موفق محادين
زعزعت حرب تشرين “إسرائيل” من أساسها، فبدلاً من الثقة المفرطة، جاءت الشكوك. وقد برزت هذه الشكوك بعد الحرب لدى الزعماء والقادة بشكل خاص.
خاض المصريون والسوريون حرب تشرين 1973 بأفقين؛ أفق ساداتي قاد إلى كامب ديفيد، وأفق سوري كان منسجماً مع التصورات التي وضعها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وفق خطة غرانت 1 و2، والتي كانت تقضي بتحجيم العدو الصهيوني وإعادته إلى خطوط ما قبل حزيران 1967.
استقبلت حرب تشرين بمقاربات ونيات مختلفة، سواء عند العرب أو عند العدو الصهيوني، ولم تخلُ من الإسقاطات والإقحامات والنكايات والتقليل أو المبالغة في شأنها.
وقد اخترت قراءة معادية للمراسل الحربي والمؤرخ العسكري الصهيوني زئيف شيف كما أصدرها عام 1975 تحت عنوان: زلزال في أكتوبر، للمساهمة في وضع حد لثقافة العرب المهزومين في أعماقهم إزاء أي إنجاز عربي.
الدهاء العربي يتغلب على “الذكاء الإسرائيلي”
بصرف النظر عن الكذبة الإسرائيلية الدارجة عن الذكاء الإسرائيلي أو اليهودي، تحت العنوان المذكور (ص 36)، يفضح زئيف شيف أخطر كذبة عن “الأمن الإسرائيلي الذي لا يقهر”، ويكشف كيف تمكَّن المصريون والسوريون من خداع هذا الأمن وضربه في صميم استراتيجيته.
التقارير التي صدرت عن الموساد حول سوريا تحدثت عن مناورات سورية لا تدعو إلى القلق (ص 46)، كما انطلت عليه معركة الطائرات فوق طرطوس، حين اكتفت دمشق في 13/9/1973 باشتباك جوي مع الطائرات الإسرائيلية خسرت فيه عدداً من الطائرات، من دون أن تكشف منظومة الصواريخ الحديثة التي كانت قد حصلت عليها من موسكو (ص 8).
وبالمثل كانت التقارير التي صدرت عنه على الجبهة المصرية، والتي تحدثت عن مناورات ليس إلا في بعض القطاعات، وعن استرخاء واضح للجنود المصريين على طول القناة. (ص 36).
وعندما وصلت معلومات عن حشود كبيرة مصرية وسورية، وعن ساعة صفر الهجوم، فشلت المخابرات الإسرائيلية في تحديد هذه الساعة، وقدّرتها عند السادسة مساء، فيما شن المصريون والسوريون الهجوم ظهراً. (ص 25).
ومما يذكره أيضاً أن أخطر الأخطاء التي ارتكبتها الاستخبارات العسكرية كانت حين قدرت أن الحشود المصرية والسورية لم تكن تستعد للحرب، ولم تكن هناك أي معلومات ذات قيمة على طاولة الحكومة الإسرائيلية، حتى إن العرب أنفسهم فوجئوا بمفاجأة الإسرائيليين على هذا النحو. (ص352-355)
الهجوم المصري السوري.. “الشرارة”
تحت عنوان الكلمة السرية “الشرارة”، شن المصريون والسوريون، وبكل الأسلحة، هجوماً كبيراً صاعقاً على الجبهتين المصرية والسورية، رافقه إنزال قوات خاصة وراء العدو، وذلك بحدود الساعة الثانية من ظهر السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973. (ص 22، 31، 47).
على الجبهة المصرية، نفذ المصريون هجومهم بسرية، وبعد عملية قصف سريع، مستخدمين 150 طائرة خسروا منها 7 فقط (ص 49)، وزوارق وجسور عبور مصممة لهذه الغاية، واستولوا على قناة السويس في وقت قياسي، وأنهوا عملية أسطورة خط بارليف الذي يوازي أكبر خط في التاريخ، هو خط ماجينو الفرنسي.
أما على الجبهة السورية، فقد اندفعت الدبابات السورية ورجال الوحدات الخاصة، واقتربت الدبابات من المدرعات الإسرائيلية لشل الطيران الإسرائيلي (ص 53)، وتم سحق معظم القوة الإسرائيلية في هضبة الجولان (التعبير لزئيف شيف) (ص 194)، بما في ذلك موقع جبل الشيخ، الذي سقط بسرعة واستسلم من تبقى من الإسرائيليين أحياء (ص 99) بعد خسائر كبيرة في صفوف “لواء النخبة الإسرائيلي” المعروف باسم “لواء جولاني”. (ص 99، 158)
الخطأ المصري
بالتزامن مع “وقفة المراجعة” التي أعلنها السادات، راحت “إسرائيل” تنقل قواتها إلى الجبهة السورية (ص 172).
وبحسب زئيف شيف، فقد قال وزير “الدفاع” الإسرائيلي دايان: “يجب ترك مصر الآن، فالوضع على الجبهة السورية خطر جداً، وليس هناك ما يقف في طريق الدبابات السورية ورجال الوحدات الخاصة السوريين” (ص 55)، وأضاف شيف: “كانت إسرائيل قد خسرت حتى يوم الهجوم الإسرائيلي المضاد 500 جندي”. (ص 189)
تمهيداً للهجوم الإسرائيلي المضاد، وبعد الخسائر الفادحة في المدرعات والطائرات والأفراد، يتوقف زئيف شيف عند الدور الأميركي وفتح مخازن السلاح الاستراتيجي وتأمين جسر جوي أميركي من ولاية كارولينا (ص251، 304)، معززاً بعدد كبير مما سمّاه “المتطوعين”، بمن فيهم أعداد من الطيارين (ص 115-117)، مبرراً ذلك بتدفق الأسلحة الروسية ومنظومات الصواريخ “سام 6” (ص 153، 297) ووصول طيارين روس إلى سوريا، إضافة إلى الطيارين من كوريا الشمالية في مصر. (ص 288).
ويؤكد شيف ما سبق أنْ ورد في مذكرات الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر عن تأليف لجنة خاصة لمتابعة المعركة ومنع “إسرائيل” من الانهيار. (ص 153).
مواضيع متعلقة
في ذكرى رحيله… أفريقيا في فكر جمال عبد الناصر
2 تشرين اول 18:03
احتمالية الحرب الإقليمية الشاملة بين 3 ضوابط
30 أيلول 00:50
الهجوم المضاد على الجبهة السورية
أسفر الاستفراد الإسرائيلي بالجبهة السورية عن وقف الهجوم السوري وعن تقدم مضاد إسرائيلي كان من عناوينه معركة جبل الشيخ.
ومما يذكره شيف أنَّ الإسرائيليين فوجئوا بعد خسائر فادحة في لواء جولاني، بينهم 61 قتيلاً، بأن المجموعة السورية التي كان تدافع عن الموقع كانت تتألف من 28 مقاتلاً استشهد معظمهم. (ص 326)
وبالرغم من التراجع السوري، فقد دفع الإسرائيليون في الهجوم المضاد، كما يقول شيف، ثمناً كبيراً في المعارك التي شاركت فيها مع السوريين وحدات من المدرعات العراقية والأردنية ورجال من الوحدات الخاصة الجزائرية والمغربية.
ومما يذكره الكتاب أن القيادة السورية قدمت للمحكمة عدداً من العسكريين الذين انسحبوا من المعركة أو أعطوا أوامر للفرقة السابعة بالانسحاب، ونفذت حكم الإعدام الميداني فيهم. (ص 211)
ثغرة الدفرسوار المصرية والخسائر الإسرائيلية
من المعروف أن الخطأ المصري، تحت عنوان “وقفة المراجعة”، لم يتسبب بنقل جانب كبير من القوات الإسرائيلية إلى الجبهة السورية فقط، بل تسبب أيضاً بما يعرف بـ”ثغرة الدفرسوار” أو الاختراق الإسرائيلي غرب قناة السويس، لكن بشأن الاختراق، وبخلاف الحملة المشبوهة التي بالغت فيه، فإن زئيف شيف نفسه يقدم صورة ميدانية مختلفة تظهر القدرات العسكرية المصرية وتحويلها الاختراق إلى هزيمة إسرائيلية.
رداً على المرحلة الثانية من الهجوم المصري، حاول الإسرائيليون تحقيق مكسب ميداني يسبق وقف إطلاق النار الذي كان يطبخ دولياً بقراءات متباينة بين موسكو وواشنطن وحلفائها.
وقد تم تنفيذ الاختراق المذكور عبر وحدات من المظليين الإسرائيليين ورجال الضفادع البشرية الذين سرعان ما وجدوا أنفسهم محاصرين بالنيران المصرية، إذ قتل عدد كبير منهم ومن قادتهم رافي وجوني (ص288)، فصدرت الأوامر بإجلائهم، تاركين عشرات الجثث على أرض المعركة. (ص 291)
وتفاقمت الأزمة الإسرائيلية عندما حاول الإسرائيليون استبدال رجال القوات الخاصة بالدبابات التي دُمر عدد كبير منها بقاذفات الدروع المصرية. (ص 332-333)
ومما ذكره زئيف شيف عن احتلال مدينة السويس الذي تفاخر به شارون، أن ذلك الاحتلال كان مصيدة مصرية حين اعتقد الإسرائيليون أنها باتت مدينة مهجورة، بل إن قائد الوحدات العسكرية المصرية في المدينة أبلغ فريق شارون بأنه جاهز للاستسلام عند دخول الإسرائيليين المدينة، ما شجع الإسرائيليين على دخولها فعلاً، قبل أن تطبق عليهم النيران المصرية من كل جانب، وتنثر جثثهم في كل مكان فيها… لينسحبوا بخسائر كبيرة. (ص 344)
من مظاهر الزلزال في قراءات زئيف شيف
1. سقوط الوظيفة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية في المنظومة الأميركية. (ص 230).
2. الفشل الاستخباراتي في وقوع الهجوم ونجاح الخداع العربي.
3. سقوط فكرة “الجيش الذي لا يقهر” والحرب الخاطفة والاطمئنان إلى هزيمة الجيوش العربية في أي وقت. (ص227)
4. سقوط أسطورة خط بارليف. (ص 222)
5. ترك جثث الجنود في أرض المعركة.
6. العدد الكبير من الأسرى.
7. الخسائر الفادحة ووصول “إسرائيل” إلى حافة الهاوية لولا التدخل الأميركي. ومما يذكره أنه لم يتم حتى صدور كتابه (1975) إحصاء العدد الحقيقي للقتلى والجرحى على الجبهتين المصرية والسورية (ص 244)، كما كانت هناك خسائر كبيرة في أطقم الطائرات الحربية. (ص 301).
8. الصدمة الكبيرة، فقد كانت هذه هي الحرب الأولى إسرائيلياً التي يقوم فيها أطباء نفسانيون بمعالجة عدد كبير من الجنود المصابين بصدمة المعركة. (ص 181)
“إسرائيل” التي كانت.. لن تكون
لقد زعزعت حرب “يوم الغفران” “إسرائيل” من أساسها، فبدلاً من الثقة المفرطة، جاءت الشكوك. وقد برزت الشكوك بعد الحرب لدى الزعماء والقادة بشكل خاص، كما تزعزعت الثقة بالنفس.
بعد سنين من محافظة “الجيش” الإسرائيلي على تقليد عدم ترك جرحى في ساحة المعركة، ترك هذه المرة الجرحى في أرض “العدو”، كما تركت دبابات مع أطقمها. وفي نهاية المعركة، كان هناك المئات من أسماء الجنود في قائمة المفقودين.
وأظهرت حرب “يوم الغفران” نكسة أخرى، فقد كشفت الزعامة الإسرائيلية بكامل تقصيرها، ولم يكن هناك من يتحدث إلى الشعب في أحلك ساعاته. ووقع العبء الرئيسي في إدارة الحرب على جدة تبلغ السادسة والسبعين من عمرها.
وبعد الحرب، حاول وزير الدفاع نفي الروايات عن انهياره خلال المعارك، ولكن تبين أن “دايان حرب يوم الغفران” ليس دايان الذي كان في حرب الأيام الستة.
هل أصاب الفساد “الجيش” الإسرائيلي أيضاً؟ لقد تكونت على مر السنين خرافة تقول: “إن الجيش الإسرائيلي شيء آخر”، وإن ما يجري في الجمهور لا يحدث في “الجيش” الإسرائيلي.
إن الوهن الفكري وتدهور القيم الأخلاقية اللذين برزا في المجتمع المدني لم يسلم منهما “الجيش” الإسرائيلي. لقد لمس تصلب الشرايين في مجالات كثيرة، منها إعداد “الجيش” الإسرائيلي للحرب، والإعداد ليس مجرد شراء أسلحة.
سيرياهوم نيوز1-الميادين