| عبد المنعم علي عيسى
حددت موسكو أهدافها حين الإعلان عن «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا يوم 24 شباط 2022 من تلك العملية بأمرين اثنين أولاهما مواجهة تقدم «ناتو» شرقاً باتجاه حدودها عبر سعي الغرب لضم أوكرانيا إلى عضويته، وثانيهما دعم استقلال إقليمي دونتيسك ولوغانسك وقبول انضمامهما إلى أراضيها، ومن المؤكد الآن أن تبلور جذور الصراع الحديثة مع أوكرانيا كان فعلاً حاكماً في تحديد ذينك الهدفين، ففي العام 2014 قام الغرب بدعم «ثورة ملونة» في أوكرانيا أطاحت بحليفها فيكتور يانوكوفيتش في غضون خمسة أيام امتدت ما بين 18 – 23 شباط من ذلك العام لتحل محله قيادة لم تتأخر موسكو في توصيفها على أنها زمرة من «الفاشيين»، وفي واقع الحال كانت الروائح التي فاحت من تلك التظاهرات تشي بالكثير مما يبرر ذلك التوصيف الروسي، من نوع رفع صور شخصية للقومي الأوكراني المتعصب ستيفين بانديرا الذي سبق له أن تحالف مع النازيين زمن الحرب العالمية الثانية.
بدا أن تجنب الصراع، مع وصول فلاديمير زيليسنكي إلى سدة السلطة في كييف العام 2019، أمر من الصعب حدوثه، فالأخير راح يبدي ميلاً كبيراً باتجاه الغرب بدرجة لا تراعي قواعد «الجيوبوليتك» التي تختطها الجغرافيا ثم يلونها التاريخ خصوصاً أن «النظريات» و«التنبؤات» التي راحت تفوح من دوائر غربية قريبة من غرف صناعة القرار كانت تحمل معها توقعات بـ«مصير أسود» ينتظر الجغرافيا والكيان الروسيين.
الآن بعد مرور خمسمئة يوم على الحرب الأوكرانية، تتبدى حقيقة صارخة هي أن تطوراتها لم تعد تتيح الوقوف عند الأهداف التي ارتسمت لها منذ بدئها، فالمنحنى البياني لـ«النار» اتخذ خطاً تصاعدياً بدرجة تهدد بإمكان وصوله إلى مستويات لم تكن متوقعة إبان رسم الخطط والخرائط، ولعل مخرجات قمة «ناتو» في العاصمة الليتوانية يوم 11 تموز الجاري كافية لتبرير ذلك التوصيف بدرجة كافية، ولذا يمكن الجزم بأن التوصيف الروسي لما يجري على الأرض الأوكرانية لم يعد يصلح عنواناً لهذا الأخير سواء اعترفت موسكو بذلك أم لم تعترف، فما يجري عملياً بات توصيف الحرب قليلاً عليه إلا إذا ارتفق الأخير بـ«العالمية المصغرة» التي يريد الغرب لها أن تتأجج ويتسع مدى النار فيها لكن مع الحرص على ألا يخرج الأمر عن ضوابط محددة يبدأ حدها الأول عند ضرورة استمرار «النزف» الروسي فيما حدها الثاني يقف عند وجوب ألا يصل هذا الأخير لحدود يجد فيها الروس أنفسهم أمام خيار وحيد لا ثان له، ولذا فإن تلك العملية – الحرب، مرشحة للاستمرار إلى أمد من الصعب التكهن بالوقت الذي سيحمل معه تباشير النهاية قياساً لمعطيات عدة، فتلك العملية، أفرزت من حيث النتيجة محورين أساسيين راحا يختطان موازين قوى دولية جديدة أولاهما غربي أوروبي أطلسي سرعان ما اجتذب إليه كلاً من اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية لاعتبارات تتعلق بقضايا أمنية واقتصادية، وثانيهما روسي صيني إيراني راح هو الآخر يستقطب العديد من الدول التي تصنف العديد منها على لوائح «الاقتصاديات الواعدة»، فيما العلاقة بين المحورين بدت تناحرية في مؤشر على اختلال الموازين وتعذر الاعتراف بالجديدة منها، وهذه تمثل بالتأكيد فرصة لإيجاد توازنات دولية جديدة سوف يسعى الغرب، بكل ما يملك، لمنع تبلورها ورسوها على صيغة ثابتة ستشكل، فيما لو حصلت، مخاضاً لولادة عالم جديد مختلف في تراسيمه وبناه عن ذاك الذي قام مطلع العام 1991 وصولاً إلى شباط 2022، الأمر الذي يفسر كل هذا الدعم الغربي لأوكرانيا والذي فاق كل التوقعات، والراجح هنا هو أن السقوف التي بلغها فيما مضى، على ارتفاعاتها الشاهقة، لن تمثل «الذروة» التي سيبلغها هكذا مسار.
بعد مرور 500 يوم على انطلاق الحرب الأوكرانية يمكن القول إن النتائج المستحصلة منها عديدة ولعل أبرزها أن الغرب، الذي كان يعاني من تناقضات واسعة فيما بين أطرافه على ضفتي الأطلسي، استطاع أن يستعيد جزءاً كبيراً من وحدته مما تظهره الكثير من المحطات التي تخللتها تلك الحرب، ثم استطاع أن يدخل القوة الروسية في دائرة الاستنزاف بل ووضع سياساتها في سياقات هي أقرب لأن تكون ردود أفعال بدلاً من أن تكون أفعالاً تبنى على شروط وموجبات ووقائع، ثم إن التداعيات التي تركتها الحرب على الداخل الروسي راحت تنبئ باحتمالات بروز ظواهر من شأنها أن تؤسس لتفسخات في البنيتين العسكرية والسياسية خصوصاً إذا ما طال أمد الصراع، لكن في مقلب آخر سنجد أن الغرب الذي خطط لدخول روسيا دائرة الاستنزاف آنفة الذكر، كان قد دخلها هو الآخر خصوصاً على الضفاف الأوروبية التي راحت اقتصادياتها تنوء تحت أثقال بات من الثابت، إذا ما طال أمد الحمل، أنها ستؤدي إلى انكسارات في «الأضلاع» هذا إن لم يؤد الفعل إلى عطب في «المحور» الحامل لها مما تشي به حالة اللا استقرار التي تعيشها القارة العجوز، فعلى الرغم من المظاهر التي راحت تتخذها تلك الحالة إلا أن الجذور تكمن في تراجع أداء الاقتصادات بفعل ارتفاع أسعار الطاقة أولاً ثم بفعل ارتفاع تكاليف الدعم الذي تقدمه حكوماتها لكييف، وفي المقلب عينه سنرى أن مجمل التداعيات على الداخل الروسي، التي راح الغرب يراهن عليها بشكل كبير كما أظهره تمرد «فاغنر» أواخر شهر حزيران الماضي، لم تكن بالقدر الذي يمكن الرهان عليه، أقله حتى الآن، مما تظهره الطريقة والسرعة، التي حلت بها حادثة التمرد آنفة الذكر، ومن المؤكد أن بوتين ما بعد 25 حزيران بات «قيصراً» بدرجة أعلى من تلك التي كان عليها قبل هذا التاريخ الأخير.
فيما يخص استعادة الغرب لوحدته فالأمر يبدو مرحلياً أو مؤقتاً أكثر من كونه تلاقيات عند النهج والمصالح والثقافة.
يمكن القول إن الحرب وما ستؤول إليه في خواتيمها سوف تقرر مصائر شعوب ودول وكيانات برمتها فالفعل، الحرب، بات في مراميه البعيدة يهدف إلى تغيير قواعد اللعبة العالمية الراسمة عادة لأحجام وأدوار وأثقال، هذه الأخيرة، وفي ذاك يبدو فعل الانتظار والترقب، فحسب، سياسة سلبية هي أقرب لأن تكون قبولاً بـ«تلاشي الأدوار».
سيريا هوم نيوز3 _ الوطن