ألكسندر نازاروف
قال الرئيس المصري وملك الأردن قبل أيام إن طرد الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية سيكون بمثابة إعلان حرب. أنا على يقين بأن إخلاء مؤقتا للفلسطينيين على الأقل سيحدث. فهل ستنشب الحرب؟
ولعل أهم ما حدث في 7 أكتوبر الماضي بفلسطين هو فقدان سياسيي المنطقة القدرة على التأثير في مجرى الأحداث. ومن تلك اللحظة فصاعدا تتطور الأحداث وفق القوانين الجيوسياسية، ليصبح أقصى ما يتمكن السياسي أن يفعله هو أن يخطو خطوة واحدة إلى اليسار أو إلى اليمين داخل الممر الذي يرسمه منطق الأحداث.
هل تعقد روسيا سلاما مع الغرب وتترك الفلسطينيين و”حزب الله” وإيران يقاتلون وحدهم؟
ومن المستحيل إنكار أنه قبل الإنذار الروسي للولايات المتحدة وحلف “الناتو” في ديسمبر 2021، كانت موسكو تحاول التوافق مع النظام العالمي الأمريكي مع احترام مجموعة معينة من المصالح الروسية، وكان هذا هو المسار العام للنخبة الروسية الحاكمة، والذي بدا أنه لا يوجد بديل له.
أعتقد أنه بناء على نتائج الأشهر الأولى من الحرب، كان لدى كثير من الناس انطباع بأن العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا نفسها كانت تعتبر حجة أقوى في المساومة مع الغرب أكثر من كونها حربا طويلة المدى واسعة النطاق، أو ربما خطوة نحو صراع عالمي.
الآن، نرى مدى سرعة سير عملية تأميم الطبقة الحاكمة في روسيا، نفس الأوليغارشيين وممثلي النخبة الروسية الذين يكرهون روسيا، وخدموا الغرب أثناء وجودهم في أعلى المناصب في البلاد، يضطرون الآن إما إلى المغادرة إلى إسرائيل أو الرضوخ صاغرين لخدمة مصالح روسيا. وبرغم رغبتهم في صنع السلام مع الغرب، إلا أن منطق الأحداث لا يسمح لهم بذلك.
في الوقت نفسه، عادت السياسة الخارجية الروسية، تحت ضربات الغرب، وضد رغبات النخبة الروسية، إلى المنطق الذي أنشأ روسيا العظمى من مجرد إمارة موسكو، ألا وهو التوسع من خلال تحييد التهديدات الوجودية على حدودها. وهذا المنطق، يفرض على روسيا، في السراء والضراء، توسعا لا نهاية له (بالقدر الذي تسمح به قوتها) وفي الاتجاه الذي يأتي منه التهديد. أي أنه من الممكن الافتراض أنه على الرغم من الشعارات حول إعادة توجيه روسيا من أوروبا إلى آسيا، إلا أن روسيا سوف تتقدم نحو أوروبا، لأن التهديد يأتي من أوروبا، لهذا ستستمر روسيا استراتيجيا في التحرك نحو الغرب، ولكن الآن ليس بالطريقة التي يريدها الغرب.
في المقابل، نشأت في الغرب، وبسرعة كبيرة، من مكان ما في أعماق اللاوعي، موجة هائلة من كراهية مخفية سابقا لروسيا، ما أدى إلى استبعاد دوستويفسكي وتولستوي، وتطهير برامج الجامعات الغربية من الأدب الروسي العظيم، وحظر الفنانين والمؤلفين الموسيقيين الروس، وهو ما يتعارض مع حقوق الملكية الخاصة “المقدسة” لدى الغرب، فيما تمت مصادرة رؤوس أموال رجال الأعمال الروس، وحتى سيارات المواطنين الروس العاديين الذين لم يحالفهم الحظ ببقائهم في هذه اللحظات بأوروبا. فقدت روسيا والثقافة الروسية والشعب الروسي في أذهان الغرب حقهم في الوجود، في غضون شهرين فقط، على الرغم من أن السبب في ذلك هو الأفعال التي يرتكبها الغرب نفسه بانتظام وبيسر كبير. وصل الغرب على الفور إلى الحد الأقصى الممكن لما كان يمثل لعدة قرون جوهر وجوده: “الهجوم على الشرق” والتوسع الاستعماري من خلال الإبادة الجماعية لأعدائه.
باختصار، تبخرت في غضون أشهر قليلة الطبقات التي نشأت خلال العقود القليلة الماضية، وسيطرت الدوافع الجيوسياسية التي حددت مسار التاريخ على مدار السبعمئة عام الماضية أو أكثر، بدءا من الحملات الصليبية.
في إسرائيل وفلسطين ودول أخرى في المنطقة نرى نفس الشيء. فالزعماء من الجانبين، أو بالأحرى من كل الأطراف الكثيرة، الذين كانوا في السابق مدفوعين بمصالح مالية أو تجارية، والذين عملوا في السنوات الأخيرة بمنطق المال والصفقات، بمنطق الاتفاقات الإبراهيمية، تحولوا فجأة إلى لغة الصراع من أجل الوجود، لغة الحرب والتطهير العرقي. وأصبحت مجتمعات الأطراف المتحاربة متطرفة على الفور، وتوحدت في مواقف متطرفة. فضلا عن ذلك، فإن الصراع في الشرق الأوسط يكتسب، على نحو متزايد، وسيستمر في اكتساب طابع صراع الأديان والحضارات، حيث لا أهمية هناك للدوافع العقلانية.
في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار وجود اتجاه معاكس. على سبيل المثال، تواصل روسيا توريد المواد الخام والطاقة إلى أوروبا، بما في ذلك عبر الأراضي الأوكرانية، في حين تستمر روسيا في دفع مقابل العبور لكييف. السلوك عملي للغاية، عكس كل العواطف والأفكار العامة حول الأخلاق. وحزب الله كذلك ليس في عجلة من أمره للتدخل بشكل كامل في حرب غزة.. فهل يمكن الحديث إذن عن فقدان السياسيين السيطرة؟
من الممكن نعم. فتلك أشياء صغيرة لا تغيّر الاتجاه العام للوضع. فالمسار الاستراتيجي للبشرية جمعاء يمر بالأزمة الاقتصادية العالمية، وهي الأزمة الأكبر منذ عدة قرون، وربما حتى منذ ألف عام. فالوضع في كل بلدان العالم تقريبا يتأرجح على حافة الانهيار، ولا أحد يدري في أي من البلدان سيعطي الانهيار إشارة البدء لسلسلة من ردود الفعل التي ستؤثر على العالم أجمع. إلا أن هذا يمكن أن يحدث في أي وقت، وعلى أي حال سيحدث قريبا نسبيا، في السنوات القليلة المقبلة.
سوف ينخفض الاقتصاد بشكل كبير، وستزداد البطالة بعدة أضعاف، وفي بعض البلدان بأضعاف مضاعفة. وسينخفض مستوى المعيشة بشكل كبير، وسيشعر الناس بالصدمة والرعب، وسيرتفع ألم وغضب الناس العاديين إلى عنان السماء.
سوف تختفي بعض الدوافع العقلانية ليس فقط من سلوكيات الشوارع، بل وأيضا من تصرفات السياسيين. سيخرج الناس إلى الشوارع ويطالبون بالأشياء الأساسية: العدل والحقيقة والمسؤولية والوفاء بالوعود والأخلاق والمبادئ. ولن يهم حينئذ واقعية أو جدوى مطالب الشارع، المهم هو أن العواطف والمشاعر والإيمان هي ما سيحكم السياسة.
لا أعرف ما الذي سيصبح أهم وأعمق شعور في أوروبا أو في روسيا، لكن في الدول العربية سيكون الدين، الإسلام. لهذا، وفي رأيي المتواضع، لن يكون هناك مفر من أسلمة السياسة وحرب دينية مع إسرائيل بمشاركة معظم دول المنطقة (وبالدرجة الأولى الجيران). لكن هذا لا ينفي بالمناسبة إمكانية (أو حتمية) تورط المنطقة في الصراع بين الولايات المتحدة والصين.
فما الذي يجب على القادة العرب أن يفعلوه في هذا الوضع؟ في رأيي، يتعيّن النظر على ما يقوم به الثعلب الخبيث رجب طيب أردوغان. وكما يقول المثل: إذا لم تتمكن من منع شيء، عليك بقيادته. قبل أن يفوت الأوان.
إلا أن تلك نصيحة عقلانية وعملية، تتنافى وروح وجوهر هذا المقال. وإذا أردنا أن نكون متسقين، فعلينا القول إن الحكام العرب لن يفلتوا بتصنّع القتال من أجل الإيمان والعدالة، بل سيتعين عليهم القتال من أجل الإيمان والعدالة. ولن أكتب عن البدائل، فقد أصبحت واضحة وجلية للعيان.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم