| فراس عزيز ديب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في البيت الأبيض، زيارة رسمَت الكثير من التساؤلات عن الأسباب الحقيقية التي جعلت حدوث هذا اللقاء مطلباً فرنسياً يتعلق بملفات فرنسية وأوروبية أكثر منه أميركياً.
على المستوى الشخصي والذي لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال فصلهُ عن السياسي والعام، وصلَ ماكرون البيت الأبيض وهو محاط بمجموعةِ تقاريرٍ تتحدث عن شبهاتِ فسادٍ تطالهُ شخصياً، إذ وبعد الحديث مطلعَ العام الحالي عن تلقيه رشا عندما كان وزيراً للاقتصاد لتسهيلِ عمل تطبيق «أوبر» الشهير للتاكسي الخاص في فرنسا دون الأخذ بعين الاعتبار المنافسة غير النزيهة مع رُخص النقل العام «التاكسي» الممنوحة للفرنسيين والتي يصل ثمن الواحد منها في بعض المدن كموناكو إلى نصفِ مليون يورو علماً أن «أوبر» لا تدفع ضرائبها في فرنسا، تحدثت تقارير عن قيامِ المدعي العام المالي الفرنسي بفتحِ تحقيقٍ يتعلق بشبهات فساد خلال الحملات الانتخابية الرئاسية بفرنسا خلال انتخابات العامين 2017 و2022 طالت ماكرون مباشرةً، من بينها شبهة في العلاقة التي حكمَت المصرفي السابق بشركةِ ماكينزي الاستشارية الأميركية، هذه العلاقة لم تتعلق فقط بتمويلٍ غير شرعي للحملة الانتخابية لكن تعدتها بحصول هذه الشركة على عقود خيالية مع القطاع العام الفرنسي لتقديم استشاراتٍ في مجالات الصحة والتعليم بطريقةٍ أشبه بضياعِ الأموال على الخزينة العامة لكون فرنسا ذات نفسها تمتلك العديد من المؤسسات المشابهة، علماً أن هذهِ الشركة لا تدفع ضرائبها في فرنسا، ربما أن هذه الإجراءات القضائية لا يمكن لها أن تذهب بعيداً في الوقت الحالي لكون الدستور الفرنسي يحمي الرئيس من أي ملاحقة قضائية أو حتى استدعاء للشهادة خلالَ فترة وجوده في الحكم، لكنه يمكن أن يُحاكم بعدَ ترك السلطة عن تجاوزات أو جرائم ارتكبها قبل وصولهِ للسلطة كما حدث مع الرئيس الأسبق جاك شيراك الذي حُوكمَ بتهم فساد عن الفترة التي كان فيها رئيساً لبلديةِ باريس بعد تركهِ السلطة في العام 2005، هذهِ التقارير تُثبت أن فساد السياسيين واحد مهما اختلفت البقعة الجغرافية، مع فارقٍ بسيط بأن الفساد خارج شرقنا البائس يبدو في الطبقات العليا التي لا تمس احتياجات المواطن مباشرةً وهو ما يؤخر ظهوره إلى العلن.
أوروبياً، بدَت الزيارة أو على الأقل كما حاولَ بعض الإعلام الفرنسي تقديمها، أشبهَ بوساطةٍ يقوم بها ماكرون بين الولايات المتحدة وروسيا لإيجاد مخرجٍ للحرب في أوكرانيا، تحديداً أن الأوروبيين وحدَهم من اكتوى بجمرِ هذه الحرب وهم من يدفعونَ ثمنها مع انتقال الاحتجاجات والإضرابات في بعض المدن الأوروبية إلى مستوياتٍ غير اعتيادية، لكن هذهِ التقارير عملياً تجاهلت حقيقة مهمة: هل يصلُح إيمانويل ماكرون للقيام بدور الوسيط؟!
ربما أن دور الوسيط ينطلِق أساساً من مبدَأ عدم تداخلهِ مباشرةً في الخلاف وتمتعهِ بعلاقة متوازنة مع الطرفين والأهم تمتعه بالمكانةِ التي تُتيح له لعبَ هكذا دور، وفي قراءةٍ لواقعِ الحال الذي وصلت إليه فرنسا خصوصاً والدول الأوروبية عموماً يمكننا ببساطةٍ استنتاج أن ماكرون لم يكن هناك للقيام بهذا الدور فكيف ذلك؟
«لايُنظر إلينا كقوة عظمى»، هكذا عنونَت «لو نوفل أوبزيرفاتور» في تعاطيها مع الزيارة بل إن المجلة الأهم في المجال السياسي الناطقة بالفرنسية رأت بأن الوضعَ الحالي لفرنسا يضعها بين الدول المتوسطة عند الإدارة الأميركية وهو ما يعني بأن زيارة ماكرون لا تختلف عن زيارةِ أي حليفٍ شرق أوسطي للبيت الأبيض، وفي سياقٍ آخر وبعيداً عن الدور والمكانة، فإن فرنسا عملياً هي من قادَ الجبهة الأوروبية لدعم خيارات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالذهاب في المواجهة مع الروس حتى النهاية، وبقيت في وجه المدفع بطريقةٍ توحي وكأنها استفادت من التردد الألماني الرسمي حتى الآن، وهي من كان وراء اعتماد العقوبات الأوروبية المتجددة ضد الروس وصولاً إلى مشروعِ القانون الذي يحدد سعر النفط الروسي بستين دولاراً فقط والذي تم اعتماده بعد الاتفاق الذي أبرمتهُ دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وأستراليا، هذه المعطيات لا توحي أبداً بأن ماكرون قادر على لعب دور الوسيط بل يمكننا القول وحسب ما تشير إليه العديد من المصادر الغربية، بأن الحوار الأميركي الروسي حول الطريقة التي سيتم فيها إنهاء الحرب يسير بهدوءٍ بعيداً عن الضوضاء وبعيداً عن علم أقرب حلفاء واشنطن بتفاصيلهِ، لكن ما هي انعكاسات حدوث هكذا اتفاق فعلياً على الحالة الأوروبية عموماً والفرنسية خصوصاً؟
ربما اختصر وزير التجارة الألماني كريستيان ليندنر كلَّ هذهِ التناقضات عندما حذَّرَ من اندلاعِ حربٍ تجارية مع واشنطن بسببِ القوانين الأميركية المتعلقة بالاحتباس الحراري والصناعة التي ستمنَع رأس المال الأميركي تدريجياً من الاستثمار في الأسواق الأوروبية بسبب فرضها عقوباتٍ شديدة على كل شركة لا تأخذ بعين الاعتبار المحاذير الأميركية، وإقرار الكونغرس لمساعدات وتخفيضات ضريبية تصل قيمتها إلى 420 مليار دولار على السيارات الكهربائية والبطاريات ومشروعات الطاقة المتجددة المصنوعة في الولايات المتحدة، ما قد يعني انعدام المنافسة مع مثيلاتها الأوروبية، قوانين هي أشبهَ بالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على من يتعاطى مع «الدول المارقة» بالتوصيف الأميركي كسورية وروسيا ولكون الخصم هذه المرة هو «الحليف الأوروبي»، جاءت العقوبات بتوصيفاتٍ منمَّقة لكن الجوهر واحد: الحفاظ على رأس المال الأميركي من التسرب، ربما لأن الأميركي وحدهُ من يدرك في أي اتجاهٍ كارثي يسير العالم اقتصادياً ومالياً، ومع ذلك لا تزال التبعية الأوروبية للقرار الأميركي مثيرة للاستغراب، ترى هل لأن الولايات المتحدة قادرة في أي وقتٍ على إخراج ملفات الفساد التي تورط فيها الأوروبيون ووضعها على الطاولة كما فعلوا مع ماكرون بطريقةٍ أشبه بطلقاتٍ تحذيرية؟
ماكرون كذلك الأمر لم يستطع الوقوف صامتاً بل نكاد نجزم بأن سبب الزيارة أولاً وأخيراً هو تهاوي الاقتصاديات الأوروبية تباعاً، ربما هذا ما دفعه لوصفِ الإجراءات الأميركية بالعدائية، ولكن هل هي فعلياً لحظة استيقاظ أم صحوةَ الموت، بل إن الاتحاد الأوروبي باتَ يفكر فعلياً بالذهاب نحو منظمة التجارة العالمية لمقاضاةِ الإجراءات الأميركية، هنا يمكننا فعلياً فهمَ العقلية الأوروبية أين وصلت من الانحدار والتبعية، ثم منذ متى تكترث الولايات المتحدة للمبادئ العامة الناظمة للعلاقات الدولية بما فيها المنظمات الدولية وهي أول وأكثر من تمردَ عليها واعتبرها لا تصلح عندما يتعلق الأمر بالمصالح الأميركية؟ هل يكتوي الأوروبيون أنفسهم بذات النيران التي صفقوا لها عندما استخدمتها الولايات المتحدة ضد غيرهم بما فيها التمرد على الاتفاقيات الدولية كما حدث بالاتفاق النووي مع إيران؟ لماذا لم يرفض الأوروبيون يومها هذا التصرف الأميركي بل اعتبروه في سياقِ الحفاظ على السلم العالمي؟
ربما لكي نفهم عملياً إلى أي حال وصلت الدول الأوروبية علينا أن ندقق بما قالته رئيسة الوزراء الفلنلندية سانا مارين لأحد الصحفيين خلال زيارتها الأخيرة لأستراليا، مارين اعتبرت أن الاتحاد الأوروبي ما كان ليُظهر الدعم لأوكرانيا لولا المساعدة الأميركية، الحسناء الفنلندية أكملت جلدَ الذات عندما قالت إن الاتحاد الأوروبي اليوم ليس قوة ضاربة، ولولا حماية الولايات المتحدة لتعرضت الدول للكثير من المشكلات، ربما أوجزت مارين ما يحاول باقي الزعماء الأوروبين إخفاءه، إذن بماذا تختلف هذه الدول التي يتغنى البعض بديمقراطيتها عن باقي الدول التابعة من دون نظام ديمقراطي؟ ماذا لو كان مُطلق هذهِ التصريحات هو زيد أو عمرو؟ ماذا ستكون النتيجة؟ ببساطة لا فارق إلا أن الأوروبيين بارعون حتى في هندسة الانهيار!
سيرياهوم نيوز3 – الوطن