| محمد عبد الكريم أحمد
وقّع قادة مالي وبوركينا فاسو والنيجر (16 الجاري) ما عُرف بميثاق «ليبتاكو – جورما» (Liptako-Gourma Charter)، المؤسّس لتحالف دول الساحل، بهدف إقامة بناء للدفاع الجماعي والمساعدات المتبادلة، بما يخدم رخاء سكّان الدول الثلاث ويعزّز قدراتها على مواجهة الإرهاب في المنطقة الحدودية التي حمل الميثاق اسمها. كما يقتضي التحالف، في ما وصفه مراقبون غربيون بأنه محاكاة لـ«الناتو»، مساعدة الدول الثلاث، بعضها بعضاً، في حال تعرّضت إحداها لهجوم أو اعتداء خارجي.
تحالف الساحل والدولة الوطنية: إشارات أوّلية
يحمل «تحالف الساحل»، للمفارقة، اسم مبادرة سابقة دشّنتها فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي و«بنك التنمية الأفريقي» و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» في تموز 2017، وانضمّت إليها نحو 20 دولة غربية بين عضوية كاملة ووضع مراقب، من بينها الولايات المتحدة واليابان والمملكة المتحدة، بهدف تعزيز الاستقرار والتنمية الشاملة في الإقليم، وتمويل أكثر من 1000 مشروع في دول الساحل الخمس لمواجهة التحدّيات الأمنية والديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وهي مشاريع لم تنتج تقدّماً ملموساً في أيّ من تلك المسارات، فيما ظهرت تقارير متفرّقة عن سوء إدارة المخصّصات المالية لها. ويؤشّر قيام التحالف الوليد إلى مسارَين رئيسَين في إقليم الساحل، يُتوقّع أن تعمّقهما هذه الخطوة: أوّلهما، سعي دول الإقليم إلى استعادة أدوارها كدول ذات سيادة وصاحبة رؤى وبرامج وسياسات وطنية لتحقيق الاستقرار والتنمية وتلبية المطالب الشعبية لمواطنيها، وثانيهما: تأميم جهود مواجهة الإرهاب (المعضلة الكبرى التي التهمت غالبية مخصّصات هذه الدول في القطاعَين الأمني والعسكري) لتحقيق عدّة مكاسب دفعة واحدة، أهمّها التحرر من تحكّم فرنسا وحلفائها بالملفّ منذ أكثر من عقد من دون إنجازات تُذكر، وتحقيق فاعلية أكبر في تلك الجهود عبر تنسيق لصيق بين حكومات الدول المعنيّة ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية، والاستفادة من الدعم العسكري الآتي إلى كلّ منها (سواءً في شكل معدّات متطوّرة أم تدريب عسكري وأمني متقدّم يراكم الخبرات على الأرض).
وقادت مالي، صاحبة التجارب الوحدوية الأفريقية السابقة منذ ستينيات القرن الماضي، مساعي إقامة التحالف، انطلاقاً من موقفها الحاسم والرافض لتجربة فرنسا وجهودها في الإقليم، والذي وصل إلى حدّ اتّهام باماكو لباريس بالتورّط في «دعم جماعات إرهابية» في شمالي مالي، وكذلك لمشروع التدخّل العسكري الذي تقوده نيجيريا وغانا تحت مظلّة «الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس). ويمكن النظر إلى الاتفاق على أنه تدشين لمرحلة جديدة في بنية الدولة الوطنية في إقليم الساحل وغرب أفريقيا، تقوم فيها الأخيرة بمواجهة مشكلاتها على نحو مباشر، بدلاً من التعويل على التدخّل الدولي المرهون دائماً بشروط مكلفة اقتصادياً وسياسياً. لكنّ مراقبين غربيين يتخوّفون من أن يكون «تحالف الساحل» مقدّمة لولادة سياسات إقليمية جديدة في القارة، تُعلي من شأن التعاون بين الدول الأفريقية لحفظ الأمن والاستقرار ومواجهة الإرهاب عبر ارتباطات قائمة (يرجَّح تطورها على نحو مكثّف في الأشهر القليلة المقبلة) مع دول مثل روسيا وتركيا والصين نفسها، وهي دول تقدّم حالياً دفعات أسلحة متطوّرة لرفع قدرات جيوش دول التحالف الجديد، ولا سيما مالي التي يمكن وصفها بقاطرة هذا التحوّل الإقليمي الملموس.
وفق وثيقة «ليبتاكو – جورما»، ستعمل الدول الثلاث على إطلاق ما يمكن وصفه بمرحلة إعادة بناء لمواجهة تداعيات التغير المناخي بدايةً من المناطق الحدودية المشتركة، الأمر الذي سيفتح نافذة أمام دخول استثمارات دولية من أطراف عديدة، في مقدّمها الصين التي رصد محلّلون فعلاً، منذ نهاية آب الفائت، وضعها خططاً لضخّ استثمارات في مرحلة ما بعد الصراع في الدول المعنيّة، بالتزامن مع ترسيخها قدمها كمورّد أول للأسلحة والمعدّات العسكرية إلى مالي (اقتربت صادرات بكين العسكرية لمالي عام 2021 من 900 مليون دولار تقريباً، ويُتوقّع أن ترتفع العام الجاري إلى بليون دولار). والجدير ذكره هنا، أيضاً، أن باماكو حصلت (كانون الأول 2022 – آذار 2023) على دفعة من طائرات «بيرقدار» التركية، وطائرات «L-39» روسية الصنع (بلغ عددها أربعة وفق مصادر «defenceWeb»).
يمثّل التحالف ضربة موجعة لقيادة نيجيريا لإقليم غرب أفريقيا، وإضعافاً لقدرتها على تعبئة الجهود الإقليمية للقيام بعمل عسكري في النيجر
تأميم مواجهة الإرهاب
جاء إعلان التحالف بعد أقلّ من شهر من اتفاق الدول الثلاث على سماح النيجر لبوركينا فاسو ومالي بإرسال قواتهما إلى الأولى للدفاع عنها في مواجهة هجوم محتمل من قِبل «إيكواس». ونصّت الوثيقة على التزام الدول الثلاث العمل على منع التمرّد المسلّح أو القضاء عليه، فيما تناولت المادة الرابعة منها أهمية مكافحة الإرهاب والجريمة المنظَّمة بصورهما جميعها. كما نصّت المادة السادسة (التي تشبه المادة 5 من نظام «الناتو») على أن أيّ هجوم على دولة أو أكثر من الدول المُوقِّعة، سيُعدّ هجوماً على الموقّعين جميعهم. وتضمّنت الوثيقة إشارات ملفتة، وإنْ بدت تقليدية، مِثل الحاجة إلى مواصلة النضال البطولي الذي تقوم به الشعوب والدول الأفريقية للحصول على استقلالها السياسي وكرامتها الإنسانية وانعتاقها الاقتصادي.
ويتّضح من تسمية التحالف باسم المنطقة الحدودية بين الدول الثلاث، والتي شهدت في الأعوام الأخيرة نزوح نحو 90% من سكانها على خلفية الأعمال الإرهابية وأعمال الجرائم المنظّمة وغيرها، أن الهدف الأول من الخطوة هو إطلاق عملية متدرّجة وموسّعة لإعادة فرض نفوذ الدولة في تلك المناطق، عبر مواجهة الجماعات الإرهابية بالتنسيق بين الأجهزة الأمنية والعسكرية والإدارية المعنيّة، وتقوية أدوار الجيش الوطني والمؤسّسات الأمنية المعاونة له، مع انتهاج باماكو وواغادوغو ونيامي سياسات خارجية أكثر توازناً وبراغماتية تساهم بدورها في تعزيز هذه المساعي.
نيجيريا و«تحالف الساحل»
يمثّل التحالف ضربة موجعة لقيادة نيجيريا لإقليم غرب أفريقيا، وإضعافاً لقدرتها على تعبئة الجهود الإقليمية للقيام بعمل عسكري في النيجر، بدعم من مظلّة فرنسية وبريطانية أساساً، عوضاً عن كون التحالف في حدّ ذاته تهديداً لاستمرارية «إيكواس» التي أخفقت في اختبارات متكرّرة في الأعوام الثلاثة الأخيرة، واكتفت بتسجيل مواقفها من الأزمات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، من دون أيّ قدرة حقيقية على تقديم بدائل للأزمة. كما يعني تفكّكاً فعلياً لمجموعة دول الساحل الخمس التي كوّنتها فرنسا (بدعم مباشر من ألمانيا والاتحاد الأوروبي) عام 2017، والتي تضمّ تشاد وموريتانيا إلى جانب دول «تحالف الساحل».
يأتي ذلك في وقت تتبدّل فيه خريطة التحالفات التقليدية في الإقليم على نحو متسارع، وهو ما سيكون من شأن «ليبتاكو – جورما» تعزيزه. فوفق تقارير نشرتها وسائل إعلام صينية منذ نهاية آب الفائت، أعلنت «هيئة صناعات شمال الصين» (نورينكو – عملاق صناعة السلاح الصينية المملوكة للدولة)، التي افتتحت أخيراً مكتباً إقليمياً في العاصمة السنغالية داكار (المجاورة لمالي)، عزمها التوسّع في عملياتها في مالي (وساحل العاج). ويؤشّر هذا الإعلان إلى توجّه دول الإقليم (داخل إيكواس أو خارجها) إلى التوصّل إلى حلول «فردية» لمشكلاتها اللصيقة، بالتعاون مع بكين أوّلاً، وسط ما تواجهه موسكو من عقوبات متزايدة تحجّم بشكل أو بآخر تحركاتها في الإقليم، وما تعانيه باريس من عداء متنامٍ تجاهها بين مواطني الأخير. والجدير ذكره، هنا، أن أنشطة «نورينكو» في مالي وساحل العاج (والدول التي قد تنضمّ إليهما وأبرزها النيجر وبوركينا فاسو) تشمل صناعة البترول والغاز والصناعات التعدينية والصناعات الهندسية والاستثمارات وإدارة الأصول، إلى جانب التعاون الدفاعي.
وعزّزت تصريحات نائب الرئيس المالي فوسينو أوتارا (نقلتها شبكة سبوتنيك في 19 الجاري)، احتمال تفكّك «إيكواس» بالفعل، بقوله إن تكوين «تحالف الساحل» يعدّ «بداية نهاية إيكواس، مع إخفاق الكتلة الإقليمية كمشروع، والحاجة إلى منظّمة (إقليمية) جديدة». وهي تصريحات اتّسقت على نحو ملفت مع التفسير النيجيري الرسمي والإعلامي لتكوين «ليبتاكو – جورما»، باعتباره – في الحدّ الأدنى – رافعة لمواجهة دوله الثلاث للتهديد الذي فرضته عليها «إيكواس».
خلاصة
أهمية التحالف، الذي لا يزال في خطواته الأولى وربّما يتعرّض لردود فعل مباغتة من قِبل «إيكواس» وفرنسا، تكمن في احتمال تمدّده ليتحول إلى منصّة إقليمية لمواجهة المشكلات المزمنة في الإقليم، لا سيما إذا تمكّنت دوله من تحقيق نجاحات مبدئية وتجاوز تجدّد التهديدات الإرهابية والانفصالية في شمال مالي. وإذ يسجَّل أن إعلان قيام التحالف في باماكو جاء بعد ساعات من مغادرة نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكروف، للعاصمة المالية منتصف الجاري، عقب زيارة حظيت بتغطية إعلامية ملفتة، وبعد إلغاء النيجر اتفاقاً عسكرياً (13 أيلول) سبق أن وقّعته مع بنين المجاورة وسط مخاوف نيامي من أيّ تدخّل عسكري لـ«إيكواس»، يصبح واضحاً أن «ليبتاكو – جورما» خرج بوصفه تجسيداً لخطوات استباقية متسارعة لدوله الأعضاء، تستهدف مواجهة تحرّكات «إيكواس» المتوقَّع دعمها فرنسياً على الأقلّ.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار