| حسن محلي
أي ضرر في هذه السدود، وعسى ألا يحدث، لن يلحق الأذى بتركيا فقط، بل بسوريا والعراق أيضاً بشكل مباشر وغير مباشر، وهو ما يتطلب مزيداً من الحوار والتنسيق والتعاون العاجل والفوري بين الدول الثلاث.
مع استمرار عمليات الإنقاذ ورفع الأنقاض في الولايات الـ 10 التي ضربها الزلزالان وهما بقوة 7.7 و7.6 بمقياس ريختر (يعادلان 50 قنبلة نووية)، تستمر السلطات الحكومية في اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي ستساهم في مساعدة المتضررين من الزلزالين، اللذين أوديا بحياة 24 ألفاً (يتوقع أن يصل العدد إلى 40 ألفاً) وإصابة نحو 100 ألف آخرين. فبعد أن تم تعطيل المدارس والجامعات، ونقل عشرات الآلاف من سكان المنطقة إلى الولايات المجاورة، ما زالت أحزاب المعارضة تشن هجوماً عنيفاً ضد إردوغان، وتتهمه بالتأخر في إرسال فرق الإنقاذ والمساعدات، وإصدار الأوامر للجيش للنزول إلى الشوارع في مناطق الزلزال، وهو ما كان متّبعاً دائماً في مثل هذه الأحداث.
تحمّل المعارضة أيضاً الرئيس إردوغان مسؤولية الدمار الذي لحق بالمنطقة، ويقدّره البعض بـ 100 مليار دولار، بعد أن اتهمته بإصدار عدد من قوانين العفو على السكن العشوائي والمخالف للمعايير الخاصة بالمباني في مناطق الزلازل، إذ إن 80% من مساحة تركيا تقع في مثل هذه المناطق. وهو ما يفسر الزلازل التي وقعت منذ الزلزال الكبير بالقرب من إسطنبول في آب/ أغسطس 1999، وأدّى إلى مقتل نحو20 ألفاً من سكان المنطقة، ووصل عددها إلى 34 زلزالاً فيما زاد عددها على 135 زلزالاً منذ عام 1900.
لم تصغِ حكومات إردوغان، ومن قبلها الحكومات الأخرى، إلى توصيات خبراء الجيولوجيا وتقاريرهم ودراساتهم، والذين توقّعوا الزلزال الأخير، وهم الآن يتوقّعون زلزالاً أكبر في إسطنبول، خلال فترة أقصاها 10 سنوات. كما لم تصغِ الحكومات إلى توصيات الخبراء الذين اعترضوا على مواقع العديد من السدود، التي زاد عددها في تركيا على 400 سد بين كبير وصغير ومتوسط، في عموم البلاد، وأهمّها سد أتاتورك على نهر الفرات وسعة بحيرته تزيد على 55 مليار متر مكعب من المياه. ويقع هذا السد بالقرب من مدينة أورفة التي كانت ضمن الولايات العشر التي دمّرها الزلزال، ولو بدرجات متفاوتة.
كذلك بنت تركيا على نهر الفرات، قبل سد الفرات وبعده، 5 سدود أخرى، هي: كابان (بالقرب من مدينة العزيز التي تعرضت لزلزال بقوة 6.5 بمقياس ريختر في تموز/يوليو 2020)، وكاراكايا (بالقرب من مدينة ديار بكر) وبيراجيك وقرقميش ويبعدان عن الحدود مع سوريا نحو 3 كيلو مترات فقط، وسدان آخران داخل حدود ولاية أورفة التي تضررت من الزلزالين الأخيرين.
هذه هي حال السدود التي بنيت على نهر دجلة وآخرها سد ايلوسو، وقيل إنه تضرر من الزلزال الأخير. الخبراء الذين لفتوا الانتباه إلى أن عدد السدود في المنطقة التي تعرضت للزلزالين الأخيرين يصل إلى 15 سداً، دعوا السلطات الحكومية إلى إجراء الدراسات العاجلة بشأن هذه السدود بعد التوقعات بحدوث هزات أرضية جديدة، خلال الفترة القريبة القادمة، ما قد يعرض هذه السدود لخطر جدي، خصوصاً أن اختيار أماكنها في البداية لم يكن سليماً، حتى إن كانت مواصفات البناء ممتازة.
وهنا، يعود بنا التاريخ إلى بدايات الخمسينيات عندما قررت حكومة عدنان مندرس، الموالية لواشنطن، (1950-1960)، والتي ضمّت تركيا إلى الحلف الأطلسي وحلف بغداد، وسمحت للأميركيين ببناء عشرات القواعد على أراضيها، وتحالفت مع الكيان الصهيوني. فقد بيّنت الوثائق السرية التي عثر عليها في السفارة الأميركية في طهران عام 1979 أن واشنطن على علم مسبق بقرار أنقرة ببناء السدود على أنهارها. وذكر كل من رجائي كوتان وفهيم آداك في أحاديثهما لاحقاً، وكانا وزيرين في حكومة الراحل نجم الدين اربكان، أنهما قاما بجولة تفقدية في حوض نهري الفرات ودجلة، في بداية الخمسينيات بتعليمات من رئيس الوزراء عدنان مندرس، وأنهما عادا واقترحا على مندرس بناء عدد من السدود الصغيرة على النهرين المذكورين، وحدّدا مواقع هذه السدود.
وقال كوتان واداك إن مدير عام مؤسسة المياه الوطنية، وكان آنذاك سليمان دميرال، الذي أصبح رئيساً للحكومة وأخيراً رئيساً للجمهورية، رفض الفكرة، وشدد على ضرورة بناء سدود كبيرة، وهو ما اقترحته المخابرات الأميركية على دميرال “كي تستخدم أنقرة لاحقاً المياه كسلاح ضد سوريا والعراق إذا اضطرت إلى ذلك “، وهذا ما ورد في وثائق السفارة الأميركية في طهران.
وهكذا، بدأت مسيرة أنقرة مع السدود على الفرات ودجلة، وهو ما كان وما زال موضع خلاف جدي بين تركيا وكل من سوريا والعراق، على الرغم من الانفراج النسبي بعد الاتفاقية التي وقع عليها الرئيس الراحل تورغوت اوزال مع الرئيس الراحل حافظ الأسد عام 1987. وتعهدت أنقرة بموجب هذه الاتفاقية أن تترك 500 متر مكعب في الثانية من مياه الفرات لكل من سوريا والعراق، على أن تزداد هذه الكمية إلى 600 متر مكعب بعد الفترة الانتقالية، وهي 5 سنوات. وهو ما صادف وصول دميرال إلى السلطة من جديد بعد انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 1991. فذهب إلى مدينة أورفة في تموز/ يوليو 1992، وافتتح سد الفرات وقال ” العرب يبيعون نفطهم بالدولار، ونحن من حقنا أن نبيع مياهنا بالدولار للعرب “.
وكان ذلك سبباً في عودة الفتور والتوتر بين أنقرة ودمشق من جديد، بعد أن رفضت تركيا التوقيع على الاتفاقية الدولية الخاصة باستخدام الأنهار المشتركة لعام 1997، إذ لا ترى أنقرة في هذه الأنهار أنهاراً مشتركة، وتقول عنها إنها ” أنهار عابرة للحدود، ومن حقها أن تتصرف بمياهها كما تشاء، مع التعهد بعدم إلحاق الضرر بحقوق الدول المجاورة”.
وفي جميع الحالات، وأيّاً كان مستقبل العلاقات التركية مع سوريا والعراق، ومياه الفرات ودجلة من أهم عناصرها الصعبة والحساسة، فقد بات واضحاً أن أنقرة ستجد نفسها، خلال المرحلة القادمة، تحت الضغوط النفسية، أولاً: لاحتمالات المصالحة مع دمشق، وثانياً للسيناريوهات السيئة التي يضعها البعض حول مصير السدود المبنية على الفرات ودجلة، إذ يتوقع الجميع مزيداً من الزلازل المدمرة في المنطقة.
وأي ضرر في هذه السدود، وعسى ألا يحدث، لن يلحق الأذى بتركيا فقط، بل بسوريا والعراق أيضاً بشكل مباشر وغير مباشر، وهو ما يتطلب مزيداً من الحوار والتنسيق والتعاون العاجل والفوري بين الدول الثلاث؛ لمواجهة كل الاحتمالات حتى تبقى هذه المياه “برداً وسلاماً” على شعوب ما بين النهرين، وهو ما كانت عليه خلال جميع مراحل التاريخ.
يتحدث بعض من النصوص الدينية عن مرور النبي إبراهيم من مدينة حران (بالقرب من مدينة أورفة الحالية وتبعد عن سد أتاتورك 30 كم)، وهو في طريقه إلى فلسطين، قبل أو بعد قصة الآية الكريمة التي جاء فيها ” يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم “. فتحوّل الحطب إلى أسماك ما زالت تعيش في بحيرة وسط مدينة أورفة، ولونها أسود، وذلك وفق الرواية التركية التي تقول عن أورفة إنها “مدينة الأنبياء”.
فعسى أن تبقى هكذا، ليروي الجميع غليلهم بمياه سيدنا إبراهيم، الذي كان السبب الذي وضع من أجله الرئيس الراحل تورغوت أوزال المشروع الشهير وسمّاه “أنبوب السلام” لنقل مياه الأنهار التركية إلى الدول العربية و”إسرائيل”، وهو ما رفضته سوريا. ففكر أوزال في نقلها بواسطة سفن ضخمة، رفضها هذه المرة حاخامات “تل أبيب” بذريعة أن هذه المياه ليست طاهرة، وفق العقيدة اليهودية التي رحّبت بـ “الاتفاقية الإبراهيمية ” مع الأنظمة العربية، ومن دون أن تفكر في ما إذا كانت هذه الأنظمة طاهرة أم لا!
سيرياهوم نيوز3 – الميادين