركود الاقتصادي، والتضخم المتصاعد، وارتفاع تكاليف الإنتاج الصناعي. وبينما تفيد أكثر التوقعات تفاؤلاً بأن الاقتصاد الألماني لن يتعافى قبل نهاية العقد الحالي، يحذر خبراء من أنه إن نفّذت برلين فكّ ارتباط مع شريكها التجاري الأول منذ 2016، فستقود البلاد نحو انتحار اقتصادي تام. ومع أن شولتس سارع إلى التوضيح، عبر «تويتر»، أن الوثيقة الاستراتيجية تتعلّق حصراً بإدارة المخاطر مع بكين من دون الوصول إلى فكّ ارتباط كامل، فإن الأمر بدا مثيراً للشكوك والاستهجان؛ إذ لا يستقيم تطلّع الحكومة الألمانية إلى استقلال صناعاتها الاستراتيجيّة من مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والتقنيات الخضراء (سواء كواردات من المواد الخام، أو كصادرات من المنتجات المصنعة) عن الصين، في الوقت نفسه الذي تريد فيه الاستمرار في تعزيز التبادل التجاري في القطاعات الأخرى.
وبالتوازي مع إعلان الوثيقة الاستراتيجية في برلين، صدر في بريطانيا تقرير برلماني اعتبر أن ردّ لندن على عمليات تجسّس صينية وصفها بـ«المتطوّرة بشكل متزايد»، كان «غير كافٍ على الإطلاق»، وانتقد الحكومة لفشلها في تبنّي نهج متكامل للتعامل مع «مشكلة الصين». ويزداد قلق المملكة المتحدة ممّا تراها محاولة اختراق صينية للمجتمع البريطاني، عبر التشبيك الاقتصادي مع جهات محلية، والاستحواذ على الشركات، ولا سيّما تلك التي تعمل في قطاعات البنية التحتية الحساسة، أو من خلال تصدير شركات بريطانية تكنولوجيات متقدمة إلى الصين. وبينما تغض السلطات البريطانية النظر عن مصادر الأموال الطائلة التي تمرّ عبر حيّ المال في لندن (السيتي)، فإنها شرعت في فحص صفقات الاستثمار الصينية مع الشركات البريطانية بشكل منهجي، بموجب قانون خاص للأمن القومي والاستثمار، وحقّقت إلى الآن في ثمانٍ منها.
سيرياهوم نيوز3 _ الأخبار