زاهي وهبي
السؤال المرّ كيف يعزف العرب عن القراءة فيما نتاجهم الإبداعي المكتوب حافل بكل ما يغري بالقراءة؟ ولغتهم واحدةٌ من أجمل لغات الدنيا لكنها مُهمَلة لديهم ومرذولة كأنها تهمة أو جريرة؟
أنتمي إلى جيل شكّل الكتاب نافذته الوحيدة على العالم. جيل يباهي بالقراءة، ويتنافس أفراده على عدد الكتب التي قرأها كلٌّ منهم. كنا نوفّر من “خرجيّتنا” (مصروفنا اليومي) قروشاً معدودات حتى نشتري كتباً ومجلات نهوى قراءتها. حتى اليوم، أدين بالجميل لكل الكتّاب العرب والأجانب الذين قرأتُ أعمالهم بهدف التسلية وملء أوقات الفراغ، لأكتشف في ما بعد أن تلك القراءات شكّلت ذخيرة لا تُقدَّر بثمن، أسعفتني على فهم الحياة ومواجهة ظروفها وصروفها المختلفة.
القراءة لم تعد مرغوبة كما في السابق، رغم أن مصادر المعرفة تعددت وتنوعت وما ظلَّت وقفاً على الكتاب. نسب القراءة في العالم كله تتراجع، وفي العالم العربي تتراجع أكثر، الأسباب كثيرة ومتشعبة. لكن رغم تعدد مصادر المعلومات التي توفرها التكنولوجيا الحديثة بكبسة زر، ما تزال المعلومات المقروءة في كتاب الأكثر رسوخاً في الذهن والذاكرة. لأن المعلومات التي نأخذها بشكل عابر من المواقع الالكترونية المختلفة تمر مرور الكرام وننساها بُعيد استخدامها.
السؤال المرّ كيف يعزف العرب عن القراءة فيما نتاجهم الإبداعي المكتوب حافل بكل ما يغري بالقراءة؟ ولغتهم واحدةٌ من أجمل لغات الدنيا لكنها مُهمَلة لديهم ومرذولة كأنها تهمة أو جريرة؟ بَعضُ المجوَّفين فكرياً وروحياً لا يتوانى عن التباهي بعدم القراءة بالعربية (!)، فهل صارت اللغة عالة على أهلها أم صاروا عالة عليها؟ طبعاً العلّة ليست فيها حتى لو اعتلَّت بعض أحرفها، فما صرفُها ونحوها إلا بعض مكامن سحرها وجمالها.
نؤكد على ضرورة القراءة بلغتنا أولاً، ونحثُّ في الوقت ذاته على القراءة بكلِّ لغة متاحة، لأن كل لسان جديد هو إنسان جديد. لكن لا ينبغي أن نربح العالم كله ونخسر أنفسنا ولغتنا وثقافتنا. يقول غاندي: “يجب أن أفتح نوافذ بيتي حتى تهبّ عليه رياح جميع الثقافات، بشرط ألا تقتلعني من جذوري”.
السؤال الآخر: كيف تقرأ أُمَّةٌ ونسبةُ الأمية فيها تُقارب العشرين في المئة؟ فيما الأمية الثقافية تسود شرائح واسعة من المتعلمين، ناهيك بالأمية التكنولوجية والرقمية وسواها من مفردات العصر. عالمنا ينتقل من ثورة المعلوماتية إلى ثورة الذكاء الاصطناعي بكل ما تحمله من مستجدات على الصعد كافةً، فيما مناهج التعليم في معظم بلداننا تعود إلى ما قبل الألفية الثالثة. مناهج متخلفة لا حياة فيها ولا نبض، لا تجديد ولا عصرنة ولا مَن يحزنون، أساليب تدريس رجعية تعتمد التلقين الببغائي عِوَض حثّ التلامذة على البحث والتفتيش وطرح الأسئلة واحترام علامات الاستفهام. مدارس حكومية معظمها غير مجهَّز بأدوات البحث ولا حتى (أحياناً) بأدوات الدرس. كلُّ هذا يجعل الكتاب قصاصاً لا متعة وعقاباً لا معرفة، فيما المدارس الخاصة – ومعظمها تابع لجهات أجنبية – لا تولي اللغة العربية أدنى اهتمام. صحيح أن اللغات الأجنبية ضرورية، كما أسلفنا، لكن من الضروري أولاً عدم خسارة لغتنا الأم.
مستويات القراءة تتراجع في العالم كله. قولٌ صحيحٌ في ظلِّ عولمة استهلاكية تطغى فيها قيمُ السوق، لكن مهما انخفضت تلك المستويات لا تصل إلى الحضيض الذي عندنا. أما ذريعة الحروب والأزمات الطاحنة فالأَولى أن تكون حافزاً للقراءة والبحث عن أمداءَ وآفاق للخلاص مما نحن فيه، عِوَض جعلها مشجباً للكسل والبلادة وتفضيل النرجيلة على الكتاب. شيوع النرجيلة إن دلَّ على شيء فعلى الفراغ الفكري الذي تحياه شرائح كبيرة من مجتمعاتنا، ولهذا حديث آخر.
كلما التقيتُ طلاباً في هذه المدرسة أو تلك الجامعة أتمنى عليهم القراءة بدافع المتعة والتسلية، لا بدافع الواجب. فالقراءة المعرفية ليست واجباً مدرسياً أو فرضاً يُجبَرُ المرء على تأديته لقاء علامة زائدة أو مكافأة. القراءة طقسٌ وحالة، مزاجٌ فكريٌّ وروحيٌّ يعتاده الإنسان كما تمارين رياضته الصباحية، روتينٌ مثمرٌ يبدأ في البيت ولا ينتهي في المدرسة أو الجامعة. حين نقرأ تحت ضغط الواجب نضجر ونؤجل، أما حين نقرأ بداعي المتعة يصبح الأمر جذّاباً ومسلِّياً.
إلى جانب الأسباب التي ذكرناها، وفضلاً عن مسؤولية السلطات السياسية، ثمة مثلَّثٌ يتحمَّل وِزرَ عدم التشجيع على القراءة: البيت والمدرسة والمجتمع. فإلى ضرورة تحديث المناهج وجعلها مرنة ومنفتحة على الجديد، ينبغي أن تكون حصة القراءة إلزامية وعلامتها مجزية لا باعتبارها فرضاً، بل لكونها لا تقلُّ أهميةً عن أي مادة أخرى.
لقد نشأنا على مقولة العلِم في الصِّغر كالنقش في الحجر، ومَن شبَّ على شيء شابَ عليه، لذا من المُلحّ تعويد الأطفال على القراءة، وإفهامهم أن الكتاب ضرورة لا مجرد ترف أو من الكماليات. كلما قرأتَ كتاباً فتحتَ باباً من أبواب الدنيا، وكلما تعرّفتَ إلى كاتب دخلتَ بستاناً أو حديقة. ولِمَن يقول بالرغيف قبل الكتاب: الكتابُ سبيلٌ إلى رغيفِ عيشٍ كريم. لكن المقولة بذاتها تقودنا الى أهمية التنمية البشرية والاجتماعية المُستدَامة لرفع مستوى الوعي والثقافة، ما يجعل حاجتنا إلى الكتاب في مرتبة الحاجة إلى الرغيف.
عدم إدراك الأسرة لأهمية القراءة وضرورة تعويد الأبناء وتشجيعهم عليها، زائد مناهج تعليمٍ متخلفة، تجعل الكتاب بعبعاً بدل جعله صديقاً. أضفْ إلى ذلك غياب البيئة الاجتماعية الحاضنة التي تُعلي شأن القارئ والقراءة، تلكؤ دور النشر عن الترويج للكتاب في عصرٍ سمته “الماركتينغ” والتسويق، إغفال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لكل ما له علاقة بالكتاب، حدّة الحروب والأزمات التي تجعل النجاة من سعيرها أولوية، عجز السلطات عن قيادة أي مشروع تنموي تنويري وكبتها لكل ما يجعل الفكر حراً طليقاً. فالقارئ، كما الكاتب، ما لم يكن حراً لا يكون.
في عصر الذكاء الاصطناعي وما يحمله من تحديات ومستجدات، تزداد حاجتنا إلى تحصين أنفسنا بالثقافة والعلِم والمعرفة، لأن المجتمعات المُصابة بألزهايمر معرفيٍّ تغدو شعوبها غائبة أو مغيبة عن الوعي، منشغلةً بماضيها وتركته، منصرفةً عن مستقبلها وما تخفيه أيامها الآتية.
أوسع أبواب العلِم والثقافة والمعرفة، بل أوسع أبواب النجاة: القراءة ثم القراءة ثم القراءة.
سيرياهوم نيوز1-الميادين