- محمد نور الدين
- الثلاثاء 15 أيلول 2020
زيارة رئيسة اليونان، الأحد الماضي، لجزيرة ميئيس قابلتها في الوقت نفسه زيارة لوزير الدفاع التركي لمنطقة قاش المقابلة. وقد فُسّرت زيارة الرئيسة اليونانية على أنها بمناسبة مرور 47 عاماً على تسليم إيطاليا الجزيرة التي كانت تحتلها إلى اليونان، لكنها كانت زيارة تحدّ لتركيا وتأكيد على ثبات أثينا على مواقفها الرافضة لـ»انتهاك» تركيا المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان، بل لميئيس. استعراض العضلات اليوناني يشي بأن الأزمة لن تنتهي قريباً، وأن الفرصة المتاحة اليوم هي لالتقاط الأنفاس وإعادة تقييم المرحلة السابقة في انتظار جولة جديدة من التوتر. مع ذلك، فإن تركيا تنظر إلى أن رأس الحربة في كل هذا التوتر هو فرنسا، وأن اليونان ليست سوى واجهة تتلطّى خلفها فرنسا.
يقول الجنرال التركي المتقاعد علي إر، إن التحرك الفرنسي في شرقيّ المتوسط من خلال تحريض اليونان هدفه إظهار فرنسا بأنها قوّة عالمية ولها كلمة عليا في شرقيّ المتوسط. وهي تسعى إلى التحرك بمعزل عن «حلف شماليّ الأطلسي» تمهيداً للبحث في إنشاء قوة عسكرية أوروبية بقيادة فرنسا، بحيث تكون ألمانيا هي الدينامو الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، فيما تتصدى فرنسا لتكون القوة العسكرية الأساسية له، علماً بأن 23 دولة من الاتحاد وافقت على إنشاء جيش أوروبي. كذلك، يرى علي إر أن فرنسا تستعدّ لأيّ احتمالات تتعلق بتوسيع دورها في الأزمة السورية بعدما دخلت بقوة على خط الأزمة في لبنان. وعلى الرغم من أن تركيا أهم بكثير لفرنسا من اليونان اقتصادياً وتجارياً، فإن ما عجّل في التدخل الفرنسي في شرقيّ المتوسط هو نجاح تركيا في إيجاد موطئ قدم مهم لها في ليبيا.
أمّا الموقف الأميركي من الأزمة، فعلى الرغم من ضبابيته إلى حد ما، فإن مسؤولين أتراكاً يرون أنه قلبياً مع اليونان، لكنه عقلياً مع تركيا. فالولايات المتحدة رفعت الحظر عن تصدير السلاح إلى قبرص اليونانية بعد 37 عاماً من فرضه. ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو زار قبرص اليونانية وأعرب عن قلقه من التحركات التركية في المنطقة ولم يقم بزيارة موازية لأنقرة. لكن واشنطن تتعاطى بدم بارد مع التوتر باعتبار أنها تريد الحفاظ على «الأطلسي» أولويّتها المطلقة على أي روابط أخرى مع اليونان أو قبرص.
لا يمكن اعتبار الانسحاب التركي تراجعاً أو هزيمة فأنقرة تقف في موضع قوي
انسحاب السفينة التركية «أوروتش رئيس» جاء بعد سلسلة ضغوط من المجلس الأوروبي وتهديد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات قاسية على تركيا في اجتماعه يومَي 24 و25 أيلول/ سبتمبر الجاري إذا لم تسحب تركيا سفنها من المنطقة اليونانية. كذلك جاء بعد تخفيض شركة «موديز» لتصنيف تركيا الاقتصادي من b1 إلى b2 وهو ما اعتبر تشديداً للضغوط على تركيا، وفي ظل تراجع قيمة الليرة التركية لتصل إلى 7.50 تقريباً مقابل الدولار.
لا يمكن اعتبار الانسحاب التركي تراجعاً أو هزيمة، فأنقرة تقف في موضع قوي، سواء كان عسكرياً أو في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية. ذلك أن اندلاع أي مواجهة عسكرية محكوم عليها بهزيمة اليونانيين، إلا في حال تدخل عسكري واسع أوروبي وهو مستبعد كلياً. كذلك، فإن تدخلاً عسكرياً لـ»الأطلسي» يعني تلقائياً انتحار الحلف، وهذا يفضي أيضاً إلى ربح روسي وصيني صافٍ من دون إطلاق رصاصة واحدة، ويدمّر كل استراتيجية دونالد ترامب في إضعاف الصين وروسيا. كذلك، فإن أي دولة أوروبية تتدخّل في الحرب إلى جانب اليونان سوف تمنع، وفق اتفاقية مونترو عام 1936، من المرور عبر مضيقَي البوسفور والدردنيل، فضلاً عن قدرة تركيا على تحريك ملف اللاجئين السوريين وفتح البوابات أمامهم في اتجاه أوروبا. من هنا، الموقف الألماني المتمايز بعض الشيء عن الموقف الفرنسي تجاه الأزمة اليونانية ــــ التركية، والذي يدرك معنى تدفق اللاجئين ومعنى وجود جالية تركية كبيرة في ألمانيا.
أوراق القوة التركية هذه لا تفضي تلقائياً إلى أن تتمسك بالحل العسكري. الدبلوماسي التركي السابق والسياسي فاروق لوغ أوغلو يرى أن سياسات تركيا الخاطئة أوصلتها إلى وضع أن تكون بمواجهة الجميع. فهي لم توقّع قانون البحار لعام 1982 فبدا موقفها مع اليونان كما لو أنه مخالفة للقانون الدولي. كذلك جاء انفجار التوتر بعد قضية «آيا صوفيا» والإجماع الغربي والأوروبي على إدانة خطوة تحويلها إلى جامع.
ويرى الخبير في الشؤون الأمنية نعيم بابراوغلو أن تركيا أظهرت حضورها وقوّتها في شرقيّ المتوسط وحقّقت خطوات متقدمة لكن هذا لا يكفي، إذ يجب ترجمة التفوق التركي الميداني على طاولة المفاوضات، وهو ما يتطلّب جهداً استثنائياً للدبلوماسية التركية لشرح مواقفها وعدم ظهورها أمام الرأي العام الدولي على أنها دولة عاصية وخارجة على الشرعية الدولية.
لا يبدو في الأفق حل نهائي للأزمة بين اليونان وتركيا، وما بدا أنه تخفيف للتوتر ليس سوى استراحة محاربين في انتظار القمة الأوروبية بعد عشرة أيام، وتبلور أكثر للصراعات الإقليمية والدولية والمدى الذي يمكن لفرنسا أن تذهب إليه في مغامراتها الخارجية الجديدة من لبنان وليبيا إلى اليونان وقبرص، بقيادة «نابوليون الجديد» إيمانويل ماكرون كما يطلقون عليه في تركيا.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)