آخر الأخبار
الرئيسية » إدارة وأبحاث ومبادرات » العرب والنبط والآراميون: مقاربة أنثروبولوجية للأصول والعلاقات [1/2]

العرب والنبط والآراميون: مقاربة أنثروبولوجية للأصول والعلاقات [1/2]

| علاء اللامي

هذا البحث في جزء منه، يأتي تعقيباً على مقالة سابقة للمؤرخ جعفر المهاجر («الأخبار»، عدد 16 حزيران 2022»، والتي عقب فيها على بعض ما ورد في مقالة لي حول العلاقات بين الحضارات الرافدانية والإيرانية القديمة [1/2] («الأخبار»، 27 نيسان 2022،) ولكنه سيكون أوسع من ذلك بكثير، وسأحاول فيه تقديم مقاربة إناسية (أنثروبولوجية) وتأريخية لموضوع العلاقة والأصول بين الأسماء والمسميات أعلاه ولبعض تمظهراتها الحضارية.

تطرّقت، في الجزء الأوّل من مقالتي سالفة الذكر، إلى مقالة غنية بالاقتباسات الموثقة حول الأنباط للباحث د. زياد السلامين، بعنوان «الأنباط عرب بالأدلة التاريخية»، ووصفت تلك المقالة بالبحث المتقن ولم أزد على ذلك فأتبنى نظريته التي تعتبر الأنباط عرباً، ومن دون أن أطلقَ عليها أحكاماً باترة ونهائية، بل اكتفيت بعرض أدلته المترجمة المفيدة، ضمن مفصل فرعي من بحثي الذي لا علاقة مباشرة له بموضوع أصل الأنباط، وهذا ما جعل المعقب يؤاخذني لأنني «تركت قارئي حائراً حول موضوع أصل الأنباط» كما قال، وهو محق لو أن الموضوع كان حول هذا العنوان تحديداً. في هذا النص، الذي يبحث في أصول العلاقات المتداخلة بين العرب والنبط والآراميين والسريان، سأتوقف بشيء من التفصيل عند وجهة نظر السلامين وباحثين آخرين ثم أنتقل منه إلى عرض تصوّري الأوّلي عن الموضوع.

الأنباط عرب أم أشقاؤهم؟
يعلّل السلامين رفضَه لقول القائلين إن الأنباط آراميون، مؤكداً أنهم عرب، بسببين؛ الأوّل، يلخصه قوله «اعتمد أصحاب الرأي القائل إنَّ الأنباط آراميون على أدلةٍ غير مقنعةٍ لإثبات مزاعمهم، ومن أبرز هذه الشواهد استخدام الأنباط للخط واللغة الآراميّة، ولكن اللغة ليست المقوم الوحيد للهويّة، والهوية ليست أُحادّية البُنية؛ أي لا تتشكَّل من عُنصرٍ واحدٍ، وإنما هي مُحصّلة تفاعل عناصر عدَّة، وتتكَّون الهوية الثقافية من عناصر عدَّة مرتبطة ببعضها هي: العرق، الأرض (الجغرافيا)، اللغة، التاريخ، الديانة، التراث الثقافيّ وغيرها من المكوِّنات». من الواضح أن رفض السلامين للحجج اللغوية والشواهد الآثارية المؤكِّدة لها، لا يستقيم مع متطلبات البحث العلمي لمسألة محددة هي أصل الأنباط، فلكي ترد على حجج لغوية مدعمة بالأركيولوجيا ينبغي عدم الاكتفاء بالترجيحات التخمينية والتاريخية العامة أو بالاقتباسات من خارج السياق (أو ما يسمّى في البحث المنهجي الأدلة الخارجية)، بل يتوجب الإتيان بحجج لغوية وأدلة أركيولوجية/ آثارية مضادة من السياق ذاته تعاكسها وتكون أقوى منها، بعيداً من التركيز على عوامل تشكُّلِ الأمة كالعرق، الأرض، اللغة، التاريخ، الديانة، التراث الثقافيّ وغيرها من المكوِّنات، فهذا موضوع آخر لا علاقة له بالموضوع قيد البحث، فنحن لا نتحدث عن أمة قيد التشكُّل أو متشكلة وحاضرة اليوم بل عن واحد من الشعوب التي انقرضت أو اندمجت وذابت في غيرها من المكونات الجزيرية الأخرى ضمن أمة العرب الأوسع التي تشكلت بعد الفتح العربي الإسلامي ولا يزال تشكُّلُها مستمراً.

السبب الثاني، هو سبب آثاري، عبّر عنه بقوله «اعتمد بعض الباحثين كذلك على أحد النقوش النبطيّة لنفي عروبة الأنباط، ولتأكيد مزاعمهم بأن الأنباط آراميون، وقد عُثر على هذا النقش في منطقة سرمداء في المملكة العربيّة السعوديّة، ويذكر النقش اسم شخص نُعت بالآراميّ (آ ر م ي ا)، رغم أن الكلمة قد تُقرأ أيضاً على نحو (أ د م ي ا)، للتشابه الواضح والكبير بين حرفي الدال والراء في النبطيّة»، والباحث هنا يرفض دليلاً أركيولوجياً محدداً لا بتقديم دليل أركيولوجي مضاد أقوى منه بل بتأويله الشخصي للدليل الموجود تأويلاً قائماً على التخمين، وهو بالتالي تأويل قابل للنقاش.
صحيح إنَّ الأمم الشمالية التي غزت المنطقة كالإغريق والروم الشرقيين والغربيين ومعهم الرواية «التوراتية» والفرس قد أطلقوا اسم العرب على النبط بسبب القرب اللغوي والإثني والنمط المعيشي بين العرب وبينهم، أو لأنهم كانوا التجلي الأوضح للعرب قبل أن تخرج موجتهم المسلمة من الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي إلى العالم، ولكن هذا «الصحيح» لا يمكن قبوله علمياً وكيفما اتفق، وسأضرب لذلك مثالاً عملياً رغم أنه قد يبدو بعيداً عمّا نحن بصدده؛ فإذا كان من السهل عملياً والسائد شعبياً أن يطلق اسم «البتراء» على عاصمة النبط في المنشورات السياحية والإدارية السياسية، بتحريف كلمة «بترا» الإغريقية، والتي تعني «الصخرة»، وزيادة أل التعريف عليها والهمزة في نهايته ليكون الاسم الإغريقي بمذاق عربي هو «البتراء»، بدلاً من الاسم العربي القديم «سَلَع»، وتعني عند ابن منظور «الشق في الجبل/ لسان العرب»، وهو وصف دقيق ينطبق تمام الانطباق على واقع المدينة، أو اسمها الآرامي «راكمو/ راقمو» والتي تُعرَّب إلى الرقيم، فإن من الصعب وغير المقبول على الباحث ذي المنهج العلمي فعل الشيء نفسه مع أسماء شعوب النبط والأكديين والآشوريين الآراميين والكلدانيين والكنعانيين واعتبارهم عرباً كسائر العرب المعاصرين.
النبط عند الإغريق والرومان
إن البديل الذي يقدمه السلامين، والمؤكِّد لوجهة نظره، يأتي به من ميدان توثيقي وتأريخي آخر هو ميدان الوثائق الخارجية؛ الإغريقية والرومانية والتوراتية، وهي أدلة معروضة وموثقة بشكل متقن كما قلنا، ولكنها تطرح بدورها عدة أسئلة بخصوص موضوع هوية الأنباط، منها: ماذا بخصوص الأنباط قبل مرحلة الإغريق والرومان المتأخرة، والتي خلت من أي تأكيد لكون الأنباط عرباً؟ أمّا ورود وصف الأنباط بالعرب في سِفر الميكابيين، وهو سفر متأخر زمنياً عن غيره من أسفار، فأقل ما يقال عنه أنه ضعيف، فالتسميات والأنساب التوراتية لا يعول عليها، ثم أنَّ أغلب التسميات الإغريقية والرومانية المتأخرة ذات أصل توراتي، وما يقال عن الأنساب التوراتية يصح على ما نهل منها.
سؤال آخر يمكن طرحه هنا؛ لماذا لم تؤيد الأدلة الأركيولوجية الكثيرة التي تؤكد وجود اللغة والكتابة النبطيتين، ما قالته هذه الوثائق الإغريقية والرومانية والتوراتية، من أن النبط هم عرب؟ أعني، لماذا لم نعثر حتى الآن على أثر واحد نبطي يقول «نحن النبط عرب»! وللموضوعية، ينبغي أن أسجل هنا الاستدراك الآتي:
نقش «نمارة»:
كنت قد ناقشت في كتابي «الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام/ 130» الصادرة طبعته الثانية قبل أشهر قليلة عن دار «فضاءات» الأردنية، أحد الأدلة الآثارية المكتوبة بالخط النبطي وهو «نقش نمارة». وكتبت بخصوصه الآتي: «عثر على هذا النقش العائد للقرن الرابع الميلادي في «النمارة» هو قصر صغير في جبل الدروز، كان يعود لامرئ القيس بن عمرو ملك الحيرة جنوب العراق، ويتألف النقش المكتوب بالخط النبطي المتأخر والقريب من الخط العربي مع وجود بعض الحروف العربية الواضحة في خمسة أسطر. أمّا ترجمة السطرين الأولين بحسب أحد الباحثين فهي:

1- هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي نال التاج.
2- ملك الأسديين ونزار وملوكهم جميعاً وهزم مذحجاً بقوته وقاد.
والمتمعن في النقش يجد أنه عربي بَيِّنُ العربية فـي لغته، ويستطيع أن يلحظ صورة الحرف العربي في أكثر من تركيب.
ولكن الباحث العراقي سعد الدين أبو الحب شكك في هذه الترجمة، وأعاد تعقب الحروف النبطية للنقش، فوجد أن النقش لم يتحدث عن إنجازات امرؤ القيس، وأن الحجر لم يكن شاهد قبره، فالجملة الأولى لم تكن إلا جملة افتتاحية تقول «أقسمت بروح الملك امرؤ القيس» ثم يدخل الكاتب إلى الفقرة الأساسية والتي تحدثت عن تفاصيل انتصار أحد القادة العرب المتحالفين مع الروم، واسمه عكدي».
ورغم هذا التشكيك، يمكن الاستنتاج، أن لغة النقش هي مزيج من اللغتين العربية كما نعرفها اليوم والآرامية. فهل يمكن اعتبار نقش نمارة الذي يأتينا من ساحة بعيدة جغرافياً نسبياً عن ساحة النبط ودويلاتهم بين نهر الأردن والفرات الجنوبي، دليلاً على اعتراف النبط – بما أن النقش بالخط النبطي – بأنهم عرب، أم أن الخط النبطي شيء والانتماء الإثني شيء آخر، أم أنه دليل يدعم فرضيات القائلين بآرامية النبط، أم أنه – أخيراً – يؤكد أن النقش يتكلم عن عرب يستعملون الخط النبطي كغيرهم من الجماعات الجزيرية السامية الأخرى في المنطقة؟ يبدو أن هذه الأسئلة ستبقى مفتوحة حتى يستجد جديد في ميدان الأركيولوجيا.

توثيقات السلامين ليست بلا فائدة، بل هي تسلط ضوءاً مهما على القرب الإثني والثقافي/ اللغوي بين النبط والعرب، وربما على التمازج بين الهويتين لاحقاً ضمن الهوية العربية

رغم ما تقدم، فإن توثيقات السلامين ليست بلا فائدة، بل هي تسلط ضوءاً مهما على القرب الإثني والثقافي/ اللغوي بين النبط والعرب، وربما على التمازج بين الهويتين لاحقاً ضمن الهوية العربية الصاعدة والموحِّدة والموحَّدة لجميع الكيانات والجيوب العربية والجزيرية في الفضاء الصحراوي الفاصل بين العراق وبلاد الشام ومنها الآرامية، بحيث يغدو الفصل التام بين الأنباط والآراميين والعرب هشاً، ولكنه يبقى قائماً من دون شك، إنما ليست هناك أدلة كافية ومقنعة للقول إنَّ الأنباط عرب كسائر العرب، أو إنَّ الأنباط هم العرب، بمعنى أنهم الأصل العرقي الذي نشأ منه العرب اللاحقون في الحجاز بعد أن هاجروا جنوباً، وشرقاً نحو بلاد الرافدين كما يزعم البعض. إضافة إلى أننا إزاء أكثر من نوع من النبط باختلاف مواطنهم، فثمة «نبط السواد» في جنوب العراق القديم، ونبط شمال الحجاز في مدائن صالح ومدائن شعيب «مدين»، وهناك نبط شرق نهر الأردن، ونبط منطقة الجزيرة وامتدادها في بلاد الشام شمالاً.

إن القول بأن النبط هم «حلقة الوصل الرابطة بين العرب والآراميين»، كما يرى الباحث خزعل الماجدي /ص 35 – «الأنباط: التاريخ، المثيولوجيا، الفنون»، وإنْ كان يقارب ما نذهب إليه في العمق، ولكنه يبقى قليل المحمول بحثياً ويحتاج إلى الكثير من التدقيق والأسناد الهوياتي لأنه يفصل ضمناً بين المكونات الثلاثة العرب والأنباط والآراميين، فعبارة «حلقة الوصل الرابطة» ذات طبيعة وصفية مجازية ولا تعيننا كثيراً في البحث الأنثروبولوجي الماهوي، خصوصاً أن الكاتب لم يحسم فكرته ويعرضها بصيغة جازمة واحدة، فهو تارة يقول إنَّ الأنباط حلقة ربط بين الآراميين والعرب، وفي أخرى يقول «إن الأنباط كانوا آخر حلقة آرامية نوعية استطاعت أنْ توصل للعرب قبل الإسلام الكتابة والديانة والنظم السياسية والاجتماعية والحضارية…» ( ص10، م.س). فهل كان الأنباط حلقة آرامية أي إنهم آراميون، أم حلقة نبطية مستقلة ربطت بين العرب والآراميين، أم أنهم هؤلاء وأولئك؟
إن الفكرة التي أحاول مقاربتها ليست بعيدة عن هذه الاستنتاجات والفرضيات التي يطرحها السلامين والماجدي وغيرهما، ولكنها تختلف عنها جوهرياً، وتذهب إلى أن الأنباط شعب جزيري «أو قبيلة، أو مجموعة قبائل جزيرية» بحسب بعض الباحثين، شعب قريب من العرب، إلى درجة يمكن اعتبار لغتهم لهجةً من لهجات العرب، كما كانت لهجة قريش خاصة بهذه القبيلة، ثم صارت لاحقاً هي اللغة العربية الأساس «الأم» بعد أن صارت لغة القرآن. وربما كانت لغة النبط أقرب إلى اللغة العربية الحجازية من لغات اليمن المجاور والمحجوب بجباله الوعرة. وللنبط نمط حياتهم القريب من نمط حياة البدو العرب (الأعراب) ولكنهم اختلفوا عنهم بأنهم استوطنوا القرى وأصبحوا مزارعين وفلاحين، وهي المهنة التي ينفر منها العربي الصحراوي والمقاتل الحر العائش ضمن نمط الحياة الغزوي (الكر والفر). هنا تحديداً، قد نجد تفسير ظاهرة الازدراء العربي الإسلامي للنبط القرويين وحتى اعتبارهم من الشعوب الأعجمية لأنهم لا يتكلمون العربية القادمة من لهجة قريش من قبل غالبية البلدانيين (الجغرافيين) والنسّابة والمؤرخين العرب في طورهم الإسلامي. والمؤكَّد أن الفروق اللهجوية بين لهجات القبائل الكبرى العربية ظلت قائمة بعد الفتح العربي الإسلامي وحتى يومنا هذا.
إضافة إلى الزراعة، اشتغل قسم من الأنباط في التجارة وأقاموا دويلات متمايزة عن غيرها. ونجد في السردية التراثية العربية الإسلامية اللاحقة الوفير من الأدلة التي تؤيد هذا الرأي، الذي لا يفصل تماماً بين العرب والنبط من جهة سلالية رغم ظاهرة الازدراء والنفور السلالي منهم، ولكنه لا يعتبرهم كُلاً واحداً من حيث نمط العيش واللهجة. وربما يكون الباحث العراقي الراحل جواد علي صاحب الموسوعة الفريدة والضخمة «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» قد قارب هذه الفكرة بقوله «النبط قوم من جبلة العرب، وإن تبرأ العرب منهم وعيَّروا بهم، وأبعدوا أنفسهم عنهم» (ص5 مج 3) ومفردة «الجبلة»، بكسر الجيم تعني خِلْقَة، طبيعة وأُمة، وبفتحها تعني؛ الفطرة والطبيعة، وبضمها تعني الأُمَّة: الجماعة من الناس، وفي علم الأَحياء هي مَادَّةٌ شِبْهُ زُلاَلِيَّة، فهي إذاً تحيلنا على الأصل والعرق السلالي الواحد لشعبين شقيقين كما تُفهم في سياقها هذا، مثلما نفهم أن الأكديين والأموريين والآشوريين هم من ذات «الجبلة» الجزيرية «السامية» داخل حركة الاندماج والتمازج العميق بين مكونات الشرق الجزيري «السامي» آنذاك وطوال عشرات القرون بفعل الهجرات والغزوات والكوارث الطبيعية …إلخ.
نبطو وناباتايوس ونيباتي
أما عن «توريخ» كلمة النبط بلفظها هذا، فإنَّ أول ذِكْرٍ لهم يسجله السلامين هو مع حارثة الأوّل الذي يوصَف بأنه «أحد ملوك الأنباط ويُعتقد أنه كان أوّلهم، وانتهى حكمه عام 120 ق.م. وظلت مملكة النبط قائمة حتى سنة 70 بعد الميلاد». ولا يذكر السلامين إنْ كان هناك أثر مادي موثق يحمل اسم النبط كشعب أو قوم في هذا العهد أو لا. ولكننا نجد في موضع آخر من المقالة معلومة مثيرة وأكثر أهمية، تقول إنَّ أقدم ذكر للنبط وثَّقه الباحثون كان في «برديّة ميلان التي تعود للقرن الثالث قبل الميلاد، وتحتوي هذه الوثيقة على نصٍ أدبيٍّ فُقد معظمه كتبه الشاعر الإغريقيّ بوسيديبوس البيلاويّ، وترد في هذا النص كلمة الأنباط بلفظ ناباتايوس (Ναβαταῖος)»، ويمكن أن نعتبر هذه البردية ضمن الأدلة الخارجية الإغريقية وليس النبطية «الداخلية».
وقبل ذلك العهد بخمسة قرون، يفيدنا الباحث إحسان عباس في كتابه «بحوث في تاريخ بلاد الشام – تاريخ دولة الأنباط» (ص18 – الصادر في سنة 1987)، بأن هناك باحثين ربطوا بين لفظة النبط و«نبايوت» التي وردت في العهد القديم، ومنهم من قرنها بلفظة «النبياتيين» و«النبأيتي» التي وردت في مدونات الملك الآشوري تغلات فلاسر الثالث ثم في مدونات أسرحدون ومن بعد لدى آشوربانيبال، ولم يوثق عباس هذه المعلومة تأريخياً أو آثارياً للأسف. ثم، وبعد ربع قرن على صدور كتاب عباس، يكرر الباحث خزعل الماجدي في م.س /ص 17 المعلومة ذاتها بصيغة قريبة، من دون توثيقها أيضاً بمصدر محدد، حيث كتب يقول: «ورد لفظ شعب (نيباتي) أو (نباتي) في مدونات تجلات بلاصر الثالث ثم في مدونات أسرحدون وآشور بانيبال عندما كانت بعض القبائل الآرامية والكلدانية التي كانت تسمى بهذا الاسم تعيش على ضفاف الفرات الجنوبي وتثور على الهيمنة الآشورية». وإذا صحَّ أن هذه اللفظة أخذت عن مصادر آشورية فهذا يمنحها أهمية كبيرة وقيمة توثيقية إضافية تجعلها مقاربة لورودها في مصادر نبطية.

أفضل ما يمكن الوصول إليه هو ما عبّر عنه جواد علي في تعريفه للنبط بقوله هم قوم «من جِبلة العرب»، أي من أصل العرب العرقي، من دون أن يعني أنهم هم العرب

غير أن هذه المعلومة أثارت بعض الاعتراضات الجدية، كما يخبرنا إحسان عباس؛ فالمعترضون على الربط بين النبط ونبايوت أو نبأيتي قالوا إنَّ تحول الطاء إلى تاء لا يتم بسهولة في اللغات السامية، وإنَّ جذر الكلمة في المدونات الآشورية هو «ن ب ي» وليس «ن ب ت» والزيادة اللاحقة أي التاء هنا تصريفية، ويأتي ردُّ القائلين بالربط ليؤكد سهولة التحول من تاء إلى طاء بتركيز النطق على التاء، وينكرون أنْ يكون جذر الكلمة نبي. ويخبرنا عباس أنه يميل إلى إنكار الربط بين هذه الكلمات واعتبارها واحداً، ولكني أخالفه الرأي، وأرى أن هذا الربط ممكن جداً، طالما انعدم بديله المطابق والدال على مسمىً آخر غير النبط، وبدليل حيٍّ آخر هو أن عرب المغرب العربي لا يزالون في عصرنا يحولون التاء إلى طاء في العربية المنطوقة والمكتوبة غالباً – أنظر مثلاً روايات المغربي محمد شكري أو الجزائري واسيني الأعرج…إلخ.
بناء على ما تقدم، يمكننا القول، بشيء من الحذر، إن مفردات أو تصويتات «ناباتايوس» في مقتبس السلامين، و«نبايوت أو نبأيتي أو نيباتي» في مقتبس إحسان عباس قريبة تأثيلياً وتصويتياً من بعضها بعد حذف السين الإغريقية في نهاية الأسماء، ولكن اللفظ في الوثيقة الآشورية أقدم من الإغريقية بخمسة قرون تقريباً. وهذان الدليلان الآثاريان، بعد توثيقهما علمياً، يدحضان الفكرة التي مفادها أن لفظة «الأنباط» هي صفة أطلقها العرب في طورهم الإسلامي على فرع من فروع الآراميين تخصصوا بحفر الآبار واستنباط الماء، وليس اسم علم لهذا الشعب، ليترجح عندنا أنها اسم علم يدل عليهم لا على سواهم.
أمّا الحديث عن وجود قديم للأنباط، يعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد «العصر الحديدي في جنوب وادي الرافدين» (الماجدي م. س ص 17)، فهو كلام بلا توثيق آثاري أو إحالات عملية أيضاً حتى الآن، لذلك لا يُعْتَدُ به بحثياً.
ثمة إجابة أخرى مفيدة على السؤال السابق عن وجود دليل آثاري قديم بلغة الأنباط يذكر اسم النبط صراحة، حيث يخبرنا الباحث العراقي الراحل جواد علي في معرض كلامه عن أساليب «التورخة» لدى النبط في دولتهم المستقلة غرب الرافدين، فيقول «أما طرائق توريخ الحوادث لدى النبط فكانت متعددة منها التوريخ بأيام الملوك كأن يذكر اسم الشهر الذي دون فيه النص ثم يذكر بعده عام التدوين، فيقال مثلاً «في شهر كذا من سنة كذا في حكم الملك…» ثم يضرب جواد علي مثالاً وكأنه يقرأ أثراً مادياً هو «بيرح… شنت… ملك نبطو…» وقد استعملت هذه الطريقة في أيام استقلال النبط خاصة (ص8/ مج 3). والباحث، رغم قوله إنَّ النبط من جبلة العرب، ولكنه يضيف في موضع آخر ما يفيد أنهم من الآراميين لغةً، وهو يسميهم الإرميين، أو بني إرَم، بالإحالة إلى العبارة القرآنية «إرَم ذات العماد»، فيكتب «أمّا النصوص النبطية فبلغة إرم «بني إرم» وأما خطها فبالقلم الإرمي القديم، وقد عُرف عند المستشرقين بالقلم النبطي تميزاً له عن بقية الأقلام» (ص 7، م.س). وهذا يعني أن كلمة نبط كانت قد وردت في الأدلة الآثارية بلفظها هذا والذي ستكرره المصادر الاستشراقية والعربية الإسلامية اللاحقة.
وإذا ما شئنا التدقيق، فثمة فرق نوعي بين أثر مادي يذكر النبط باسمهم، وهو ما نبحث عنه لتأصيل الاسم ووجدناه في كلام جواد علي، وأي أثر آخر، وهو كثير وغالب، يخبرنا الباحثون أنه نبطي لأنه مكتوب باللغة النبطية التي هي الآرامية بعد أن طوَّرها النبط، إضافة إلى أن من الضروري التفريق بين النبط الحقيقيين وبقايا الأقوام الجزيرية الناطقة بالآرامية في العراق من نبط وكلدان وآشوريين وآراميين والتي أطلق العرب المسلمون عليها عامة اسم النبط مجازاً.
من الشرق إلى الغرب أم العكس؟
خلاصة القول هي أن الأدلة الموثقة من العصرين الهيلينستي والروماني، القائلة إن «الأنباط هم العرب/ أو هم عرب»، مع أخذ الفارق الكبير بين هاتين الصيغتين بالاعتبار، وكذلك الأدلة القادمة إلى القرن العاشر الميلادي ككتاب ابن وحشية الشهير عن «الفلاحة النبطية»، لا تقدم لنا فائدة كبيرة وملهِمة على صعيد تأصيل علاقة العرب بالأنباط قبل الميلاد لأنها متأخرة زمناً عن ظهور النبط اسماً ومسمىً، وأفضل ما يمكن الوصول إليه هو ما عبّر عنه جواد علي في تعريفه للنبط بقوله هم قوم «من جِبلة العرب»، أي من أصل العرب العرقي، من دون أن يعني أنهم هم العرب وإلا لقال ذلك صراحة، بل هم شعب شقيق للعرب ومن ذات الرِّس السلالي فامتزج بهم ومعهم فصاروا واحداً في القرون التالية خلال صعود عرب الحجاز في موجتهم المحمدية بدءاً من القرن السابع الميلادي.
أمّا عن أصول النبط، ومن أين جاؤوا جغرافياً، فما قدمته الأبحاث حتى الآن شديد الالتباس والتنوع، ولعل الفكرة التي قال بها بعض الباحثين ومنهم الماجدي والتي تذهب إلى أن الأنباط كانوا ضمن موجة من الشعوب / القبائل / الأقوام الجزيرية السامية التي هاجرت من العراق القديم، ومنها الصفويين/الصفائيين، والأيدوميين والقيداريين والثموديين واللحيانيين واتجهت إلى غربه الصحراوي وصولاً إلى سهول ما يعرف اليوم ببلاد الشام، هي فكرة تتناقض مع القاعدة التي تحكم منطق وبواعث الهجرات الكبرى في المجتمعات القديمة؛ فالسائد والمنطقي هو أن تهاجر الشعوب من مناطق الجفاف أو التي كانت خضراء وضربها الجفاف إلى المناطق الخضراء المزدهرة. وبما أن بلاد الرافدين من البلدان «دائمة الخضرة» بفعل وجود الرافدين، فلا يمكن بالتالي أن نتصور قيام قبائل أو شعوب رافدانية بترك موطنها المزدهر مهاجرةً نحو صحارى الجنوب والغرب، بل أن إقليم الرافدين سيكون في حالة كهذه مستقبلاً لا مرسلاً للهجرات. والهجرة الأمورية وبعدها الآرامية من الجنوب أو الغرب إلى الشرق الرافداني أو من صحارى شبه الجزيرة العربية نحوه ونحو بلاد الشام خير مثالين تطبيقيين على هذا المنطق.
وعلى هذا، رفض باحثون آخرون هذه النظرية القائلة بالهجرة من الشمال الرافداني إلى الجنوب أو من الشرق نحو الغرب فقال بعضهم – إبراهيم السايح في مقدمة كتابه «مدائن صالح من مملكة الأنباط إلى قبيلة الفقراء» – بعكسها، أي من الجنوب الصحراوي إلى الشمال الرافداني والشامي بفعل ما سماه «إرغام السكان على الخروج كلما تضخم عددهم وتجاوزت احتياجاتهم الطاقة الإنتاجية المحدودة لهذه البيئة» (ص 4). وفضل باحثون آخرون -الباحثان الآثاريان الفلسطينيان د. عيسى الصريع و د. هاني نور الدين مثلاً في نفيهما لقدوم هجرة كنعانية من الجزيرة العربية إلى وسط فلسطين – القول بأن هذه الشعوب وجدت أصلاً في هذه المناطق التي لم تكن صحراوية جرداء، ولكنها تحولت إلى الجدب بعد التغيير المناخي العالمي الذي ضرب مناطق عديدة منها المشرق الجزيري فانخفض عديد بعضها لأنه فضل البقاء في موطنه كالكنعانيين في فلسطين والأنباط في شرقها واجترح حلولاً صعبة للبقاء ومنها استنباط الماء من الصخر فنجح نجاحاً باهراً وأقام ممالك دامت لعدة قرون. ومعلوم أن نظريات الهجرة، سواء كان من الجنوب إلى الشمال أو من الشرق إلى الغرب، تعرضت في السنوات الأخيرة إلى انتقادات قوية تقوم على آخر ما كشفت عنه علوم المناخ الحديثة من حيثيات جديدة ودقيقة.

في الجزء الثاني من هذه المقالة سنناقش العلاقة بين السريان والآراميين ضمن مقاربة أنثروبولوجية مشابهة للأصول والعلاقات والتجليات.

سيرياهوم نيوز3 – الأخبار

 

x

‎قد يُعجبك أيضاً

مركز دراسات أميركي: روسيا تشهد التوسع العسكري الأكبر منذ الحقبة السوفياتية

مركز دراسات أميركي يقول إنّ روسيا تشهد التوسع الأكثر طموحاً في التصنيع العسكري منذ الحقبة السوفياتية، ويشير إلى أنه يمكن رؤية نشاط تطوير كبير في ...