| محمد نور الدين
عشيّة الذكرى الثالثة للحرب الثانية (وقعت الأولى مطلع التسعينيات) بين آذربيجان وأرمينيا، في الـ 27 من أيلول 2020، انفجر الصراع مجدّداً بين البلدَين في ناغورنو قره باغ، أوّل من أمس، مع قرار باكو شَنّ عملية عسكرية واسعة ضدّ مَن تقول إنهم «مسلّحون انفصاليون» وقوات أرمينية تسلّلت سابقاً بدباباتها إلى المقاطعة. وتفيد الرواية الآذربيجانية بأن الجارة الأرمينية هرّبت مقاتلين وأسلحة من يريفان في اتّجاه مناطق في قره باغ، ما أدى إلى انفجار أكثر من لغم في الأيام الأخيرة أودت بحياة ستة من أفراد الشرطة الآذربيجانية، وشكّلت الشرارة التي تذرّعت بها باكو لشنّ حربها الجديدة الهادفة، وفق المعلَن، إلى «تطهير» قره باغ نهائيّاً من «الإرهابيين» الأرمن. في المقابل، نفت أرمينيا تورّطها في أيّ مشكلة في قره باغ، متّهمةً آذربيجان بأنها تعمل على تنفيذ مرحلة جديدة من «الإبادة في حقّ الشعب الأرميني»، وتهجير مَن بقي من أبنائه في المقاطعة المتنازَع عليها. وذكرت صحيفة «آغوس» الأرمينية الصادرة في إسطنبول باللغة التركية، أنه حتى مساء الثلاثاء، قُتل 25 شخصاً على الأقلّ في قره باغ، وتمّ إخلاء أكثر من سبعة آلاف من ستّ قرى أرمينية في المقاطعة.
وشهدت الأيام الأخيرة تطوّرات متلاحقة ومتسارعة، نجحت باكو في قراءتها استراتيجيّاً، إلى أن انفجرت المعارك يوم الاثنين. وفي قراءة تحليلية لِما حدث، يمكن التوقّف عند النقاط الآتية:
1- ضاقت آذربيجان ذرعاً بما اعتبرته مماطلةً أرمينية في تنفيذ اتفاق العاشر من تشرين الثاني 2020، والمتضمّن اعترافاً أرمينيّاً بالسيادة الآذربيجانية على ناغورنو قره باغ، وتوقيع اتفاق سلام يَرسم الحدود الجغرافية النهائية بين الدولتَين، إضافةً إلى فتْح ممرّ برّي عُرف بـ«ممرّ زنغيزور» (مقابل «ممرّ لاتشين» من أرمينيا إلى قره باغ) يمرّ، عبر الأراضي الأرمينية، من مقاطعة نخجوان ذات الحكم الذاتي الواقعة على حدود تركيا والتابعة لآذربيجان، إلى هذه الأخيرة، وذلك بمحاذاة الحدود الإيرانية تماماً، ويكون تحت إشراف قوات حفظ سلام روسية. ومع أن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، اعترف فعلاً بسيادة آذربيجان على كامل أراضيها، بما فيها ناغورنو قره باغ، لكنه ظلّ يراوغ في شأن فتح «زينغيزور»، لأنه، بحسبه، يُفقِد أرمينيا سيادتها على جزء من أراضيها. وهكذا، ظلّت باكو تحذّر يريفان من المماطلة، وتهدّدها بالتدخّل العسكري في حال عدم تنفيذ اتفاق 2020.
2- على رغم أن المناورات غير المسبوقة التي بدأتها أرمينيا مع الولايات المتحدة، في الحادي عشر من الجاري (راجع «الأخبار» العدد 5008: مناورات أميركية – أرمينية تستفزّ روسيا: عودة التوتّر إلى جنوب القوقاز)، كانت محدودة (شارك فيها 85 جندياً أميركياً و175 أرمينيّاً)، غير أنها استفزّت آذربيجان، لِما تحْمله من رسالة دعمٍ أميركية معنوية إلى الأرمن. وهكذا، أراد الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، أن ينقل بدوره رسالةً إلى باشينيان، مفادها بأن الدعم الأميركي الذي يراهن عليه الأخير، لن يفيده، وبأن المخرج الوحيد من مأزقه هو في توقيع اتفاق سلام مع آذربيجان.
3- أثارت المناورات الأرمينية – الأميركية المشتركة حفيظة روسيا أيضاً، التي وجّهت احتجاجاً إلى أرمينيا تقول فيه إن المناورات لا تخدم الاستقرار ولا تفيد يريفان في شيء، وإنها غير مقبولة من بلد صديق. في هذا الوقت، استغلّ علييف بصورة جيّدة الاستياء الروسي، ليوجّه ضربته الجديدة إلى ناغورنو قره باغ، ظنّاً منه أن موسكو لن تستجيب لأيّ نداء مساعدة من باشينيان، وهو ما حصل بعدما رفضت الأولى دعوة الأخير إلى التدخّل (اتفاقات الدفاع بين الجانبَين تخصّ أراضي أرمينيا حصراً، كما أن قوات حفظ السلام الروسية لم تتعرّض لأيّ اعتداء كي تردّ).
إذا تواصَل هجوم باكو إلى نهايته، ونجح في تحقيق هدفه، فإن موسكو ستخسر ورقة وجودها العسكري في قره باغ
4- وعلى صلة بالموقف الروسي والعلاقة الأرمينية – الروسية، لم يكتفِ باشينيان بالمناورات ليستفزّ الروس، بل قال، في مقابلة مع موقع «بوليتيكو» الأميركي (13 أيلول)، إن «موسكو لم تعمل على منْع إغلاق ممرّ لاتشين، كما أنها ضعفت بعد حرب أوكرانيا، وبالتالي، لم يَعُد ممكناً الاعتماد عليها لحماية أرمينيا»، معتبراً أنه «يجب خفض التعاون مع موسكو إلى أدنى حدٍّ ممكن… نحن نريد أن نكون دولة مستقلّة وسيادية، ويجب أن نصل إلى وضع نكون فيه على تقاطع بين الشمال والجنوب وبين الغرب والشرق. ليس بإمكان أرمينيا أن تكون بلداً وكيلاً، ولن نسمح بذلك». ولتظهير الانزعاج الروسي ممّا جاء على لسان باشينيان، قال الرئيس فلاديمير بوتين، لدى افتتاح «المنتدى الاقتصادي الشرقي» الثامن في مدينة فلاديفوستوك، مطلع الأسبوع الماضي، إن «قره باغ أرض آذربيجانية، وباشينيان اعترف بذلك في وثيقة وقّعها مع باكو في براغ. وحدود عام 1991 بين آذربيجان وأرمينيا هي الحدود الدولية بين البلدَين»، مضيفاً: «إذا كانت أرمينيا تعترف بسيادة آذربيجان على قره باغ، فلا معنى لمناقشة وضع قره باغ، لأن أرمينيا هي التي حدّدت بنفسها وضع قره باغ». ولكن، إذا تواصَل هجوم باكو إلى نهايته، ونجح في تحقيق هدفه، فإن موسكو ستخسر ورقة وجودها العسكري في قره باغ، وفي «ممرّ لاتشين»، ولاحقاً في «زينغيزور» في حال شَقّه. ومع هذا، تعطي روسيا أولوية، في ظلّ عداء باشينيان لها، للاحتفاظ بعلاقات جيّدة مع آذربيجان، كون الأخيرة بلداً جاراً، ومتشاطئة معه في حوض قزوين، ونظراً إلى أنه ليس في مصلحتها استعداء تركيا في ظلّ الحرب الأوكرانية.
5- الأكيد أن تركيا تقف بالمطلق مع آذربيجان في حربها الجديدة على قره باغ، فيما اتفاق العاشر من تشرين الثاني يعنيها بصورة مباشرة؛ إذ إن شقّ «زينغيزور» بين نخجوان وآذربيجان، يشكّل، في حال تحقّقه، مكسباً هائلاً لأنقرة، لأنه يعني من جهة فتْح ممرّ برّي هو الأول بينها وبين العالم التركي، ومن جهة ثانية إضعاف الموقع الاستراتيجي لإيران في القوقاز عبر تهميشها كطريق ترانزيت بين تركيا وآسيا الوسطى، كما قطع التواصل البرّي بينها وبين أرمينيا (وهذا من الخطوط الحمر الخطيرة بالنسبة إلى إيران). لذلك، فإن طهران تقع بين منزلتَين، أحلاهما مرّة: العداء الآذربيجاني لإيران، ومغامرة باشينيان الأميركية. ولم يكن عبثاً أنْ ركّز الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، على ضرورة فتح «زنغيزور»، وعلى ضرورة اعتراف أرمينيا بقره باغ آذربيجانية.
6- على الرغم من الهزيمة التي تلقّوها في الحرب الثانية، إلّا أن أرمن قره باغ أو «آرتساخ»، كما يطلقون عليها، صوّتوا في انتخابات جديدة لاختيار رئيس جديد هو صامويل شهرمانيان، بعد استقالة آرايك هاروتيونيان. وقد استشعرت باكو في ذلك خطراً من إمكانية استنهاض الأرمن لوجودهم في قره باغ من جديد، إذ قال مستشار الرئيس الآذربيجاني، حكمت حاجييف، قبل مدّة، إن على أرمن قره باغ أن يندمجوا في المجتمع الآذربيجاني، وأن تنهي أرمينيا مزاعمها، وأن تسحب قواتها من المقاطعة، وتوقف الدعم المالي للنظام «الدمية» هناك. وليس مفاجئاً أن تعكس الصحافة التركية، وخصوصاً صحيفة «حرييات» الموالية، أوّل من أمس، مناخاً بأن الفرصة مؤاتية جدّاً لكي تستولي القوات الآذربيجانية بالكامل على ما تبقّى من قره باغ، من دون استبعاد نشوب حرب مباشرة بين آذربيجان وأرمينيا، إذا لم تتدارك يريفان الوضع وتمضي في طريق التوقيع على اتفاق سلام. حتى إن الصحافة الآذربيجانية حفلت، في الأيام الماضية، بالكتابات المحفّزة على اقتلاع «إرهاب الانفصاليين» في قره باغ. وفي هذا الإطار، قالت صحيفة «مساواة» إنه «ليس هناك من خيار سوى القوّة لاجتثاث الإرهاب» واستعادة الهيكل الدستوري لآذربيجان، مشيرةً إلى أن «هدف الجيش الآذربيجاني، تصفية البنية العسكرية الأرمينية في قره باغ، وإلغاء ما تسمّيه باكو «المنطقة الرمادية»» .ووفق الصحيفة، فإن السلطات الآذربيجانية «أخذت في الحسبان مسبقاً موقف روسيا، وأبلغتها بالعملية»، وهو ما تجلّى في عدم معارضة موسكو للهجوم، وإشارتها، في بيان صادر عن خارجيتها، إلى أن «قوات حفظ السلام الروسية لن تتدخّل، وهي تدعو إلى حلّ المشكلات على طاولة المفاوضات».
ويبدو أن باكو تريد من وراء عمليتها العسكرية الجديدة، الانتهاء من «حكاية» قره باغ، من خلال تصفية كلّ المسلحين الموجودين فيها، وتهجير سكّانها الأرمن (لا يتجاوز عددهم المئة ألف) عبر «ممرّ لاتشين» المغلق منذ عشرة أشهر أمام المدنيين. وفي مقابل ذلك، اتّهم الأرمن، آذربيجان، بأنها تمارس إبادة جديدة في حقّهم لتهجيرهم نهائيّاً من قره باغ، فيما الشهيّة الآذربيجانية – التركية قد تفتح على الكثير من المفاجآت في المرحلة المقبلة، والتي لا تخدم حتى الوجود الأرميني في غرب القوقاز، وتطرح تساؤلات عمّا إذا كان باشينيان سيواصل أداء دور «زيلينسكي الأرمن»، والتضحية بهم حتى آخر فرد منهم.
اتفاق جديد لوقف النار… بوساطة روسية
أعلنت السلطات الآذربيجانية التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في إقليم ناغورنو قره باغ، دخل اعتباراً من يوم أمس حيّز التنفيذ، على أن تبدأ محادثات مع السلطات الأرمينية في مدينة يفلاخ، اليوم، في شأن إعادة دمج المنطقة المتنازَع عليها. وأوضح مستشار الرئاسة الآذربيجانية، حكمت حاجييف، أن الاتفاق يشمل «تسليم السلاح»، وإخلاء مواقع من تسمّيهم باكو بـ«الانفصاليين الأرمن»، متعهّداً أن توفّر بلاده «ممرّاً آمناً» لهؤلاء، في خطوة تهدف إلى «إعادة الإدماج السلمي للأرمن في قره باغ وتدعم أيضاً عملية التطبيع بين أرمينيا وأذربيجان»، بحسبه. من جهتها، أكدت القوات الأرمينية في قره باغ ما جرى الاتفاق عليه من شروط للهدنة التي توسّطت فيها روسيا، والتي ستُنفّذ بالتنسيق مع قوات حفظ السلام الروسية، وفق ما أوردت وزارة دفاع هذا البلد. إلّا أن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، قال، في خطاب متلفز موجّه إلى الأمّة، أمس، إن يريفان «لم تشارك في صياغة اتفاق وقف إطلاق النار» بين أرمن قره باغ وآذربيجان.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار