- وليد شرارة
- الأربعاء 18 تشرين الثاني 2020
يتكشّف يوماً تلو آخر مدى جاهزية دونالد ترامب لإحداث بعض الزلازل في طريقه إلى الخروج من البيت الأبيض. آخر ما تبدّى أن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته أراد توجيه ضربة لمنشآت نووية في إيران، في موازاة تقليص حضور بلاده العسكري في غرب آسيا. لكن المفارقة، أن النواة الأيديولوجية – العقائدية في إدارته، والتي سعت طوال سنواتٍ أربع إلى دفعه نحو حربٍ مع طهران، ثنته هذه المرّة عن تهوِّر غير محسوب التبعات، خشيةَ توريط الولايات المتحدة في كارثة جديدة لن يفيد الغرق فيها سوى «أعدائها»
صدور مواقف وتصريحات متناقضة من واشنطن في شأن سياستها الخارجية، بات أمراً مألوفاً منذ وصل دونالد ترامب إلى سدّة رئاسة الإمبراطورية الأميركية المنحدِرة. المعلومات «المسرَّبة»، عبر صحيفة «نيويورك تايمز»، عن سؤال الرئيس الأميركي لأبرز معاونيه حول إمكانية توجيه ضربة لمنشآت نووية في إيران، بعد تقرير لـ«الهيئة الدولية للطاقة الذرية» يلحظ زيادة الأخيرة تخزينها لمواد نووية، أتت بعد أخرى تفيد بتسريع سحب القوّات الأميركية من أفغانستان والعراق وسوريا قبل خروج ترامب من البيت الأبيض. المقال المذكور كشف أن المعاونين، وبينهم الصقور نائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، وكذلك وزير الدفاع بالوكالة كريستوفر ميلر، وقائد هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي، قاموا بثني الرئيس عن الفكرة، خشية أن تؤدّي مثل هذه الضربة إلى حرب مفتوحة مع الجمهورية الإسلامية. غير أن بعض المسؤولين، بحسب المقال، أشاروا إلى أن الرئيس الأميركي تداول مع مجموعة ضيّقة من معاونيه المعنيين بالأمن القومي بخيارات لشنّ هجمات على مواقع إيرانية أخرى أو ضدّ حلفاء لطهران، بمَن فيهم عدّة تنظيمات عراقية، من دون توضيح نتيجة هذه المداولات.
تعكس هذه المعطيات حرصاً على تنفيذ ترامب وعوده لقاعدته الموالية، بالمباشرة في إعادة الجنود إلى الديار. حرصٌ يتلازم مع الإصرار على تظهير أقصى درجات التشدُّد مع إيران سعياً إلى منعها من استغلال الفراغ الناجم عن تراجع الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط لمصلحتها. قد تدفع غطرسة ترامب وفريقه إلى المضيّ بالخيارين معاً، على رغم العواقب الوخيمة التي قد تنتج من الثاني تحديداً، في طول الإقليم وعرضه. ومن نافل القول أن هذه الضربات لن تتيح للولايات المتحدة وحلفائها القدرةَ على وقف تطوّر القدرات العسكرية والصاروخية لإيران وحلفائها، وهو جوهر الصراع بينها وبينهم.
لم يكن سرّاً أن قيادة الجيش الأميركي تُعارض عملية عسكرية واسعة النطاق ضدّ إيران
لم يكن سرّاً أن قيادة الجيش الأميركي تُعارض عملية عسكرية واسعة النطاق ضدّ إيران، تتدحرج نحو حرب كبرى جديدة، بعد تلك التي «اكتوى بنارها» في أفغانستان والعراق، والتي لا تقلّ تداعياتها الاستراتيجية على الموقع الدولي للولايات المتحدة عن أكلافهما البشرية والمادية الباهظة. وفّرت «الحرب على الإرهاب» وغرق الجيش الأميركي المديد في «وحلها» فرصةً استراتيجية هائلة للصين وروسيا، في الآن نفسه، لتسريع تحوّلهما إلى قوّتَين دوليتَين منافستَين لأميركا. وقد عكست استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني الصادرتان عن إدارة ترامب في بداية عام 2018، واللتان كان لوزير الدفاع الأسبق، جيمس ماتيس، دور أساسي في صياغتهما، قناعة القيادة العسكرية الأميركية بضرورة منح الأولوية لمواجهة «المنافسين الدوليين»، على حساب التصدي لـ«الإرهاب» أو لطموحات قوى إقليمية متوسّطة. أيُّ حرب مع إيران تعني التورّط في نزاع إقليمي يصعب التنبّؤ بأثمانه ومفاعيله، وفتح نافذة فرص جديدة للمنافسين الدوليين لتعزيز وتوسيع دوائر نفوذهم. لكن الجديد الذي تضمّنه مقال «نيويورك تايمز» هو انضمام الثنائي بنس – بومبيو إلى المحذّرين من مغبّة حرب مع إيران. البعد الأيديولوجي – لا الانتخابي – هو الذي يطغى على أجندة الرجلَين، كما اتضح من سلسلة المواقف التي اتخذاها والسياسات التي حضّا ترامب على اعتمادها، وتحديداً ضدّ الجمهورية الإسلامية، طوال فترة رئاسته. هل تغيّرت قناعاتهما بفعل حوارات معمّقة مع القيادة العسكرية الأميركية عمّا سيترتّب من أكلاف عن مثل هذه الحرب، وعن قدرة المنافسين الدوليين على استغلالها لتحقيق المزيد من أهدافهم؟ هذا هو التفسير المحتمل للانقلاب اللافت في موقفهما، في ظلّ إجماع كامل ومؤكّد في أوساط النخب الأميركية على اعتبار التصدّي للصعود الصيني أولوية الأولويات. لم تكن هذه الأولوية غائبة عن ذهن بومبيو مثلاً، نظراً إلى التصريحات والآراء التي أدلى بها كوزير خارجية، وبينها دعوته الشعب الصيني إلى إسقاط نظامه «الشيوعي»، ولكنه برز كأحد أقطاب المجموعة المحرِّضة على «التعامل» مع التحدّي الإيراني بقسوة وبقوّة قبل التفرّغ تماماً للمعركة مع الصين. بكلام آخر، الحؤول دون تمكّن إيران وحلفائها من تعبئة الفراغ – أو قسم منه -، الناجم عن الانسحاب الأميركي الجزئي من الشرق الأوسط. تحالف إسرائيل مع بعض أنظمة الخليج تحت مسمّى «التطبيع» بإشراف أميركي كان في مقدّمة غاياته المعلَنة التصدّي لدور إيران الإقليمي. غير أن الشقّ الآخر من هذا التصدي، وهو الحدّ من تعاظم قدراتها العسكرية والصاروخية، هو ما عجزت الإدارة الأميركية عن وضعه قيد التنفيذ على رغم «ضغوطها القصوى» و«حربها الهجينة». جاهر مستشار الأمن القومي السابق، وأحد الناطقين الرسميين باسم التيار الأيديولوجي – العقائدي في الإدارة، جون بولتون، في جميع المناسبات المتاحة، بضرورة «قصف إيران» لحسم الصراع معها، ولم يكن بومبيو بعيداً عن هذا التوجه. إذا صحّت معلومات الصحيفة الأميركية، فقد تراجع الأخير عن هذا الرأي، ربما خشية أن يُتّهم، ومَن معه، من قِبَل بقية قطاعات النخبة الأميركية والرأي العام، بتوريط بلاده في كارثة جديدة أفادت أعداءها الأخطر. أما ترامب، الذي لم يتبع توصيات مستشاريه بصدام مباشر ومفتوح مع إيران لاعتبارات انتخابية قبل أيّ حسابات أخرى في خلال رئاسته، فإن حقده عليها لعدم قبولها «صفقة» معه، إضافة إلى قلّة خبرته الأسطورية، يفسّران، على أغلب الظن، تصوّره بإمكان استهداف منشآت نووية في إيران، دون ردٍّ مزلزل من قِبَلها. ما يَحكم سلوكه راهناً هو «ترك بصمته» على الوضع الدولي قبل الخروج من البيت الأبيض، وتعقيد مهمّات الإدارة المقبلة قدر المستطاع.
لا يريد أن يسجّل التاريخ أنه انسحب من الشرق الأوسط وأخلى المجال لتمدّد نفوذ إيران وحلفائها، كما قال الكثيرون عن جورج بوش الابن وحربه على العراق الذي قدّمه «على طبق من فضة» لها، وفقاً لتعبيرهم. وبما أن المعاونين، وبينهم الأشدّ تطرفاً، ينهون عن ضربة كبرى تفضي إلى الحرب، يصبح المتاح، ربّما، هو التعويض بضربات موضعية، ولكن مؤلمة لعدم تظهير عودة الغزاة الأميركيين إلى ديارهم على أنها هزيمة. إن كان من المبكر معرفة كيفية تعاطي أطراف محور المقاومة مع مثل هذه الضربات – إن حصلت -، يبقى أن التاريخ سيسجّل أن أكثر الإدارات الأميركية جنوناً وغطرسة لم تستطع وقف تعزيز قدراته العسكرية والصاروخية، لبّ المواجهة المتصاعدة معه في السنوات الماضية.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)