آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » هل نشهد لحظة السقوط المدوي لليبرالية؟

هل نشهد لحظة السقوط المدوي لليبرالية؟

قبل أسبوع، كان المفكر الروسي ألكسندر دوغين يقف أمام النيران التي تلتهم جسد ابنته بفعل عملية تفجير مدبرة، وانتشرت صورة الأب المكلوم يضع يديه على رأسه ألماً على فقد ابنته.

مهما كانت غاية النيران المصورة؛ الانتقام من خبير السلطة في موسكو لنصائحه الاستراتيجية السليمة، أو انتقاماً من فعالية الصحافية النشطة داريا، فإن هدفها العميق هو “تذويب الأفكار البديلة”.

نشأة الليبرالية

مثّلت النظرية الليبرالية إنجازاً كبيراً للقرن الثامن عشر، في اعتبارها البديل الموضوعي عن نموذج الإقطاع، وما يسمى “الاقتصاد المنزلي”، إذ عانى الأقنان نموذج الظلم الأبدي من خلال العمل العبودي لمصلحة فرد واحد، هو الإقطاعي. كانت فكرة “السوق المفتوحة” التي جاءت بها النظرية الليبرالية خلاصاً أكيداً بالنسبة إلى الناس، على الأقل لمنحهم الخيار في المكان الذي سيتم استعبادهم فيه.

تأسست فكرة آدم سميث على مبدأ “اليد الخفية”، وشعار “لا تراهن على نزعة الخير عند اللحّام أو بائع الخضار، بل راهِن على حرصه على مصلحته الخاصة”. المبدأ والشعار يمثلان حالة رفض لكل أشكال التنظيم المركزي لاقتصاد الدول.

وهكذا تأسست الليبرالية على قاعدة الانحياز إلى الفرد وليس المجموع، فالفرد يتحرك بموجب مصلحته الخاصة، والسوق تنظم نفسها بنفسها بمبدأ “اليد الخفية”، وهكذا تتحرك الدورة الاقتصادية من دون إدارة.

لم يُكتب لتلك الأفكار البرّاقة أن تلامس الواقع في شيء، وعاشت الليبرالية حالة الانفصام بين أدبياتها ونصوصها المكتوبة من جهة، وما يحدث على أرض الواقع من جهة أخرى، فمع موجات الكساد التي لحقت باقتصادات الغرب، والأزمات الدورية سواء عام 1929م أو عام 2008م، كان تدخل الدولة هو الحل الوحيد لإعادة تدوير العجلة.

في كل الأحوال، نجحت الليبرالية في بناء أذرعها في مجالات الحياة المختلفة؛ فتمكّنت من تكريس نموذج الاقتراع والمجالس النيابية، التي تفرز بشكل تلقائي الحصة الأكبر من هذه المجالس لمصلحة رؤوس الأموال، وتمكنت من تكريس دعاية الحرية وحقوق الإنسان، التي علّقت عناوينها شاهداً على مقابر الأطفال في العراق، أو السجون المنتشرة في العالم، وتمكنت كذلك من تكريس دعاية الإعلام الحر التي تخلّت عنها عندما انتفضت الشوارع انتصاراً لجورج فلويد.

في المحصّلة، تمكّنت الليبرالية من حكم العالم باقتصاد تقول عنه حراً، ولكنه مقيّد بقوانين الاحتكارات والكارتيلات الكبرى، وإعلام تقول عنه حراً، فقيّدته مصالح المجمعات الصناعية، وبرلمانات تقول عنها نتيجة التصويت النزيه، ولكن الناس صوّتت تحت سطوة إغراء المال والمصالح.

باختصار؛ كانت شعارات الحرية والإعلام الحر والبرلمانات النزيهة والاقتصاد المفتوح جميعاً في خدمة الاحتكارات العالمية والشركات الكبرى، التي لم تقف متفرجة داخل الحدود، وإنما انطلقت لتبني إمبراطورية ضخمة تستخدم الدعايات نفسها لتكريس هيمنتها على العالم.

هذه هي المحصّلة النهائية للنموذج الليبرالي الذي بدأ نموذجاً مبشراً للأقنان، لينتهي بإمبراطورية تبحث عن صناعة الأقنان في كل رقعة في الكوكب.

فشل الليبرالية الذي نعيشه اليوم استوجب تلقائياً استنهاض نماذج خاصة اجترحت أفكارها الخاصة.

روسيا غادرت الشيوعية ولم تتبنَ الليبرالية

يمكن القول إن روسيا من المجتمعات التي تعجز أن تعيش من دون أيديولوجيا واضحة وناظمة للمجتمع، ففي العهد القيصري كانت تجارب إيفان الرهيب، وبطرس الأكبر، وكاترينا، قائمة على مبدأ توسيع الامتداد الإمبراطوري لروسيا.

وفي عهد الشيوعية كانت فكرة الاشتراكية المعمّمة عالمياً والأممية هي التي سكنت شعور الدولة السوفياتية، وبعد التفكك دخلت روسيا في حالة من “الفراغ الأيديولوجي”، فلا هي قادرة على العودة إلى النموذج الاشتراكي المنهار، ولا هي قادرة على التكيف مع حيثيات النموذج الغربي بنسخة روسية.

هنا، جاء دور ألكسندر دوغين لملء هذا الفراغ، ليقدم أطروحة “النظرية السياسية الرابعة”، باعتبار أن الفاشية هزمت في الحرب العالمية الثانية بتحالف الشيوعية والليبرالية، وبسبب السلوك الانتحاري لقائديها (هتلر وموسوليني).

وجد دوغين أن النظرية الوحيدة التي تبقت في الساحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هي الليبرالية، التي أفسدت مبادئها المكتوبة بسلوكها، وحوّلت الإنسان إلى سلعة للمصلحة السوق.

يرى دوغين في نظريته السياسية الرابعة، أن الليبرالية عجزت عن تحويل قيمها إلى قيم عالمية، ومن هنا اعتقد أن تصفية النظرية الليبرالية هي بمثابة تصفية للاستعمار، باعتبار أن هذه النظرية فرضت نفسها بقوة السلاح على المجتمعات في العالم، وليس عبر الإقناع، فاعتبار الفرد مثلاً هو الأساس لم يعمل في المجتمعات التي تعتمد الهوية الجماعية (الصين، روسيا، الهند، الدول الإسلامية).

انطلق دوغين للحديث عن أصالة الحضارة الروسية، ومواجهة أطروحة هنتنجتون (الغرب في مواجهة البقية – The west against the rest)، واعتبر أن البديل عن مواجهة الإمبراطورية الأطلنطية منفردة لبقية العالم، هو ولادة كيانات سيادية في كل العالم (تحديداً الأوراسية في الصين والهند وإيران، مع وجود فرصة لدول أميركا اللاتينية وباقي الدول الإسلامية)، وتمكّن هذه الكيانات من بناء جسور تعاون وتفاهم فيما بينها، ليعكس بذلك مقولة هنتنجتون، من صراع الحضارات إلى شكل من أشكال “حوار الحضارات وتعاونها”.

هذا في الجانب النظري، أما في الجانب السياسي الملموس، فإن المسار مع فلاديمير بوتين كان مواجهاً للنظرية الليبرالية على عدة جبهات ومنها:

1. ظهرت الأوليغارشية الروسية في إبان الانهيار، إلا أنها لم تتحول إلى الطبقة الحاكمة في روسيا، وتمكن فلاديمير بوتين من تقليم أظافرها في أكثر من مناسبة، سواء مع تحديه لخودروكوفوسكي، أو بيريزوفسكي.

2.استعادت الدولة مؤسساتها الاقتصادية الحيوية، وتحديداً في قطاع الطاقة، ولم تعلق في أيدي رجال الأعمال، كما هي الحال في الولايات المتحدة، وبذلك، مع مغادرة روسيا مرحلة الاشتراكية، عاشت مرحلة “الرأسمالية الحذرة”، أو “الرأسمالية المحافظة”.

3.أعطى الدستور الروسي صلاحيات واسعة للرئيس، الضامن الأول لقرارات الهيئات الأخرى، وبذلك عاشت روسيا ما يشبه الديمقراطية الغربية، ولكن مع تحديد ضوابط سيادية فيها.

4. أغلقت روسيا “المنظمات غير الحكومية” التي تعمل لمصلحة الدول الغربية، ولم تقبل بنشاطات “المراقبة” لحقوق الإنسان وغيرها من المعايير التي تستهدف تفكيك الدول.

5. الإعلام الروسي لم يعمل بالنصيحة الخبيثة للغرب، أن يكون منفلتاً من عقاله، ويسبب بذلك التفكك المجتمعي، وهنا يجب الإشارة إلى أن الغرب لا يعمل بالنصيحة التي يقدمها أصلاً، ويحافظ على ضبط وسائل الإعلام في الداخل وتمييعها خارج الحدود.

ما زالت الليبرالية عاجزة عن إغراء الصين

في الجانب الاقتصادي، لم تعمل الصين بنصيحة “اليد الخفية”، ونظمت السوق من خلال سلطة مركزية؛ لم تمنع القطاع الخاص من العمل، ولكنها لجمت محاولات تحكمه في السلطة السياسية، ولذلك لا يكمن القلق في الصين من تغوّل رجال الأعمال على السلطة السياسية، وإنما من انتشار الفساد في السلطة السياسية الحاكمة نفسها، وهذا ما تحاول الصين بناء المؤسسات اللازمة لمراقبته ولجمه.

في كل الأحوال، تمكنت الصين من بناء نموذجها الاقتصادي الخاص، الذي ينطوي على علاقة خاصة بين القطاع الخاص والدولة، تميل الصين إلى تسميته بـ “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”.

كانت “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” عبارة عن عملية تاريخية متواصلة، فبعد انهيار الإمبراطورية ورحيل المانشو، وبعد انتهاء الحرب الوطنية عام 1949م، وانتصار الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ على الكومنتانج بقيادة شيانج كاي شيك، عملت الصين على بناء وحدات إنتاج في المناطق، وأطلقت خطط التطوير الخمسية، وكانت خططها مركبة بين المركزية والاعتماد على اجتهادات المجالس الشعبية، واعتمدت مبدأ الملكية العامة للأراضي، وتسليم الإنتاج للدولة.

كانت تلك المرحلة تلائم ظرف الصين المنهكة الخارجة من إمبراطورية ضعيفة وحرب داخلية طاحنة. كانت المركزية هي الحل الأسلم للنهوض.

لكنّ القواعد تغيرت مع رحيل ماو تسي تونغ، إلا أن هذا التغيير لا يعني هدم المنجزات السابقة؛ إذ تم إطلاق برنامج التحديثات الأربعة (الزراعة والصناعة والبحث العلمي والدفاع)، وكانت التحديثات تزيد من حوافز تشجيع الأفراد (أصبح من الممكن للفلاحين الاستفادة الفردية من فائض الإنتاج الذي يجب تسليمه للدولة، وهكذا الأمر مع الصناعيين).

وبذلك، بنيت علاقة خاصة، لا تشبه النظريات الغربية بين الدولة المنتجة والقطاعات المنتجة، بما فيها التكنولوجية لاحقاً (هواوي وZTE). أوصلت هذه القواعد الصين إلى مكان مختلف عما وصلت إليه الولايات المتحدة، فنفوذ إيلون ماسك أو جيف بيزوس أعلى بكثير مما يمكن لـ “جاك ما”، صاحب شركة علي بابا، فعله في الصين مع السلطة السياسية القوية.

سياسياً، تنص المادة الثانية من الدستور الصيني، أن المؤتمر الشعبي الوطني والمجالس الشعبية المحلية هي الأجهزة التي يمارس من خلالها الصينيون سلطة الدولة، على أن يعقد المؤتمر الشعبي كل خمس سنوات، ويتم انتخابه بالآليات الديمقراطية.

وبذلك، ابتكرت الصين نموذجها الخاص متجنبة نسخ النموذج الليبرالي الغربي. الحزب الشيوعي هو الحزب الحاكم في الصين، واللجنة المركزية والمكتب السياسي يلعبان دور البرلمانات في الغرب، وبذلك حددت الصين خيارها في “الديمقراطية المحكومة بثوابت”.

وبما أن النظرية الليبرالية أنتجت سلوكاً إمبراطورياً في نهاية المطاف، لم تعلق الصين في تاريخها بهذا التفصيل، ولم تحمل طموحات توسعية خارج حدودها، وينطبق ذلك على العصر الإمبراطوري (يقول عالم المستقبليات يوهان غالتونج: من يركض اليوم إلى الحذاء الفارغ للإمبراطورية الأميركية؟ حتماً، لن تكون الصين، إن ذلك بحاجة إلى غباء لا تتمتع به الصين، ربما يتمتع به الاتحاد الأوروبي).

الصين لم يكن لديها حتى فضول التعرف على تجارب الحضارات الأخرى، وهي منشغلة تماماً في التمسك بموروثها وحضارتها ومنتجاتها الخاصة، وربما تعزز في هذا السياق نظرية ألكسندر دوغين “الحضارات المستقلة التي تصل بينها الجسور”.

ليست روسيا والصين وحدهما اللتين أثبتتا عجز المنظومة الليبرالية عن العمل في أي مجتمع تختاره، فالنموذج الإيراني في إبّان انتصار الثورة الإسلامية، صمّم نموذجه الخاص القائم على مبدأ الانتخاب والاقتراع، وبنسب عالية في التصويت، ولكنه أيضاً لم يلتزم بشكل الهيئات التي يقدمها النموذج الغربي، فمجلس صيانة الدستور، وتشخيص مصلحة النظام، مؤسستان ابتكرتهما التجربة السياسية الإيرانية، ولا يوجد ربما ما يشبههما في الأدبيات الليبرالية.

اقتصادياً، لم يكن لإيران أساساً فرصة تجريب النظرية، في ظل ولادة الثورة تحت سقف العقوبات الاقتصادية، فالليبرالية الاقتصادية لا تعمل في بلد واحد، كما أنها لا تعمل بعيداً عن المظلة الاقتصادية للولايات المتحدة والدولار.

ولذلك، يمكن القول إن الاقتصاد الإيراني هو الآخر بنى نموذجه الخاص في العلاقة الخاصة بين المنشآت الاقتصادية ومؤسسات الدولة الثورية.

النظرية الليبرالية تعيش مرحلة هبوط في ظل صعود تجارب بديلة ونظريات جديدة، قد تأخذ من النظرية الليبرالية ما ينفع، ولكنها حتماً ليست قائمة عليها.

عندما ضرب وباء كورونا العالم، كانت الولايات المتحدة تدفع ثمن الفرد المزاجي والنزق الذي أنشأته، في حين كان العالم يراقب المركزية الصينية التي عملت برشاقة (يقول الأميركي باستبداد) في مواجهة الوباء.

 

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هل يعلن ترامب الحرب على الصين؟

نور ملحم في وقت يستعد فيه الجيش الأمريكي لحرب محتملة ضد الصين، ويجري تدريبات متعددة لمواجهة ما سُمي بـ«حرب القوى العظمى»، بدأت بكين في بناء ...