| أسعد أبو خليل
لم يحظ حليم بركات في حياته، ولم يحظَ في مماته، بما يستحقّ من التقدير والتكريم. ولم يكن حليم بركات من الذين يروّجون لأنفسهم في الإعلام أو في الثقافة أو المنابر. هذا رجلٌ لم يحسن أداء لعبة الظهور والادعاء والتبجّح. أذكرُ أول مرّة التقيتُ فيها به في واشنطن بعد وصولي لإكمال دراستي العليا في جورج تاون. كان في خجله وتردّده من الذين يجعلونك تشكّك أن الشخص الذي التقيتَ به بالفعل حليم بركات. حليم بركات كان، غير ما يظهر في كتاباته، وحليم بركات كان غير ما يظهر في سلوكه الاجتماعي. تظنّ أنه متردّد وخجول إلى أن تراه على منبر يفنّد بحدّة وسخرية لاذعة المزاعم الصهيونيّة. ينطقُ بقوّة وحزم، لكن من دون فصاحة وطلاقة شفهيّة (بالإنكليزيّة أو حتى بالعربيّة، اللغة التي أبدعَ فيها كتابةً وأدباً). هذا الذي يظهر كأنه ضعيف في الشكل كان له إرادة وشكيمة فولاذيّة. أصيبَ حليم بركات بالآلزهايمر في سنواته الأخيرة، ولعلّ ذلك حماه من متابعة أخبار النكبات والكوارث التي لحقت بالعالم العربي والعالم أجمع.
كان عندما يزور كاليفورنيا يطلبُ من ابن شقيقته، الزميل بشارة دوماني، الاتصال بي للقائه. وكنا نلتقي في مقهى ميلانو في بركلي (نفس المقهى الذي كنتُ ألتقي فيه مع عامر محسن للتخطيط لضرب مؤامرات الأعداء). وكنتُ أسرُّ جداً للقائه لأنني كنت أعلمُ أنني ألتقي بناشط وأكاديمي وأديب مجتمعين في شخص واحد يتمتع بالدماثة والخلق الحسن وروح النكتة والسخرية. أذكرُ في آخر لقاء لي معه أنني سألتُه: بناءً على ما مرَّ عليكَ في حياتك، هل نحن في أسوأ مرحلة من تاريخنا العربي المعاصر؟ أجابني من دون تردّد: بلا شك، هذه أسوأ مرحلة على الإطلاق، وكان ذلك قبل مرحلة التحالف الإماراتي مع إسرائيل وقبل تحويل مشروع السلام العربي إلى مشروع التطبيع مقابل لا شيء. وسألتُه أيضاً بحشرية الطالب السابق: كيف كنتم تتابعون الأخبار في العالم العربي في الستينيات عندما كنتَ تتابعُ دراستك الجامعيّة في جامعة ميشيغان، ولم يكن هناك إنترنت ولا وسائل الاتصال بالعالم العربي؟ أجابني أن ذلك كان من أصعب ما مرَّ به الطلاب العرب في حينه وأنهم كانوا يتعاونون ويتضامنون من أجل توزيع الصحف والمشاركة في قراءتها عبر الولايات المنتشرة. قال إنهم كانوا يأتون بجريدة من لبنان، من تاريخ يعود لأشهر مضت، وكانوا يقرأونها بلهفة المشتاق، ثم يرسلونها من مدينة إلى أخرى، وهكذا دواليك إلى أن تصل لهم باهتة يكاد الحبر فيها يكون سريّاً. قال إن تسقّط الأخبار كان من أصعب تحدّيات الدراسة في أميركا في حينه.
حليم بركات كان قومياً سورياً، ومثل صديقه هشام شرابي، حافظَ على ولائه للعقيدة ولرسالة أنطون سعادة طوال حياته. لا يمكن فهم حليم بركات من دون فهم تأثير الحزب السوري القومي الاجتماعي عليه. حملَ أسمى صفات التنظيم والعقيدة، من ناحية المبدئيّة والصلابة والحزم والإصرار. كما أن قضيّة فلسطين بقيت على مركزيّتها عنده طوال حياته، ولم يثق بإمكانيّة إصلاح النظام اللبناني يوماً. حليم بركات درسَ في الجامعة الأميركية في بيروت، كما أنه مارس تعليم اللغة العربيّة في مدرسة الآي سي، وكانت المفارقة أن الرجل، الذي أتى من خلفيّة فقيرة في سوريا، مارس التعليم في مدرسة النخبوية اللبنانية، والعربيّة في حينه. وكان محبوباً من تلاميذه بشهادة من كتبَ عنه مثل معن بشور. بعد إكماله شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة ميشيغان، عاد حليم بركات إلى بيروت ودرّسَ في الجامعة الأميركية. وهزّت هزيمة ١٩٦٧ حليم بركات من أساسه وتركت في شخصيته وفي كتاباته الوقعَ الكبير. وكان أوّل من درسَ (أكاديميّاً من خلال دراسة ميدانيّة) اللاجئين الفلسطينيين بعد الهزيمة، ونشرت «مؤسّسة الدراسات الفلسطينية» له كتاب «نهر بلا جسور» عن اللاجئين. وكتب في عام ١٩٦٠ كتاب «ستة أيام» وتوقّع فيه ما جرى في الهزيمة في ما بعد.
تجربته في الجامعة الأميركية في بيروت كانت مرّة، ونبعت مرارتها من مبدئيّته والتزامه بالقضية الفلسطينية والتغيير في سوريا والعالم العربي. حوربَ حليم بركات بشدّة من قبل المحاور الرجعية في الجامعة بشخص شارل مالك وزميله في دائرة العلوم الاجتماعية، سمير خلف. عملا الاثنان، كما أخبرني أكثر من مرّة، على التنكيل به والعمل على طرده من الجامعة. وكان يقصّ علينا تفاصيل تلك الفترة من دون غصّة أو ضغينة أو حقد. حليم مترفّع عن الصغائر. كنتُ أقول له إن الظلم الذي لحق بك يزعجني أكثر مما يزعجه، وكان يلوّح بيده بما معناه أن ذلك حدثَ في مرحلة ماضية. كان حليم بركات المثال المضاد للأستاذ المرغوب فيه في الجامعة الأميركية في بيروت. بركات عكس السنيورة الأكاديمي. كان فقيراً، فيما كان الكثير من الأساتذة يأتون من خلفيات نخبويّة. كان مشاكساً، فيما كانت الطاعة واجبة. كان معارضاً في مكان كان الولاء فيه سائداً. كان ثوريّاً، فيما كانت الاستكانة من معايير الترقّي والتثبيت في الجامعة، وكان ثوريّاً في مؤسّسة الثورات المضادة. كان مؤيّداً للحركة الطلابيّة، فيما كان الأساتذة في أكثرهم من طاقم الإدارة المتسلّطة. سمير خلف وشارل المالك، المسؤولان عن غربة حليم بركات عن بلاده، فعلاً ما كانت الإدارة (والإدارة الأميركيّة) تريد تحقيقه في الجامعة: تنفيذ تطهير ماكرثي ضد المشاغبين مثل بركات. مثل هشام شرابي، كان حليم يريد العودة إلى الوطن ويحلمُ بها، وحدّثني عن المنزل الذي بناه في الكفرون. عاش الغربة، ولعلّه كان أوّل من كتبَ عن مفهوم غربة الفرد في العالم العربي. ومثلي ومثل غيري، بقي بركات عربيّاً يقطن أميركا وليس أميركياً من أصل عربي يقطن أميركا.
في كتاباته عن النظام السياسي اللبناني، كان حليم بركات من غير مدرسة إيلي سالم وهو الذي كتب مؤلفه الشهير «تحديث من دون ثورة»، وقد ألهجَ فيه في مديح النظام السياسي اللبناني. حليم بركات كتبَ في عام ١٩٧٣ مقالة شهيرة في مجلة «ميدل إيست جورنال» بعنوان: «الاندماج السياسي والاجتماعي في لبنان». وتحدّث حليم عن الطائفيّة في لبنان وعن النفاق في طمس ظواهر الطائفية، مستشهداً بأغنية صباح «مرحبتين مرحبتيْن، وينن هالدبّيكي وين. وين محمود وين معروف، وين الياس ووين حسين». وبعد ترحيله عن الجامعة الأميركيّة، رحل بركات إلى أميركا ودرّسَ في جامعة تكساس، وأنهى كتابه عن الأهواء السياسيّة الطلابية في لبنان. وكانت من أوائل الدراسات الأكاديمية عن التوجّهات السياسية للطلاب. هشام شرابي كان الذي أنجدَ حليم بركات في غربته الصعبة وساهم في تأمين مركز تدريسي له في «مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون» حيث علّم حليم حتى تقاعده (وكان المركز إلى أن تقاعد شرابي ومايكل هدسون وحنا بطاطو، واحةً بين مراكز الدراسات المعنيّة بدراسة الشرق الأوسط من حيث تضاده مع التوجّهات الاستشراقيّة والصهيونيّة). كان المركز، عندما التحقَ به حليم، في عزّ ازدهاره وشكّل هدفاً أساسياً للوبي الإسرائيلي في واشنطن. ونشطَ حليم في اتحاد خرّيجي الجامعات العرب الأميركيين وحاضرَ في مؤتمراته السنويّة. وكانت صداقات حليم بركات سياسيّة ومستقاة غالباً من جمع القوميين السوريين والقوميّين العرب في العاصمة واشنطن. لكن الصداقة التي جمعت بين حليم بركات وهشام شرابي كانت هي الأبرز. وكان أستاذي مايكل هدسون ثالثهم.
تعرّض لظلم في حياته في أكثر من محطة. حوربَ في الجامعة الأميركية في بيروت بسبب جذريّته ومبدئيّته وثوريّته، وتركَ لبنان متحسّراً. كذلك تعرّض للظلم في الأكاديمية الأميركية قبل أن يستقرّ في «مركز الدراسات العربية المعاصرة» في جامعة جورج تاون
الذي يلتقي بحليم بركات يلاحظ بعد شخصيّته عن الكائن الذي سكن أدبه العربي. كان غير طليق في الحديث ويتحدّث بصعوبة ليس فقط في الإنكليزية ولكن في العربية، وليس لأنه لا يحسن اللغة بل لأن الكلمات كانت تخرج من فمه حرفاً حرفاً من دون انسياب. أما عندما تقرأ حليم بركات تكتشف حقيقة شخصيته وثوريّته وطلاقته وفصاحته وبلاغته وسلاسته. عندما أعطاني كتابه «طائر الحوم»، بعدما كنتُ قد عرفته لسنوات، قلتُ له إنني أكاد لا أصدّق أن هذا هو الشخص الواقف أمامي. وسألتُه: لكن لماذا توقفتَ في الكتاب؟ قلتُ له: أطلبُ منك المزيد وأتشوّق إلى المزيد، وكان ما يضحك ويقهقه عندما أقولُ له ذلك.
المشروع الذي شغل حليم بركات في الثمانينيّات كان في تقديم دراسة مضادة للاستشراق عن المجتمع العربي، ونشرَ له في ما بعد «دار جامعة كاليفورنيا» الدراسة تلك (وتُرجمت إلى اللغة العربية ونُشرت من قبل مركز دراسات الوحدة العربيّة). وإذا كان أسلوبُ الكتاب بالإنكليزية جافاً، فإن المضمون يعوّضُ عن ذلك لما يمتلكه من إحاطة معرفيّة شبه كليّة بشؤون دراسة المجتمع العربي، ودحض لكل الكتابات والفرضيّات الاستشراقيّة عن المجتمع العربي. كانت معظم الدراسات عن المجتمع العربي، قبل كتاب حليم بركات المهمّ، تتّسم بالعداء والعنصريّة والاستشراق حتى من قبل العرب مثل كتاب سونيا حميدي عن المزاج والشخصيّة العربيّة. أنا أعتبر هذا الكتاب (الذي يجب أن يكون مقرّراً في الجامعات) ردّاً مباشراً على كتاب المستشرق الإسرائيلي، رافائيل باتاي، «العقل العربي». وقد أحسن بركات في تفنيد وردّ كل مقولات المستشرق الإسرائيلي. وكان باتاي، على نسق المستشرقين الغربيين، يأخذ مثلاً عربياً، مثل «أنا وأخي على ابن عمّي وأنا وابن عمّي على الغريب»، ويجعلُه مُرشداً له ولغيره في فهم العرب ودراسة السلوك السياسي للعرب. حليم بركات عقّبَ على مقولات الاستشراق الانتقائية بالاستشهاد بكم من الأمثال العربية التي تستطيع أن تقول الشيء وعكسه. هل تقول «أنا وأخي على ابن عمّي وأنا وابن عمّي على الغربي» أو تقول إن «الأقارب عقارب»؟ بركات درس المجتمع والثقافة العربيّة بتعقيداتها وبتراثها وإرثها الثري، فيما اكتفى المستشرقون بدراسة القشور والسطحيّات عن العالم العربي.
حليم بركات ليس معروفاً كما يجب أن يكون. هو مثال المثقف المبدئي الذي لم يتغيّر عبر السنوات. حليم بركات اليساري القومي السوري بقي محافظاً على مبادئه ولم يتغير منذ أن عرفته قبل ٤٠ عاماً. خسر حليم، مثلي، عدداً من الأصدقاء والرفاق الذين تساقطوا أو تحوّلوا عبر العقود، وكان ذلك يثير فيه السخرية أكثر مما يثيرُ فيه الحنق. لم يرتبط حليم بركات بنظام ولم يروِّج لنظام. وهو مثّلَ نسقاً جميلاً من التزاوج والتواؤم بين القوميّة السورية والقوميّة العربية، لم يتناقضا في عقل حليم بركات.
تذكر المراثي عن حليم بركات أنه كان صديقاً وفيّاً وزوجاً مثالياً وخالاً صالحاً وأستاذاً نزيهاً ومناضلاً مثابراً. المراثي لا تذكر معاناة هذا العربي في الغربة الأميركية منذ السبعينيّات. كان حليم بركات يحب النكتة ويقهقه ويتلوّى عندما يضحك واقفاً، وكان هذا أحلى ما أتذكّره عنه في شخصيّته. كان يضحكُ كالطفل ويزمجرُ غاضباً، لو أن صهيونياً واجهه في محاضرة أو مؤتمر.