بلال اللقيس
بين من يرى عملية «طوفان الأقصى» خطوة كبرى على طريق التحرير، وبين من يراها خطوة كبرى متصلة بالتحرير الشامل، يبدو أنّ الرأي الثاني مرجّح، فإنّ نتائج هذه العملية فاقت أي تصوّر وأثبتت من جديد أنّ غرب آسيا لا يمكن السكون فيها إذا لم يكن مستنداً إلى ما يكفي من معاني العدالة والحرية. لقد ثبت أنّ كل ما تعيشه «إسرائيل» وتتصوّره أميركا عن المنطقة أشبه بفقاعات أمنية واقتصادية واجتماعية ووهم لا حقائق متينة. فهذه المنطقة تحمل أخطر الصراعات الحضارية والثقافية والفكرية على وجه المعمورة، ما يجعلها دوماً صعبة التنبؤ والتوقّع ويخرجها من حسابات التكميم إلى التكييف، وهنا التحدّي في المقاربة والفهم والتوقّع. لم تفشل أجهزة الإنذار الإسرائيلية، فقط، بل أيضاً أجهزة الاستشعار الأميركية، فشلت في التنبؤ أو التلميح لإمكانية حصول هذا الزلزال، فالعبث الاستراتيجي صار سمة ملازمة للسياسة الأميركية، وحتّى الأمس كانت الولايات المتحدة تتصور وتعمل على إنجاز استقرار نسبي مستدام في غرب آسيا باعتباره ضرورة لها اليوم.
لم تكشف هذه العملية مسار تطور طبقات ومراحل الصراع مع العدو الصهيوني وتدرّجها، فحسب، بل كشفت فرصاً فعلية لانتقال المقاومة إلى المبادرة والمهاجمة وفاعلية ذلك وجدوائيته. وكشفت، بالتبع، هشاشة البنية المؤسسية وتضعضع الثقة فيها، وتلاشيها، وبرّزت معطى جديداً بالغ الأهمية يرتبط بتراجع «قدرة الإبداع» العسكري والسياسي والاستراتيجي عند الكيان الصهيوني والغرب، إن لم نقل انعدامه. بينما لوحظ تسيّد الإبداع عند قوى المقاومة والمحور من غزة إلى طهران في مختلف الملفات الصراعية والتنافسية القائمة. وتبيّن أنّ لامركزية القرار في محور المقاومة نقطة قوّة تربك الأعداء.
لقد كشفت «طوفان الأقصى» أنّ «إسرائيل» لم تعد كياناً آمناً، لا في أمنه الجاري ولا النفسي ولا الاجتماعي، وليس آمناً لجهة أمنه الاستراتيجي وكفاءته في تلبية توقعات ساكنيه من شتات اليهود الصهاينة، فكيف سيكون آمناً في الجانب الاقتصادي والاستثماري. وكشفت أنّ الضمير الإنساني لا يزال حيّاً، فمستوى التأييد العالمي لفلسطين وغزّة كان بمثابة طوفان اكتسح العواصم، بينما وقفت الأنظمة الغربيّة في تحدٍّ سافر مع الضمير العالمي الإنساني، ووجدت نفسها في تحدٍّ فظ لخطابها وادعائها الديموقراطية الشعبية التي عبّرت عن نفسها بشجاعة وقوّة في العالم. وكشفت العملية عمق الفرز الذي ضرب كل مؤسسات العالم، وأبرزت ضعف ومحدودية قدرة «إسرائيل» وأميركا على التأثير على غير الدول الغربيّة التقليدية في مفارقة مع العقود الماضية؛ فكثير من دول العالم صارت تعترض رغبات وإرادة «إسرائيل» علناً وتتحدّاها وهذا تطور كبير وهائل.
وكشفت حجم انشغال وتخبّط أميركا وتشتّتها في عالم متحوّل، برغم ادعاء نظامها القدرة على خوض صراعات على مختلف الجبهات. والأهمّ أنّه ثبت أنّ أميركا غير جاهزة للدفاع عن أحد دفاعاً فعّالاً طالما لم تجد مصلحة فعلية لها؛ فأيّ من حلفائها أو أدواتها في المنطقة لا يرقى إلى تقديم تضحيات كبيرة من أجله، اللهم إلا أن تقدّم له مالاً وتقنيات وسلاحاً. لكن «طوفان الأقصى» لا يمكن مواجهتها بمزيد من السلاح الذي تدفّق إلى مطارات إسرائيل من الغرب، إنّها تعبير عن حقيقة تاريخية وإنسانية لا تملك أميركا بعقلها الأدائي إجابة لها – إنّها معركة اللاتكافؤ في القوة، والتفوّق بالإرادة والحق للمقاومين.
وبعد «طوفان الأقصى» لم يعد الكيان قادراً على الاستمرار ولم يعد رعاته قادرين على تبنّيه كذلك، وخصوصاً مع التوقّعات القاتمة التي ستفرزها الانتخابات في الغرب، ولن تعود الأنظمة في الغرب قادرة على كسب أي من حروبها، لا في المنطقة ولا في العالم. العجز يسري في كل ميادين صراعاتهم.
غداً تهدأ حدّة الحرب، ولا يجد أيٌّ من الغرب وحكومة نتنياهو من شيء يقدّمونه للإسرائيليين لطمأنتهم واستعادة ثقتهم بحكومتهم ودولتهم. وغداً تبدأ المحاكمات تعصف بالكيان، وترامي المسؤوليات وكرة اللهب، وتتفجّر التناقضات داخل الكيان وتزداد تشرذماً. وستدّعي أميركا رغبتها في العودة إلى حل الدولتين لتنفيس الاحتقان وتطويق انتصار المقاومة وترميم حال الكيان، لكنّ أحداً لم يعد يثق بأميركا ولم يعد يقبل باحتكارها «رعايتها» للقضية الفلسطينية. فأيّ مبادرة لصيغة سياسية جديدة لا يمكن أن تحوز نجاحاً نسبياً برعاية غربية، ما يعني أنّ أي استقرار سيفرض دخول لاعبين دوليين وإقليميين منافسين لأميركا كضامنين للتسوية: يعني تعددية إقليمية كمقدمة لتعددية دولية. وإذا لم تعترف أميركا بهذه الحقيقة الجديدة وتتنكّر لها مجدداً، فإنّ أي محاولة لن تكون أكثر من تهدئة مؤقتة لن يكتب لها الاستمرار. فالبيئتان الإقليمية والدولية هشتّان وغير مستقرتين، وشعوب العالم في انفصام متزايد عن أنظمتها، و«إسرائيل» دخلت فعلياً حالة اللااستقرار الشامل والمتعدّد الأوجه، ما سيجعل أي تفاهم أو اتفاق قشرياً يصعب ويستحيل استمراره، والكلام يسري على الشعب الفلسطيني الذي لم يعد لديه ما يخسره، بينما هناك الكثير مما يمكن أن يربحه.
هذا الحدث، بآثاره وتداعياته المباشرة والبعيدة، سيكون متصلاً بشكل عميق بمعركة التحرير الكبرى، وستبقى المنطقة على صفيح ساخن ومتفجّر في غياب نقطة توازن مقبولة ومرضية للأطراف
لذلك، يبدو للمتابع أنّ هذه الحرب، حتّى لو توقّفت بعنوان هدنة يُعمل على إطالتها، وخصوصاً مع فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أيٍّ من أهدافه، إلّا قتل الأبرياء، لعجزه، إلا أنها لن تتوقّف كموضوع وأسباب، ولن يجد أيٌّ من الأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة على هوية فلسطين الصيغة السياسية الملائمة لتثبيت الاستقرار وتقعيده وحمايته. اقتراح حل الدولتين لم يعد ملائماً لأيٍّ من الطرفين كصيغة، وخصوصاً أنّه سيشكّل صاعقاً تفجيرياً للكيان وقواه وانتصاراً كبيراً للمقاومة التي ستعتبر أنّها فرضت على «إسرائيل» إرادتها، وهذا سيحفّز جبهة المقاومة لاستكمال طريق التحرير الكامل من البحر إلى النهر.
لذلك، نظنّ أنّ هذا الحدث، بآثاره وتداعياته المباشرة والبعيدة، سيكون متصلاً بشكل عميق بمعركة التحرير الكبرى، وستبقى المنطقة على صفيح ساخن ومتفجّر في غياب نقطة توازن مقبولة ومرضية للأطراف المختلفة التي تعاني هي أصلاً من عدم انتظام واتزان في صناعة القرار وأخذه. فكيف بنا إذا أوصلت الانتخابات الأميركية إلى البيت الأبيض رئيساً شعبوياً بحسابات غامضة كترامب؟ حينئذ سنكون أمام منطقة أشبه بفيلم أميركي يصعب التنبؤ بمساراتها ويحكمها الغموض والمفاجآت. وأولى المفاجآت ربّما تكون تهاوي أنظمة عربية وإقليمية افتقدت الملاءة السياسية حيال القضايا المحورية لشعوبها والتعاطي معها، وفي مقدّم القضايا «دماء أهل غزّة».
إنّ الحضارة الغربيّة التي قامت على العنف والقوّة والبطش وإرغام الشعوب قبل أيّ أمر آخر، وإنّ النظام الدولي الذي نشأ منذ مطلع القرن الماضي، فمنتصفه ونهايته (التسعينيات) على المقاربة الأمنية أولاً، لا يمكن أن يتغيّر إلا بالمقاربة الأمنية، وتُعدّ ساحة فلسطين أهمّ تمثّلاتها وما حدث في «طوفان الأقصى» أحد ذرى حلقاتها. كذلك تعتبر خطوط الصدع والصراع القائمة اليوم في شرق أوروبا – روسيا في قبالة «الناتو» – تحدّياً أمنياً ثانياً للنظام الدولي الذي لا يبدو أنّ الغرب سيخرج رابحاً فيه إن لم نقل سيخسره.
كل يوم ،ومن بوابة فلسطين ومحور المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني وبطولاته، نسير بسرعة إلى عالم جديد مختلف. إنّ القائل بفلسطين من البحر إلى النهر، أو القائل بوجود وبقاء «إسرائيل»، هو في جوهره ترميز لأيّ التفسيرين للحياة سيظهر وينتصر؛ فالكلمتان تعبّران عن وجهين متناقضين من أوجه الحياة ومعناها ولا أقلّ من ذلك البتّة.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية