| مصعب أيوب
تعد الكتب والإنتاجات الثقافية شكلاً من أشكال الغنى الثقافي للبلدان ولعلّ المكانة الخاصة التي يحتلها الكتاب في أفئدة المثقفين والمزايا الفريدة التي يتمتع بها عن غيره من وسائل التكنولوجيا الحديثة والوسائل التعليمية المتنوعة، جعلته منهلاً ومحيطاً وافراً يستزيد من علمه الكبير والصغير ويستقي منه البديع من الكلام والساحر من المعاني، إضافة لمكانته البارزة في التراث الثقافي، وإذا ما تنقلت بنظرك في شوارع دمشق فستجد كتباً قديمة متنوعة بين السياسي والاقتصادي والعاطفي والفلسفة تآكلت أطرافها الصفراء وافترشت الرصيف في كل مكان من شوارع دمشق وشكلت مصدراً للثقافة في وقت ما.
مصادر متنوعة
مما لا شك فيه أن مكتبة الأديب هي كنزه الثمين وملاذه الآمن وفيها يجد نفسه واهتمامه وينعم بها وينهل منها، لكن العوز الشديد والوصول إلى شفير الجوع الحقيقي يضطران المثقف للتصرف بها، فالحاجة المذلة تفرض على المثقف التخلي عن جزء من أغلى ما يملك ليسد رمق كرامته ويحفظ ماء وجهه، آل به الحال للتخلص من مكتبته وهو ما لا يمكننا استغرابه، فالحال ذاته حدث للكاتب المصري عباس العقاد الذي باع جزءاً من مكتبته لسد حاجاته الأساسية، وغالباً ما تحدث مثل هذه الصفقات سراً إذ إن شعور الخجل يسيطر على فاعله فيعده البعض كمن يبيع روحه.
وهو ما أفادنا به تيسير أحد بائعي الكتب على الرصيف مبيناً أنه يحصل على كتبه من مصادر متعددة وأغلب ما يبيعه كتب مستعملة كانت في مكتبات منزلية اضطر أصحابها لبيعها بداعي السفر أو لضيق المكان في منازلهم أو ضيق ذات اليد، كذلك فإن ورثة بعض المثقفين لا يقيمون وزناً لهذه الكتب النفيسة ويبيعونها بسعر زهيد.
ويضيف إن الواقع الذي نعيشه عصيب والأيام مريرة وأغلبية الناس لا تملك القدرة على شراء كتاب بقيمة ١٠ آلاف ليرة سورية وربما أكثر ولكن يحاولون جاهدين اقتناء ما يبغون من الكتب بنصف أو ربع هذه المبالغ وهو ما نسعى إليه ونقوم به.
في الوقت ذاته يؤكد تيسير أن مهنته لا تحقق له الاكتفاء المادي ولكنه منغمس بها ولاسيما أنها عملت على رفع ثقافته عالياً وفسحت المجال أمامه لاكتشاف عوالم كانت غامضة وربما مجهولة بالنسبة له، وأشار إلى أنه لا يستطيع تغيير هذه المهنة التي أحبها واعتادها واكسبته حب القراءة وشغف المطالعة معتبرها وسيلة مهمة لإقناع مرتادي السوق لشراء الكتب، مبيناً أنه من دواعي سروره تعامله مع فئة الشباب واهتمامهم بالنسخ الورقية لأنه لا يجد متعة في القراءة من خلال الهاتف النقال ولكن يجد ما يطلبه بين صفحات الكتب ورائحة الورق وملمسه، ويؤكد أنه يتعامل مع مهنته كخدمة يقدمها للناس ولكن السعر الذي يوضع لكتاب ما إنما لعظم شأنه ونفاسة معلوماته وقيمتها العالية ويؤكد أنه في بعض الأحيان يتيح لبعض المتسوقين والمارة الاطلاع على كتاب ما وربما مطالعته لساعة أو ساعتين من الزمن دون مقابل، مبيناً أن هذا يخلق لديه شعوراً بالفخر والاعتزاز لتسهيل الطريق أمامهم للوصول إلى المعرفة.
باقة أزهار ثقافية
زياد من دير الزور أمتهن بيع الكتب في شارع الحلبوني وسط دمشق على مدار ١٧ سنة في وقت هجر فيه الشباب القراءة وهمشوا قيمة الكتب وتخلوا عن لذة مطالعتها، يستيقظ كل صباح لينسق كتبه بشكل هندسي وأسلوب متقن على قارعة الطريق مؤكداً أن مكتبته تحوي مالا يخطر ببال أحد من أنواع الكتب وبأسعار مدروسة وجودة ممتازة واصفاً نفسه بأنه قارئ شغوف بالمعرفة تربطه بالكتاب علاقة وثيقة، فالتنقل بين مختلف أنواع واختصاصات الكتب يشبه الدخول لحديقة مليئة بالأزهار والورود تجعلك تقف حائراً أيّاً منها تختار.
سطوة الكتاب الرقمي
بين اتساع شعبية الانترنت وانحسار القراءة يبقى باعة الكتب المنتشرون على أرصفة الطريق يقضون جل حياتهم رفقة خير جليس لا يجدون طريقاً آخر لحياتهم اليومية إلا تلك المهنة ففيها يجد أصحابها تواصلاً راقياً مع الناس.
أبو عمار بائع كتب في منطقة جسر الرئيس يشكو انخفاض عدد زبائنه ويصف الحالة الشرائية بالمعدومة وقد عزا ذلك إلى صعوبة الحال الذي وصلت إليه المنطقة والذي جعل الناس تتجه لتحصيل الضروري والأولي لحياتهم، موضحاً أن عدم إلمامه بمهنة أخرى هو ما جعله يستمر في مهنة بيع الكتب وإلا لكان اتجه لتأسيس مشروع آخر أو طرق أبواب الصناعيين وأصحاب المهن على اختلافها، وأضاف الرجل البالغ من العمر ٦٤ عاماً إن التطور الحاصل في القطاع التقني والرقمي كان له شديد الأثر في تراجع نسبة مبيعات الكتب إذ لا يجد أحدهم صعوبة في تصفح ما يحلو له من الكتب المتوافرة على شبكة الانترنت من دون عناء ولا تكلفة، ويضيف إن هذه البسطات تساهم في رفد مكتبات القراء المنزلية بالعديد من الكتب إذ إنها صديق عطوف على ذوي الدخل المحدود.
ضرورات ملحة
من جانبه يقول خلدون صاحب محل لبيع الأحذية والجلديات في منطقة فكتوريا إن محله كان في السابق مكتبة لبيع الكتب ولكن في الآونة الأخيرة اضطره الحال لتغيير مجال عمله بسبب تراجع الإقبال على شراء الكتب، ففي بعض الأحيان كان يمر يومان أو ربما ثلاثة لا يبيع كتاباً واحداً وقد استمر الحال هكذا قرابة ثلاثة أعوام إلى أن حل متجر بيع الجلديات مكان مكتبة ذات أثر عظيم في نشر الثقافة، وأضاف إنه باع جزءاً من الكتب لمكتبات أخرى مجاورة بسعر ربما أقل من تكلفة طباعتها وقد احتفظ بقسم آخر في مكتبته المنزلية الخاصة ويطالعها من وقت لآخر ويقوم بإعارتها لمن يطلبها ولكن لا يبيعها فهي ثمينة بالنسبة له، مبيناً أن بائعي الرصيف يكاد يكون وضعهم أفضل بكثير من أصحاب المكتبات فهم غير مشمولين بالضرائب والرسوم ولا يدفعون أجرة كالمحال التجارية ولا يطلب منهم دفع فواتير ماء أو كهرباء.
مناشدة للتغيير
تلوث سمعي وبصري في كل مكان وفوضى كبيرة يصاحبها ازدحام بشري ضخم وصخب وضجيج هنا وهناك والكثير من المنغصات التي تجعل تصفح الكتاب والتقليب بين صفحاته ومطالعة عناوينه أمراً صعباً ويشوش المتسوق، هذا ما يزعج توفيق الذي طالب الجهات المعنية بتخصيص مكان أفضل من منطقة جسر الرئيس لعرض الكتب التي تحوي قيماً فكرية وعلمية عالية وهو ما أيده به أبو معتز الذي يعتبر أن مهنته تعد عملاً فكرياً وتحتاج للهدوء والصفاء الذهني وهو ما لا يمكن حصوله في مكان يعج بالناس والباعة والأصوات العالية التي تحول بينهم وبين سماعهم أصوات زبائنهم.
متعة خاصة
أحد المتسوقين ويدعى ماهر يقول إنه يجد ما يريد لدى باعة الأرصفة وما لا يجده يطلبه من البائع ويعود بعد عدة أيام ليكون قد أحضره له، مبيناً أن السعر مقبول ولكن ينبغي أن يكون أقل من ذلك، مشيراً إلى أنه يفضل شراء الكتب من هذه البسطات حيث إنه موظف وراتبه منخفض بعض الشيء ولكن ذلك لا يمنعه من اقتناء الكتب بشكل دوري وتصفحها والغوص في بحورها وهو يجد المتعة في قراءة الكتب المستعملة التي لامستها أياد كثيرة قبله فقيمة الكتاب تأتي من عدد المهتمين به.
تكلفة عالية
وأما عن سعر بعض الروايات والكتب المرتفع حسب ما يصف البعض فيقول أحد أصحاب دور النشر أن سببه ارتفاع سعر الورق وتكاليف الطباعة ولاسيما في ظل انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، وهو الأمر الذي يضطر البعض للاستعانة بالمعدات التي تحتاج للوقود ذي السعر المرتفع وفي كثير من الأحيان غير متوافر، مبيناً أنه رغم ذلك كله في أحيان كثيرة تباع الكتب بأقل من تكلفتها، ويضيف إنه ورث هذه المهنة عن والده واستمر فيها وأولاها اهتماماً كبيراً على حين أن الكثير من جيرانه استبدلوا مهنة بيع الكتب بمهن أخرى في محاولة بسيطة للحصول على المنفعة المادية المنشودة ومردود مالي أعلى وكان منهم (مركز الكتاب- مكتبة أبو حرب- مكتبة التنبكجي)، معبراً عن أسفه إذا أهمل أولاده من بعده هذه المهنة.
مفارقات عديدة
السيد عادل عساف صاحب دار البشائر للنشر والطباعة يتعارض مع فكرة أن هناك إحجاماً عن شراء الكتب، مبيناً أن أصحاب الـ«بسطات» يبيعون الكتب بشكل يعادل ثلاثة أضعاف مبيعات مكتبته وبالسعر ذاته.
ونوه أن سبب ارتفاع نسبة مبيعات الكتب لدى أولئك الباعة يعود إلى عرضهم كتباً هابطة ودون المستوى أو ربما تقليد للنسخ الأصلية وأوضح عساف أن المكتبات المتزنة تبيع الكتب القيمة وذات الجودة العالية.
كما أن الوضع المادي ليس المبرر الرئيسي لتراجع بيع الكتب معللاً ذلك بانتشار الناس هنا وهناك في محال بيع المأكولات والحلويات وعزوفهم عن شراء الكتب ليقول ساخراً «شعب ما بدو يتثقف».
ومثال ذلك يقول إن بعض الموظفين في وقت سابق كانوا يقصدون مكتبته لاقتناء بعض الكتب وكانت رواتبهم متدنية ولكن يخصصون منذ البداية مبلغاً من المال لشراء ما يريدون من الكتب وثم تأتي البقية من بعد.
مكتبات عريقة كان لها باع طويل في المشهد الثقافي في سورية متواضعة وشعبية في الشكل لكنها غنية وقيمة بمضمونها ومحتواها وأغلب زوارها من المثقفين وطلاب الجامعات وربما أصحاب مناصب حكومية مهمة، قد أغلقت أبوابها مؤخراً بشكل نهائي وبعضها تحول إلى محلات لبيع المأكولات وربما إلى مكاتب حجوزات طيران وغير ذلك نتيجة تراجع أعداد المقبلين عليها وتضاؤل الحركة الشرائية ومنها مكتبة ميسلون ونوبل والزهراء.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن