| سعد الله مزرعاني
نُسب إلى مبعوث الرئيس الفرنسي، وزير خارجيته السابق السيد إيف لودريان، أنه اقترح اللجوء إلى حوار شامل حول الأزمة اللبنانية، بين الأطراف الأساسيين فيها، أملاً في تجاوز الاستعصاء المستمر منذ 31/10/2022 حتى اليوم. السيد لودريان ديبلوماسي فرنسي عريق لكنه ليس ذا خبرة في الأزمة اللبنانية. الدليل على ذلك اقتراحه الانخراط في حوار شامل لا يقتصر على الأزمة الرئاسية، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ربما: إلى أزمة النظام السياسي القائم نفسه.
بدءاً ينبغي أن يكون في ذهن وذاكرة أي مسؤول فرنسي أن سلطات بلاده المنتدبة على لبنان وسواه في المنطقة، بعد الحرب العالمية الأولى، هي التي أرست أسس النظام السياسي القائم والذي تتوزّع المواقع السياسية والإدارية فيه وفق كوتا طائفية ومذهبية: نصاً أو عرفاً. وهي ما زالت ترعاه، بهذا الشكل أو ذاك، حتى وقتنا الحالي.
ثانياً، فات المبعوث الرئاسي الفرنسي، أن تعميق النقاش وتوسيعه وصولاً إلى البحث في أسس النظام، هو أمر مرفوض، مبدئياً وكلياً، من قبل كل من تعاقب على السلطة في لبنان، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة. ذلك يعني أنه لن يجد من يستقبله في زيارته المقبلة إذا اختار عنوان البحث في مسؤولية هذا النظام عما أصاب لبنان وشعبه من الأزمات والتوترات السياسية والأمنية المتواصلة، منذ الاستقلال، ومدى الاستعداد للتفاهم على ما ينبغي اتخاذه من خطوات إصلاحية لتدارك الانهيار المخيف الراهن ولوقف الكارثة المفتوحة، بالفئوية الداخلية والاستغلال الخارجي، على أسوأ الاحتمالات.
مقاربات جديدة ينبغي أن يمليها هذا الواقع، وتلك المتغيرات في مجرى صراع ضار في المنطقة والعالم من أجل فرض استمرار توازنات قديمة أو من أجل تغييرها
في المتداول، أن ممثلي «حزب الله» نصحوا المبعوث الفرنسي عدم توسيع مجالات الحوار، والاقتصار فقط على ما يتصل، مباشرة، بالاستعصاء الرئاسي الحالي، لجهة «المواصفات» والمهمات المباشرة. معروف أنه ليس في أولويات «حزب الله» طرح مسألة تطبيق المواد 95 و22 و24 بشأن «إلغاء» الطائفية السياسية. لكن الأمر مختلف بالنسبة لفريق الـ 32 الذي انطلق من منزل ومن ترشيح النائب ميشال معوض والذي تتقدّمه «القوات» و«الكتائب» وأشرف ريفي. هذا الفريق يرفض مبدأ الحوار من أساسه بذريعة أنه يهمش مؤسسة مجلس النواب. هو يعتقد أنه قد يتمكن، مع حلفاء قائمين أو محتملين، من التوصل إلى توفير أكثرية 65 نائباً (حتى من دون تأمين نصاب الثلثين)، لإسقاط المرشح النائب السابق سليمان فرنجية والإتيان برئيس مدعوم، ضمناً أو علناً، أيضاً، من قبل واشنطن التي، وإن تراجع نشاطها نسبياً، إلا أنها تبقى الموجّه والمحدد لسياسات الفريق المناوئ لانتخاب فرنجية بوصفه «مرشح حزب الله».
ينتسب هذا الموقف، في الواقع، إلى تقليد عام يمكن أن يمارسه الجميع، في تغليب الرغبة على الواقع، واعتماد التفسير الانتقائي لـ«الطائف» وللدستور: وفق الفئويات والتوجيه الخارجي، لا وفق المصلحة الوطنية والنصوص الملزمة والواضحة. معروف أن اللجوء إلى تعطيل النصاب، أو التهديد به، قد مارسه الجميع من دون استثناء. ولذلك تسقط حجة من يطالب بفهم خاص للنص أمام السابقات والعرف وبعض الالتباس الذي بدّدته تلك السابقات والممارسات في ظروف مماثلة: لجهة بدء الجلسة وانتهائها وضرورة توفر النصاب نفسه لبدء جلسة جديدة.
ينطبق هذا الأمر على «التغييريين» الذين تسلّق معظمهم الانتفاضة الشعبية قبل أربع سنوات، بدافع من طموح شخصي أو بتوجيه خارجي. هؤلاء، في الغالب، اكتفوا ببعض المواقف الاحتجاجية الهامشية والاستعراضية: لتأكيد تمايزهم المحدود أو معارضتهم الجزئية والمؤقتة ( أيّد معظمهم المرشح أزعور) خلافاً لشعار: «كلن يعني كلن» الشهير.
الواقع أن القوى الحاكمة التي توحَّدت دائماً في الدفاع عن النظام، وفي منع تطويره، وفي خرق الدستور، لم تكن موحدة إلا نادراً بشأن توزيع المغانم السياسية والمادية. الشأن الخارجي كان، أيضاً، حاضراً دائماً في مقدمة أسباب الخلاف. الاستقواء بالخارج هو الوجه الآخر للالتحاق به وللخضوع لإملاءاته. في مراحل احتدام الصراع الإقليمي والدولي وقعت صراعات وحروب دامية هدَّدت الوحدة الداخلية إلى الحد الأقصى. التدخل الخارجي، الأميركي خصوصاً، لاستغلال الأزمة، بعد رعاية وتغذية طويلة لها كي تتفاقم وتتفجّر، رافقه، في المراحل الأخيرة، جهد مثابر ووقح وشامل لتوظيفها في خدمة المشروع الأميركي في المنطقة. وهو مشروع هيمنة، من جهة، ودعم دائم للعدو الصهيوني، من جهة ثانية.